المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ (1) لَقَدْ دَارَتْ رَحَى الحَرْبِ فِيْهَا بَيْنَ عَليٍّ رضي - تسديد الإصابة فيما شجر بين الصحابة

[ذياب الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌أقْوَالٌ مَأثُوْرَةٌ

- ‌تقريظ

- ‌البَابُ الأوَّل

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُالتَّعْرِيْفُ بالتَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيأهَمِيَّةُ التَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُخُطُوْرَةُ الكَلامِ في التَّارِيْخِ دُوْنَ عِلْمٍ

- ‌البَابُ الثَّاني

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُمَوْضُوْعُ الفِتْنَةِ، وَمَوْقِعَةُ (الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ)

- ‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ

- ‌خُلاصَةُما جَاءَ في مَوْقِعَةِ الجَمَلِ

- ‌مَوْقِعَةُ صِفِّيْنَ

- ‌تَحْقِيْقُ قِصَّةِ الحَكَمَيْنِ رضي الله عنهما

- ‌سَبَبُ القِتَالِ بَيْنَ عَلِيٍّ ومُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما

- ‌خُلاصَةُ ما جَاءَ في صِفِّيْنَ

- ‌الفَصْلُ الثَّاني عَدَدُ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ حَضَرُوا الفِتْنَةَ

- ‌البابُ الثَّالِثُمُجْمَلُ ما دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وذَلِكَ في ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ

- ‌الأمْرُ الأوَّلُ: تَحْدِيْدُ بِدَايَةِ التَّشَاجُرِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الأمْرُ الثَّاني: الدَّافِعُ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابةَ رضي الله عنهم على التَّشَاجُرِ بَيْنَهُم

- ‌الأمْرُ الثَّالِثُ: وُجُوْبُ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ الرَّابِعُ

- ‌الفَصْلُ الأَوَلُفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌مَا وَقَعَ بَينَ الصَّحَابَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهالنُّصُوصُ الشَّرْعَيَّةُ

- ‌أقْوَالُ النَّاسِ فِيْمَا وَقَعَ في صِفِّيْنَ

- ‌أيُّهُمَا أوْلَى بالحَقِّ عَلِيٌّ أمْ مُعَاوِيَةُ

- ‌الفَصْلُ الثَّانيوُجُوْبُ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُوُجُوْبُ الدُّعَاءِ والاسْتِغْفَارِ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُحُكْمُ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم

- ‌أقْوَالُ أهْلِ العِلْمِ في حُكْمِ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ

- ‌حُكْمُ منْ سَبَّ أزْوَاجَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المَطْلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها

- ‌المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ مَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُفَضَائِلُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه

- ‌الشُّبهُ الَّتِي قِيْلَتْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، والرَّدُّ عَلَيْهَا

- ‌البَابُ الخَامِسُ أقْوَالُ السَّلَفِ في وُجُوبِ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ السَّادِسُ الآثَارُ السِّلْبِيَّةُ مِنْ نَشْرِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ

- ‌البَابُ السَّابِعُ الإِيْرَادَاتُ

- ‌الإِيْرَادُ الأَوَّلُ:

- ‌الإيْرَادُ الثَّانِي:

- ‌البَابُ الثَّامِنُ خُلاصَةُ البَحْثِ

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌ ‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ (1) لَقَدْ دَارَتْ رَحَى الحَرْبِ فِيْهَا بَيْنَ عَليٍّ رضي

‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ

(1)

لَقَدْ دَارَتْ رَحَى الحَرْبِ فِيْهَا بَيْنَ عَليٍّ رضي الله عنه وَمَنْ مَعَهُ، وبَيْنَ أمِّ المُؤْمِنِيْنَ عائِشَةَ وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ رضي الله عنهم وَمَنْ مَعَهُم، وكَانَتْ سَنَةَ (36).

لمَّا وقَعَ قَتْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه بَعْدَ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ سَنَةَ (35) كَانَ أزْوَاجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّهَاتُ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ خَرَجْنَ إلى الحَجِّ في هذا العَامِ فِرَارًا مِنَ الفِتْنَةِ، فلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ أنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ أقَمْنَ بِمَكَّةَ، وقَدْ تَجَمَّعَ بِمَكَّةَ خَلْقٌ كَثِيْرٌ وجَمٌّ غَفِيْرٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُم طَلْحَةُ والزُّبِيْرُ حَيْثُ اسْتَأذَنَا عَلِيًّا في الاعْتِمَارِ فأذِنَ لَهُمَا، فَخَرَجَا إلى مَكَّةَ وتَبِعَهُمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ.

* * *

وكَذا قَدِمَ إلى مَكَّةَ ابنُ عُمَرَ، ومِنَ اليَمَنِ يَعْلَى ابنُ أُميَّةَ عَامِلُ عُثْمَانَ عَلَيْهَا، وعَبْدُ اللهِ بنُ عَامِرٍ عَامِلُهُ على البَصْرَةِ، ولَم

(1) انْظُرْ وَقْعَةَ الجَمَلِ «تَارِيْخَ خَلِيْفَةَ» (181)، و «تَارِيْخَ الطَّبَرِيِّ» (4/ 456)، و «البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 230)، و «تَارِيْخَ ابنِ خُلْدُوْنٍ» (2/ 153).

ص: 39

يَزَلِ النَّاسُ حِيْنَذَاكَ يَفِدُوْنَ على مَكَّةَ، ولمَّا كَثُرُوا فيها قامَتْ فِيْهِم أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةُ رضي الله عنها، فَحَثَّتْهُم على القِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ، وذَكَرَتْ ما افْتَاتَ بِهِ أُولَئِكَ مِنْ قَتْلِهِ في بَلَدٍ حَرَامٍ وشَهْرٍ حَرَامٍ، ولَم يَرْقُبُوا جَوَارَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقَدْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وأخَذَوا الأمْوَالَ، فاسْتَجَابَ النَّاسُ لَهَا، وطَاوَعُوْهَا على مَا تَرَاهُ مِنَ الأمْرِ بالمَصْلَحَةِ، وقالُوا لها: حَيْثُمَا سِرْتِ سِرْنا مَعَكِ، وبَعْدَ أنْ تَعَدَّدَتْ آرَاؤُهُم في تَحْدِيْدِ الجِهَةِ الَّتي يَسِيْرُوْنَ إليْهَا أجْمَعُوا على الذَّهَابِ إلى البَصْرَةِ، فلَمَّا أتَوْا البَصْرَةَ مَنَعَهُم مِنْ دُخُوْلِهَا عُثْمَانُ بْنُ حَنِيْفٍ عَامِلُ عَليٍّ عَلَيْهَا حِيْنَذَاكَ، وجَرَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَهُم مُرَاسَلَةٌ ومُحَاوَرَةٌ.

* * *

ثمَّ ما لَبِثُوا أن اصْطَلَحُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلى أنْ يَقْدِمَ عَليٌّ رضي الله عنه؛ لأنَّهُ بَلَغَهُم أنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِم

فأخَذَ عَلِيٌّ رضي الله عنه في الاتِّجَاهِ بَعْدَهُم في جَمْعٍ كَبِيْرٍ قَاصِدًا الشَّامَ، وهو يَرْجُو أنْ يُدْرِكَهُم قَبْلَ وُصُولِهِم إلى البَصْرَةِ، فلَمَّا عَلِمَ أنَّهُم قَدْ فَاتُوْهُ، اسْتَمَرَّ في طَرِيقِهِ إلَيْهِم قَاصِدًا البَصْرَةَ مِنْ أرْضِ العِرَاقِ (1).

(1)«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 455)، و «الكَامِلُ» لابنِ الأثِيْرِ (3/ 221 - 222)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 255).

ص: 40

كَمَا اسْتَنْفَرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أهْلَ الكُوْفَةِ لِيَلْحَقُوا بِهِ، وقَدْ اسْتَجَابَ لِلْنَّفِيْرِ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ وعلى رأسِهِم الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ

وقَدِمُوا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهُم بِذِي قَارٍ (1) إلى أثْنَاءِ الطَّرِيْقِ في جَمَاعَةٍ، مِنْهُم ابْنُ عَبَاسٍ فَرَحَّبَ بِهِم.

وقال: يا أهْلَ الكُوْفَةِ أنْتُمْ لَقِيْتُمْ مُلُوْكَ العَجَمِ وفَضَضْتُمْ جُمُوْعَهُم، وقَدْ دَعَوْتُكُمْ لِتَشْهَدُوا مَعَنا إخْوَانَنَا مِنْ أهْلِ البَصْرَةِ.

فإنْ يَرْجِعُوا فَذَاكَ الَّذِي نُرِيْدُهُ، وإنْ أبَوْا دَاوَيْنَاهُم بالرِّفْقِ حتى يَبْدَؤُنَا بالظُّلْمِ، ولَنْ نَدَعَ أمرًا فيه صَلاحٌ إلَاّ آثَرْنَاهُ عَلَى ما فِيْهِ الفَسَادُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى (2).

وفي هذا تَوْضِيْحٌ لِمَقْصَدِ أمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وأنَّ مَقْصَدَهُ الأوَّلَ والأخِيْرَ: هو طَلَبُ الإصْلاحِ، وأنَّ القِتَالَ كَانَ غَيْرَ مُحَبَّبٍ إلِيْهِ، لا سِيَّمَا مَعَ إخْوَانِهِ البَرَرَةِ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهَكَذا كَان مَقْصَدُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ مِنْ

(1) ذُو قَارٍ: مَاءٌ لبكْرِ بنِ وَائِلٍ، قَرِيْبٌ مِنَ الكُوْفَةِ بَيْنَها وبَيْنَ وَاسِطٍ

وفِيْهِ كَانَتْ الوَقْعَةُ المَشْهُوْرَةُ بَيْنَ بَكْرِ بنِ وَائِلٍ، والفُرْسِ «مُعْجَمُ البُلْدَانِ» لياقُوْتَ الحَمَوِيِّ (4/ 293).

(2)

«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 477 - 478)، و «الكَامِلُ» لابنِ الأثِيْرِ (3/ 227 - 232)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 257 - 258).

ص: 41

خُرُوْجِهِم مِنْ مَكَّةَ إلى البَصْرَةِ مِنْ أرْضِ العِرَاقِ: هو الْتِمَاسَ الإصْلاحِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ بِأمْرٍ يَرْتَضِيْهِ طَرَفَا النِّزَاعِ، ويُحْسَمُ بِهِ الاخْتِلافُ، وتَجْتَمِعُ بِهِ كَلِمَةُ المُسْلِمِيْنَ، ولَمْ يَخْرُجُوا مُقَاتِلِيْنَ ولا دَاعِيْنَ لأحَدٍ مِنْهُم لِيُوَلُّوْهُ الخِلافَةَ، وهذا ما قَرَّرَهُ العُلَمَاءُ مِن أهْلِ السُّنَّةِ.

* * *

قَالَ ابنُ حَزْمٍ رحمه الله: «وأمَّا أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ والزُّبَيْرُ وطَلْحَةُ رضي الله عنهم، ومَنْ مَعَهُم فَمَا أبْطَلُوا قَطُّ إمَامَةَ عَلِيٍّ، ولا طَعَنُوا فِيْهَا، ولا ذَكَرُوْا فِيْهِ جَرْحَةً تَحُطُّهُ عَنِ الإمَامَةِ، ولا أحْدَثُوا إمَامَةً أُخْرَى، ولا حَدَّدُوا بَيْعَةً لِغَيْرِهِ هذا ما لا يَقْدِرُ أنْ يَدَّعِيْهِ أحَدٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ.

بَلْ يَقْطَعُ كُلُّ ذِي عِلْمٍ على أنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، إذْ لا شَكَّ في كُلِّ هذا فَقَدْ صَحَّ صِحَّةً ضَرُوْرِيَةً لا إشْكَالَ فِيْهَا أنَّهُم لَمْ يَمْضُوا إلى البَصْرَةِ لِحَرْبِ عَلِيٍّ، ولا خِلافًا عَلَيْهِ، ولا نَقْضًا لِبَيْعَتِهِ، ولَوْ أرَادُوا ذَلِكَ لأحْدَثُوا بَيْعَةً غَيْرَ بَيْعَتِهِ، هذا ممَّا لا يَشُكُّ فِيْهِ أحَدٌ، ولا يُنْكِرُه أحَدٌ.

فَصَحَّ أنَّهُم إنَّمَا نَهَضُوا إلى البَصْرَةِ لِسَدِّ الفَتْقِ الحَادِثِ في الإسْلامِ مِنْ قَتْلِ أمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُثْمَانَ رضي الله عنه ظُلْمًا، وبُرْهَانُ ذَلِكَ أنَّهُم اجْتَمَعُوا ولَمْ يَقْتَتِلُوا ولا تَحَارَبُوا!، فَلَمَّا كان اللَّيْلُ عَرَفَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ أنَّ الإرَاغَةَ (أي: الطَّلَبَ)، والتَّدْبِيْرَ عَلَيْهِم فَبَيَّتُوا عَسْكَرَ طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ، وبَذَلُوا السَّيْفَ فِيْهِم فَدَفَعَ القَوْمُ عَنْ أنْفُسِهِمُ في دَعْوَى حَتَّى خَالَطُوا

ص: 42

عَسْكَرَ عَلِيٍّ فَدَفَعَ أهْلُهُ عَنْ أنْفُسِهِم، وكُلُّ طَائِفَةٍ تَظُنُّ ولا شَكَّ أنَّ الأخْرَى بُدِئَ بِهَا بالقِتَالِ، واخْتَلَطَ الأمْرُ اخْتِلاطًا لَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ عَلى أكْثَرِ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، والفَسَقَةُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ لا يَفْتَرُونَ مِنْ شَنِّ الحَرْبِ وإضْرَامِهِ، فَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيْبَةٌ في غَرَضِهَا ومَقْصَدِها مُدَافِعَةٌ عَنْ نَفْسِها» (1).

* * *

وكَذا يُقرِّرُ هذا المَقْصَدَ الَّذِي لأجْلِهِ خَرَجَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ مَكَّةَ إلى البَصْرَةِ أبُو بَكْرٍ ابنُ العَرَبِيِّ رحمه الله بقَوْلِهِ: «ويُمْكِنُ أنَّهُم خَرَجُوا في جَمْعِ طَوَائِفِ المُسْلِمِيْنَ، وضَمِّ نَشْرِهِم، ورَدِّهِم إلى قانُوْنٍ واحِدٍ حَتَّى لا يَضْطَرِبُوا فَيَقْتَتِلُوا، وهذا هو الصَّحِيْحُ لاشَيْءَ سِوَاهُ» (2).

وهَذَا ما يُؤَكِّدُهُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله أنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا خَرَجَتْ إلَاّ لِلإصْلاحِ: «ويَدُلُّ لِذَلِكَ أنَّ أحَدًا لَمْ يَنْقُلْ أنَّ عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا نَازَعُوا عَلِيًّا في الخِلافَةِ، ولا دَعُوا إلى أحَدٍ مِنْهُم لِيُوَلُّوْهُ الخِلافَةَ» (3).

(1)«الفِصَلُ في المِلَلِ والأهْوَاءِ والنِّحَلِ» لابنِ حَزْمٍ (4/ 158).

(2)

«العَوَاصِمُ مِنَ القَوَاصِمِ» لابنِ العَرَبِيِّ (151).

(3)

«فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ (13/ 56).

ص: 43

وكَذا قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله: «وبَلَغَ الخَبَرُ (مَقْتَلُ عُثْمَانَ) عَائِشَةَ، وهي حَاجَّةٌ ومَعَهَا طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ، فَخَرَجُوا إلى البَصْرَةِ يُرِيْدُوْنَ الإصْلاحَ بَيْنَ النَّاسِ، واجْتِمَاعَ الكَلِمَةِ» (1).

* * *

فأهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ مُجْمِعُوْنَ على أنَّ أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها ما قَصَدَتْ بِخُرُوْجِهَا إلى البَصْرَةِ إلَاّ الإصْلاحَ بَيْنَ بَنِيْهَا مِنَ المُسْلِمِيْنَ (2)، وَبِهَذا ورَدَتْ أخْبَارٌ مِنْهَا:

«أنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا نَزَلَ بِذِي قَارٍ دَعَا القَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، فأرْسَلَهُ إلى أهْلِ البَصْرَةِ، وقَال لَهُ: الْقِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ (طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ) يا ابْنَ الحنْظَليَّةِ فادْعُهُمَا إلى الأُلْفَةِ والجَمَاعَةِ، وعَظِّمَ الفُرْقَةَ .. فَخَرَجَ القَعْقَاعُ حَتى قَدِمَ البَصْرَةَ فَبَدَأ بِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وقَالَ: أيْ أُمَّه ما أشْخَصَكِ وما أقْدَمَكِ هَذِهِ البَلْدَةَ؟

ص: 44

قَالَتْ: أيْ بُنَيَّ إصْلاحٌ بَيْنَ النَّاسِ، قال: فابْعَثِيْ إلى طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ حتى تَسْمَعِي كلامِيْ وكلامَهُمَا، فَبَعَثَتْ إليْهِمَا فَجَاءا فقال: إنِّي سَألْتُ أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ ما أشْخَصَها وأقْدَمَها هَذِه البِلادَ؟

فقَالَتْ: إصْلاحٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا تَقُولانِ أنْتُمَا؟ أمُتَابِعَانِ أم مُخَالِفَانِ؟

قَالا: مُتَابِعَانِ، قال: فأخْبِرَاني ما وَجُهْ هذا الإصْلاحِ؟ فَوَاللهِ لَئِنْ عَرَفْنَاهُ لَنُصْلِحَنَّ، ولإنْ أنْكَرْنَاهُ لا نُصْلِحُ.

قالا: قَتَلَةُ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فإنَّ هذا إنْ تُرِكَ كان تَرْكًا للقُرْآنِ» (1).

* * *

فلمَّا رَجَعَ القَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو إلى عَلِيٍّ رضي الله عنه أخْبَرَهُ أنَّ أصْحَابَ الجَمَلِ اسْتَجَابُوا إلى ما بَعَثَهُ بِهِ إلَيْهِم ـ فأذْعَنَ عَلِيٌّ لِذَلِكَ وبَعَثَ إلى طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ يَقُوْلُ: «إنْ كُنْتُمْ عَلَى ما فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ القَعْقَاعَ ابْنَ عَمْرٍو فَكُفُّوا حتَّى نَنْزِلَ فَنَنْظُرَ في هذا الأمْرِ، فأرْسَلا إلَيْهِ: إنَّا على ما فارَقْنَا عَلَيْهِ القَعْقَاعَ بنَ عَمْرٍو مِنْ الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ» (2).

(1)«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 448)، و «الكَامِلُ» لابنِ الأثِيْرِ (3/ 233)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 259).

(2)

انْظُرْ «البِدَايَة والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 261).

ص: 45

فَفِي هَذِه الأخْبَارِ دَلِيْلٌ واضِحٌ على أنَّ أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها ومَنْ مَعَهَا لَم يَقْصِدُوا بِخُرُوجِهِم تَفْرِيْقًا بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ مُبْغِضُوا الصَّحَابَةِ مِنَ الرَّافِضَةِ، وإنَّمَا الغَرَضُ الَّذِي كانُوا يُرِيْدُوْنَهُ: هو الإصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ!

* * *

كَمَا أنَّ الَّذِيْنَ طَلَبُوْا الخُرُوْجَ مِنْ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ، وهم طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ ومَنْ مَعَهُمَا أنَّهُم كَانُوا يُعَلِّقُوْنَ آمالاً على خُرُوجِهَا في حَسْمِ الاخْتِلافِ، وجَمْعِ الكَلِمَةِ، ولَم يَخْطُرْ على بالِهِم قَتْلُ أحَدٍ؛ لأنَّهُم مَا أرَادُوا إلَاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَاعُوا!

وعَلَى هَذَا يَقُوْلُ أبُوْ بَكْرٍ ابْنُ العَرَبِيِّ: «فَخَرَجَ طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ وعَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ رضي الله عنهم رَجَاءَ أنْ يَرْجِعَ النَّاسُ إلى أُمِّهِم، فَيُرَاعُوا حُرْمَةَ نَبِيِّهِم، واحْتَجُّوا عَلَيْهَا عِنْدَما حَاوَلَتْ الامْتِنَاعَ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، ثُمَّ قَالُوْا لَهَا: إنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ

ص: 46

في الصُّلْحِ وأرْسَلَ فِيْهِ، فَرَجَتِ المَثُوْبَةَ واغْتَنَمَتِ الفُرْصَةَ، وخَرَجَتْ حَتَّى بَلَغَتْ الأُقْضِيَةُ مَقَادِيْرَها» (1).

* * *

وكَذا قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «فإنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُقَاتِلْ، ولَمْ تَخْرُجْ لِقِتَالٍ، وإنَّمَا خَرَجَتْ بِقَصْدِ الإصْلاحِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ

لا قَاتَلَتْ، ولا أمَرَتْ بِقِتَالٍ هَكَذا ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أهْلِ المَعْرِفَةِ بالأخْبَارِ» (2).

* * *

وقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله مُبَيِّنًا القَصْدَ الَّذي خَرَجَتْ مِنْ أجْلِهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها هي ومَنْ مَعَهَا بِقَوْلِهِ: «والعُذْرُ في ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أنَّهَا كَانَتْ مُتَأوِّلَةً هي وطَلْحَةُ والزُّبَيْرُ، وكان مُرَادُهُم إيْقَاعَ الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وأخْذَ القَصَاصِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنهم أجْمَعِيْنَ، وكَان رَأْيُ عَلِيٍّ: الاجْتِمَاعَ عَلَى الطَّاعَةِ، وطَلَبَ أولِيَاءِ المَقْتُولِ القَصَاصَ ممَّنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ القَتْلُ بِشُرُوطِهِ» (3).

* * *

(1)«العَوَاصِمُ من القَوَاصِمِ» لابنِ العَرَبِيِّ (152).

(2)

«مِنْهَاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (2/ 185).

(3)

«فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ (7/ 108).

ص: 47

فَلا مَقْصَدَ إذَنْ مِنْ خُرُوْجِ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها هي ومَنْ مَعَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ مَكَّةَ إلى البَصْرَةِ: إلَاّ بُغْيَةَ الإصْلاحِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، ولم تَخْرُجْ لِقِتَالٍ، ولا أمَرَتْ بِهِ.

ثُمَّ إنَّ إرَادَةَ الصُّلْحِ لم يَكُنْ مِنْ جَانِبِ عَائِشَةَ رضي الله عنها هِيَ ومَنْ مَعَهَا فَحَسْبُ؛ بَلْ كَانَ أيْضًا إرَادَةَ عَلِيٍّ رضي الله عنه ومَنْ مَعَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعَنَا قَرِيْبًا أنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه عِنْدَما بَعَثَ إلى طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ يَقُوْلُ:«إنْ كُنْتُمْ عَلَى ما فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ القَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فَكُفُّوا حَتى نَنْزِلَ فَنَنْظُرَ في هذا الأمْرِ، فأرْسَلا إلَيْهِ: إنَّا على ما فَارَقَنَا عَلَيْهِ القَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ» (1).

ولمَّا كَانَ جَوَابُهُم عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه بِهَذا «اطْمَأنَّتِ النُّفُوْسُ وسَكَنَتْ

واجْتَمَعَ كُلُّ فَرِيْقٍ بأصْحَابِهِ مِنَ الجَيْشَيْنِ فَلَمَّا أمْسَوْا بَعَثَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ إلَيْهِم، وبَعَثُوا إلَيْهِ مُحَمَّدَ بنَ طَلْحَةَ السَّجَّادَ وعَوَّلُوا جَمِيْعًا على الصُّلْحِ وبَاتُوا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ لم يَبِيْتُوا بِمِثْلِهَا لِلعَافِيَةِ» (2).

* * *

(1) انْظُرْ «البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 261).

(2)

انظر «تَارِيْخَ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 5 - 6)، و «الكَامِلَ» لابنِ الأثِيْرِ (3/ 242)، و «البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 261).

ص: 48

«ولمَّا أرْسَلَتْ أمُّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةُ رضي الله عنها إلى عَلِيٍّ رضي الله عنه تُعْلِمُهُ أنَّهَا إنَّمَا جَاءتْ لِلْصُّلْحِ فَرِحَ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ لاتِّفَاقِهِم على رِأْيٍ واحِدٍ:

وهو الصُّلْحُ، ولمَّا رَجَعَ القَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ عِنْدِ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ بِمِثْلِ رَأْيِهِم» جَمَعَ عَلِيٌّ النَّاسَ ثمَّ قَام خَطِيْبًا فِيْهِم:

فَحَمِدَ اللهَ عز وجل وأثْنَى عَلَيْهِ وصَلَّى عَلَى النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم وذَكَرَ الجَاهِلِيَّةَ وشَقَاءهَا، والإسْلامَ والسَّعَادَةَ وإنْعَامَ اللهِ على الأمَّةِ بالجَمَاعَةِ بالخَلِيْفَةِ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ الَّذِي يَلِيْهِ، ثمَّ حَدَثَ هذا الحَدَثُ الَّذي جَرَّهُ على هَذِهِ الأمَّةِ أقْوَامٌ طَلَبُوا هذه الدُّنْيَا، حَسَدُوا مَنْ أفَاءهَا اللهُ عَلَيْهِ عَلَى الفَضِيْلَةِ، وأرَادُوا رَدَّ الأشْيَاءِ على أدْبَارِهَا، واللهُ بالِغٌ أمْرَهُ، ومُصِيْبٌ ما أرَادَ؛ ألا وإنِّي رَاحِلٌ غَدًا فارْتَحِلُوا، ألا ولا يَرْتَحِلَنَّ مَعِيَ أحَدٌ أعَانَ على قَتْلِ عُثْمَانَ في شَيْءٍ مِنْ أُمُوْرِ النَّاسِ» (1).

* * *

وهَكَذا بَاتَ الصُّلْحُ بَيْنَ الفَرِيْقَيْنِ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، وذَلِكَ في وُجُوْبِ إقَامَةِ الحَدِّ، وتَنْفِيْذِ القَصَاصِ في قَتَلَةِ عُثْمَانَ، ولم يَخْطُرِ القِتَالُ عَلَى بَالِ

(1)«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 493)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 260).

ص: 49

أحَدٍ مِنْهُم، ولَكِنَّ المُفْسِدِيْنَ في الأرْضِ الَّذِيْنَ قَتَلُوا عُثْمَانَ رضي الله عنه أصَابَهُم الغَمُّ وأدْرَكَهُم الحَزَنُ مِنِ اتِّفَاقِ الكَلِمَةِ، وجَمْعِ الشَّمْلِ، وأيْقَنُوا أنَّ الصُّلحَ هذا سَيَكْشِفَ أمْرَهُم، وسَيُسَلِّمَ رُؤوسَهُم إلى سَيْفِ الحَقِّ، وقَصَاصِ الخَلِيْفَةِ، فَبَاتُوا يُدبِّرُوْنَ أمْرَهُم بِلَيْلٍ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيْلاً لِنَجَاتِهِم إلَاّ بِأنْ يَعْمَلُوا علَى إبْطَالِ الصُّلْحِ، وتَفْرِيْقِ صُفُوْفِ المُسْلِمِيْنَ!

كَمَا قَضَّ مَضَجَعَهم قُوْلُ عَليٍّ رضي الله عنه في خُطْبتِه الَّتِي ذَكَرْناها آنِفًا: «ألا وإنِّي رَاحِلٌ غَدًا فارْتَحِلُوا، ألا ولا يَرْتَحِلَنَّ مَعِي أحَدٌ أعَانَ على قَتْلِ عُثْمَانَ في شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ» .

* * *

«فلَمَّا قال هذا اجْتَمَعَ مِنْ رُؤُوْسِهِم جَمَاعَةٌ: كالأشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وشُرَيْحِ بنِ أوْفَى، وعَبْدِ اللهِ بنِ سَبَأ (المَعْرُوْفُ بابْنِ السَّوْدَاءِ)، وسَالمِ بنِ ثَعَلَبَةَ، وعَلْيَاءَ بنِ الهَيْثَمِ وغَيْرِهِم في ألْفَيْنِ وخَمْسُمَائَةٍ، ولَيْسَ فِيْهِم صَحَابيٌّ (وللهِ الحَمْدُ) فَقَالُوا: ما هذا الرَأيُ؟ وعَلِيٌّ واللهِ أعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ ممَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وأقْرَبُ إلى العَمَلِ بِذَلِكَ، وقدْ قَالَ مَا

ص: 50

سَمِعْتُمْ، غَدًا يَجْمَعُ عَلَيْكُمُ النَّاسَ، وإنَّمَا يُرِيْدُ القَوْمُ كُلُّهُم: أنْتُمْ فَكَيْفَ بِكُمْ وعَدَدُكُمْ قَلِيْلٌ في كَثْرَتِهِم؟

فَقَالَ الأشْتَرُ: قَدْ عَرَفْنَا رَأْيَ طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ فِيْنَا، وأمَّا رَأْيُ عَلِيٍّ فَلَمْ نَعْرِفْهُ إلى اليَوْمِ؛ فإنْ كان اصْطَلَحَ مَعَهُم فإنِّمَا اصْطَلَحُوا عَلَى دِمَائِنَا، فإنْ كَانَ الأمْرُ هَكَذا ألْحَقْنَا عَلِيًّا بِعُثْمَانَ، فَرَضِيَ القَوْمُ مِنَّا بالسُّكُوْتِ.

فَقَالَ ابنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ ما رَأَيْتَ لَوْ قَتَلْنَاهُم قُتِلْنَا، فإنَّا يامَعْشَرَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ في ألْفَيْنِ وخَمْسُمَائَةٍ، وطَلْحَةُ والزُّبَيْرُ وأصْحَابُهُمَا في خَمْسَةِ آلافٍ، لا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِم، وهُم إنَّمَا يُرِيْدُونَكُمْ!

فَقَالَ عَلْيَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: دَعُوْهُم وأرْجِعُوا بِنَا حَتَّى نَتَعَلَّقَ بِبَعْضِ البِلادِ فنَمْتَنِعَ بِهَا، فَقَالَ: ابنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ ما قُلْتَ، إذًا واللهِ كَان يَخْطَفُكُمُ النَّاسُ، ثمَّ قال ابنُ السَّوْدَاءِ: يا قَوْمُ إنَّ عِزَّكُم في خَلْطَةِ النَّاسِ، فإذا الْتَقَى النَّاسُ فأنْشِبُوا الحَرْبَ والقِتَالَ بَيْنَ النَّاسِ، ولا تَدَعُوْهُم يَجْتَمِعُوْنَ، فَمَنْ أنتم مَعَهُ لا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أن يَمْتَنِعَ، ويَشْغُلَ اللهُ

ص: 51

طَلْحَةَ والزَّبَيْرَ ومَنْ مَعَهُمَا عَمَّا يُحِبُّوْنَ، ويأتِيْهِم ما يَكْرَهُوْنَ، فأبْصَرُوا الرَأْيَ وتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ» (1).

* * *

فاجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الرَأْي الَّذي تَفَوَّهَ بِهِ الخَبِيْثُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ اليَهُوْدِيُّ، «فَغَدَوْا مَعَ الغَلَسِ وما يَشْعُرُ بِهِم جِيْرَانُهُم، فَخَرَجُوا مُتَسَلِّلِيْنَ وعَلَيْهِم ظُلْمَةٌ، فَخَرَجَ مَضَرِيُّهُم إلى مَضَرِيِّهِم، ورَبِيْعُهُم إلى رَبِيْعِهِم، ويَمَانِيُّهُم إلى يَمَانِيِّهِم، فَوَضَعُوا فِيْهِمُ السِّلاحَ بَغْتَةً، فثَارَ أهْلُ البَصْرَةِ، وثَارَ كُلُّ قَوْمٍ في وُجُوْهِ أصْحَابِهِم الَّذِيْنَ أتَوْهُم، وبَلَغَ طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ ما وَقَعَ مِنَ الاعْتِدَاءِ عَلَى أهْلِ البَصْرَةِ، فَقَالا: ما هذا؟ قالُوا: طَرَقَنَا أهْلُ الكُوْفَةِ لَيْلاً، وفي نَفْسِ الوَقْتِ حَسَبَ خِطَّةِ أُوْلَئِكَ المُفْسِدِيْنَ ذَهَبَتْ مِنْهُم فِرْقَةٌ أُخْرَى في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَفَاجَأَتْ مُعَسْكَرَ عَلِيٍّ بِوَضْعِ السَّيْفِ فِيْهِم، وَقَدْ وَضَعَتِ السَّبئِيَّةُ رَجُلاً قَرِيْبًا مِنْ عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ بِمَا يُرِيْدُوْنَ فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ الصَّوْتَ عِنْدَمَا هَجَمُوا عَلى مُعَسْكَرِهِ

(1)«البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 260).

ص: 52

قال: ما هذا؟

قال ذَلِكَ الرَّجُلُ: ما شَعَرْنا إلَاّ وَقَوْمٌ مِنْ أهْلِ البَصْرَةِ قَدْ بَيَّتُوْنا» (1).

فَثَارَ كُلُّ فَرِيْقٍ إلى سِلاحِهِ، ولَبِسُوا اللأْمَةَ ورَكِبُوا الخُيُوْلَ، ولا يَشْعُرُ أحَدٌ مِنْهُم بِمَا وَقَعَ الأمْرُ عَلَيْهِ في نَفْسِ الأمْرِ، وكانَ أمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُوْرًا، وَقَامَتِ الحَرْبُ على قَدَمٍ وسَاقٍ، وتَبَارَزَ الفُرْسَانُ، وجَالَتِ الشُّجْعَانُ، فَنَشِبَتِ الحَرْبُ وتَوَافَقَ الفَرِيْقَانِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ عَلِيٍّ عُشْرُونَ ألْفًا، والْتَفَّ على عَائِشَةَ ومَنْ مَعَهَا نَحْوٌ مِنْ ثَلاثِيْنَ ألْفًا، فإنَّا للهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، والسَبَئَيَّةُ أصْحَابُ ابْنِ السَّوْدَاءِ (قَبَّحَهُ اللهُ) لا يَفْتَرُوْنَ عَنِ القَتْلِ، ومُنَادِي عليٍّ يُنَادِي: ألا كُفُّوا، ألا كُفُّوا، فلا يَسْمَعُ أحَدٌ (2)، فاشْتدَّتِ المَعْرَكَةُ وحَمِيَ الوَطِيْسُ، «وقَدْ كَان مِنْ سُنَّتِهِم في هذا اليَوْمِ أنَّهُ لا يُذَفَّفُ (لا يُجْهَزُ عَلَيْهِ) على جَرِيْحٍ، ولا يُتَّبَعُ مُدْبِرٌ، وقَدْ قُتِلَ من هذا خَلْقٌ كَثِيْرٌ جِدًّا» (3) حَتَّى حَزِنَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أشَدَّ

(1)«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 506 - 507)، و «الكَامِلُ» لابنِ الأثِيْرِ (3/ 242)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 261 - 262) و «فتْحُ البارِي» لابنِ حَجَرٍ (13/ 56).

(2)

«البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 262).

(3)

السَّابِقُ.

ص: 53

الحُزْنِ، وجَعَلَ يَقُوْلُ لابْنِهِ الحَسَنِ: يا بُنَيَّ لَيْتَ أبَاكَ ماتَ مُنْذُ عِشْرِيْنَ سَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ: يا أبَه، قَدْ كُنْتُ أنْهَاكَ عَنْ هَذَا، قال: يا بُنَيَّ إنِّي لَم أرَى أنَّ الأمْرَ يَبْلُغُ هذا!» (1).

* * *

ثمَّ نَزَلَ بِنَفْسِهِ إلى مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ لإنْهَاءِ القِتَالِ، «وطَلَبَ طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ لِيُكَلِّمَهُمَا فاجْتَمَعُوا حَتى الْتَقَتْ أعْنَاقُ خُيُولِهِمَا، فَذَكَّرَهُمَا بِمَا ذَكَّرَهُمَا بِهِ فانْتَهَى الأمْرُ بِرُجُوْعِ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الجَمَلِ، وفي أثْنَاءِ رُجُوْعِهِ رضي الله عنه، نَزَلَ وادِيًا يُقَالُ لَهُ: وادِي السِّبَاعِ، فاتَّبَعَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ جُرْمُوْزٍ، فَجَاءهُ وهو نَائِمٌ فَقَتَلَهُ غِيْلَةً» (2).

وأمَّا طَلْحَةُ رضي الله عنه فإنَّهُ بَعْدَ «أنِ اجْتَمَعَ بِهِ عَلِيٌّ فَوَعَظَهُ تأخَّرَ فَوَقَفَ في بَعْضِ الصُّفُوْفِ فَجَاءهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَوَقَعَ في رُكْبَتِهِ (وَقِيْلَ في رَقَبَتِهِ والأوَّلُ أشْهَرُ)، فانْتَظَمَ السَّهْمُ رِجْلَه مَعَ فَرَسِهِ فَجَمَحَتْ بِهِ الفَرَسُ، وجَعَلَ يَقُوْلُ: إليَّ عِبَادَ اللهِ، إليَّ عِبَادَ اللهِ، فأدْرَكَهُ مَوْلىً لَهُ

(1)«البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 262).

(2)

«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 535)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 264)، و «الرِّياضُ النَّضِرَةُ في مَنَاقِبِ العَشَرَةِ» للمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ (4/ 288).

ص: 54

فَرِكَبَ ورَاءهُ فأدْخَلَهُ البَصْرَةَ، فَمَاتَ بِدَارٍ فيها، ويُقَالُ: إنَّه مَاتَ بالمَعْرَكَةِ» (1).

وأمَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه «أقَامَ بِظَاهِرَةِ البَصْرَةِ ثلاثًا، ثمَّ صَلَّى عَلَى القَتْلَى مِنَ الفَرِيْقَيْنِ

ثمَّ جَمَعَ ما وَجَدَ لأصْحَابِ عَائِشَةَ في المُعَسْكَرِ، وأمَرَ بِهِ أنْ يُحْمَلَ إلى مَسْجِدِ البَصْرَةِ؛ فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ لأهْلِهِم فلْيَأخُذَهُ، إلَاّ سِلاحًا كَانَ في الخَزَائِنِ عَلَيْهِ سِمَةُ السُّلْطَانِ» (2).

* * *

«ولمَّا أرَادَتْ أمُّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةُ الخُرُوْجَ مِنَ البَصْرَةِ بَعَثَ إلَيْهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه بِكُلِّ ما يَنْبَغِي مِنْ مَرْكَبٍ وَزَادٍ ومَتَاعٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وأذِنَ لِمَنْ نَجَا ممَّنْ جَاءَ في الجَيْشِ مَعَهَا أنْ يَرْجِعَ إلَاّ أنْ يُحِبَّ المُقَامَ، واخْتَارَ لَهَا أرْبَعِيْنَ امْرَأةً مِنْ نِسَاءِ أهْلِ البَصْرَةِ المَعْرُوْفَاتِ، وسَيَّرَ مَعَهَا أخَاهَا مُحَمَّدَ بْنَ أبي بَكْرٍ، فَلَمَّا كان اليَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ فِيْهِ، جَاءَ عَلِيٌّ

(1)«البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 264،270)، و «الرِّياضُ النَّضِرَةُ في مَنَاقِبِ العَشَرَةِ» للمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ (4/ 266).

(2)

«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (4/ 538)، و «البِدَايَةُ والنِّهايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 267).

ص: 55

فَوَقَفَ على البَابِ، وحَضَرَ النَّاسُ وخَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ (1) في الهَوْدَجِ فَوَدَّعَتِ النَّاسَ، ودَعَتْ لَهُم، وقَالَتْ: يابَنِيَّ لا يَعْتَبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ إنَّهُ واللهِ ما كانَ بَيْنِي وبَيْنَ عَلِيٍّ في القَدِيْمِ إلَاّ ما يَكُوْنُ بَيْنَ المَرْأةِ وأحْمَائِهَا.

فَقَال عَلِيٌّ: صَدَقَتْ واللهِ ما كان بَيْنِي وبَيْنَهَا إلَاّ ذَاكَ، وإنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وسَارَ عَلِيٌّ مَعَهَا مُوَدِّعًا ومُشَيِّعًا أمْيَالاً، وسَرَّحَ بَنِيْهِ مَعَهَا بَقِيَّةَ ذَلِكَ اليَوْمِ، وكان يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثِيْنَ، وقَصَدَتْ في مَسِيْرِهَا ذَلِكَ إلى مَكَّةَ، فأقَامَتْ بِهَا إلى أنْ حَجَّتْ عامَهَا ذَلِكَ ثمَّ رَجَعَتْ إلى المَدِيْنَةِ رضي الله عنها» (2).

* * *

وممَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِشَأنِ مَوْقِعَةِ الجَمَلِ تَبَيَّنَ أنَّ القِتَالَ وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيْمَا بَيْنَهُم كان بِدُوْنِ قَصْدٍ مِنْهُم ولا اخْتِيَارٍ، وأنَّ حَقِيْقَةَ المُؤَامَرَةِ الَّتي قَامَ بِهَا قَتَلَةُ عُثْمَانَ خَفِيَتْ على كِلا الفَرِيْقَيْنِ حتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمَا أنَّ الفَرِيْقَ الآخَرَ قَصَدَهُ بالقِتَالِ.

(1) هي دَارُ عَبْدِ اللهِ بنِ خَلَفٍ الخُزَاعِيِّ، وهي أعْظَمُ دَارٍ كانَتْ في البَصْرَةِ، انْظُرْ «تارِيْخَ الطَّبَرِيِّ» (4/ 539)، و «البِدَايةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 267).

(2)

«البِدَايَةُ والنِّهَايَةُ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/ 268 - 269).

ص: 56

وقَدْ وَضَّحَ حَقِيْقَةَ هَذِهِ المُؤَامَرَةِ العَلَاّمَةُ ابْنُ حَزْمٍ، وشَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللهُ، وغَيْرُهُمَا مِنَ المُحَقِّقِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ.

* * *

قَالَ أبُوْ مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ رحمه الله: «وأمَّا أهْلُ الجَمَلَ فَمَا قَصَدُوا قَطُّ قِتَالَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، ولا قَصَدَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللهِ علَيْهِ قِتَالَهُم، وإنَّمَا اجْتَمَعُوا بالبَصْرَةِ لِلنَّظَرِ في قَتَلَةِ عُثْمَانَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، وإقَامَةِ حَقِّ اللهِ تعَالى فِيْهِم.

وتَسَرَّعَ الخَائِفُوْنَ عَلَى أنفُسِهِم أخْذُ حَدِّ اللهِ تَعَالى مِنْهُم، وكَانُوْا أعْدَادًا عَظِيْمَةً يَقْرُبُوْنَ مِنَ الأُلُوْفِ، فأثَارُوا القِتَالَ خِفْيَةً حتَّى اضْطَرَّ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ إلى الدِّفَاعِ عَنْ أنْفُسِهِم إذْ رَأوْا السَّيْفَ قَدْ خَالَطَهُم» (1).

* * *

وقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: «لَم يَكُنْ يَوْمَ الجَمَلِ لِهَؤلاءِ (الصَّحَابَةِ) قَصْدٌ في القِتَالِ، ولَكِنْ وَقَعَ الاقْتِتَالُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِم، فإنَّهُ لمَّا تَرَاسَلَ عَلِيٌّ وطَلْحَةُ والزُّبَيْرُ وقَصَدُوا الاتِّفَاقَ على المَصْلَحَةِ، وأنَّهُم إذَا تَمَكَّنُوا طَلَبُوا قتَلَةَ عُثْمَانَ أهْلَ الفِتْنَةِ، وكان عَلِيٌّ غَيِرَ رَاضٍ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، ولا مُعِيْنَ عَلَيْهِ كَمَا كاَنَ يَحْلِفُ، فَيَقُوْلُ: «واللهُ ما

ص: 57

قَتَلْتُ عُثْمَانَ، ولا مَالأْتُ على قَتْلِهِ» (1)، وهو الصَّادِقُ البَارُّ في يَمِيْنِهِ، فَخَشِيَ القَتَلَةُ أنْ يَتَّفِقَ عَلِيٌّ مَعَهُم عَلَى إمْسَاكِ القَتَلَةِ، فَحَمَلُوا دَفْعًا عَنْ أنْفُسِهِم فَظَنَّ عَلِيٌّ أنَّهُم حَمَلُوا عَلَيْهِ، فَحَمَلَ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَوَقَعَتِ الفِتْنَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِم» (2).

فَهَكَذا سَعَى قَتَلَةُ عُثْمَانَ رضي الله عنه بإذْكَاءِ نَارِ الفِتْنَةِ، وأشْعَلُوا القِتَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ ومَنْ مَعَهُ، وبَيْنَ عَائِشَةَ وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ ومَنْ مَعَهُم، دُوْنَ أنْ يَفْطَنَ لِذَلِكَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وأَرْضَاهُم.

(1) انظر «المُصَنَّفَ» لابنِ أبي شَيْبَةَ (15/ 208 - 209)، و «المُصَنَّفَ» لعَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (11/ 450)، و «المُسْتَدْرَكَ» للحَاكِمِ (3/ 95).

(2)

«مِنْهَاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (2/ 185).

ص: 58