المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإيْرَادُ الثَّانِي: لَعَلَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: إنَّنَا نَجِدُ كَثِيْرًا مِنْ كُتُبِ التَّارِيْخِ - تسديد الإصابة فيما شجر بين الصحابة

[ذياب الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌أقْوَالٌ مَأثُوْرَةٌ

- ‌تقريظ

- ‌البَابُ الأوَّل

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُالتَّعْرِيْفُ بالتَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيأهَمِيَّةُ التَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُخُطُوْرَةُ الكَلامِ في التَّارِيْخِ دُوْنَ عِلْمٍ

- ‌البَابُ الثَّاني

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُمَوْضُوْعُ الفِتْنَةِ، وَمَوْقِعَةُ (الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ)

- ‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ

- ‌خُلاصَةُما جَاءَ في مَوْقِعَةِ الجَمَلِ

- ‌مَوْقِعَةُ صِفِّيْنَ

- ‌تَحْقِيْقُ قِصَّةِ الحَكَمَيْنِ رضي الله عنهما

- ‌سَبَبُ القِتَالِ بَيْنَ عَلِيٍّ ومُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما

- ‌خُلاصَةُ ما جَاءَ في صِفِّيْنَ

- ‌الفَصْلُ الثَّاني عَدَدُ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ حَضَرُوا الفِتْنَةَ

- ‌البابُ الثَّالِثُمُجْمَلُ ما دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وذَلِكَ في ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ

- ‌الأمْرُ الأوَّلُ: تَحْدِيْدُ بِدَايَةِ التَّشَاجُرِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الأمْرُ الثَّاني: الدَّافِعُ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابةَ رضي الله عنهم على التَّشَاجُرِ بَيْنَهُم

- ‌الأمْرُ الثَّالِثُ: وُجُوْبُ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ الرَّابِعُ

- ‌الفَصْلُ الأَوَلُفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌مَا وَقَعَ بَينَ الصَّحَابَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهالنُّصُوصُ الشَّرْعَيَّةُ

- ‌أقْوَالُ النَّاسِ فِيْمَا وَقَعَ في صِفِّيْنَ

- ‌أيُّهُمَا أوْلَى بالحَقِّ عَلِيٌّ أمْ مُعَاوِيَةُ

- ‌الفَصْلُ الثَّانيوُجُوْبُ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُوُجُوْبُ الدُّعَاءِ والاسْتِغْفَارِ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُحُكْمُ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم

- ‌أقْوَالُ أهْلِ العِلْمِ في حُكْمِ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ

- ‌حُكْمُ منْ سَبَّ أزْوَاجَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المَطْلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها

- ‌المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ مَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُفَضَائِلُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه

- ‌الشُّبهُ الَّتِي قِيْلَتْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، والرَّدُّ عَلَيْهَا

- ‌البَابُ الخَامِسُ أقْوَالُ السَّلَفِ في وُجُوبِ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ السَّادِسُ الآثَارُ السِّلْبِيَّةُ مِنْ نَشْرِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ

- ‌البَابُ السَّابِعُ الإِيْرَادَاتُ

- ‌الإِيْرَادُ الأَوَّلُ:

- ‌الإيْرَادُ الثَّانِي:

- ‌البَابُ الثَّامِنُ خُلاصَةُ البَحْثِ

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌ ‌الإيْرَادُ الثَّانِي: لَعَلَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: إنَّنَا نَجِدُ كَثِيْرًا مِنْ كُتُبِ التَّارِيْخِ

‌الإيْرَادُ الثَّانِي:

لَعَلَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: إنَّنَا نَجِدُ كَثِيْرًا مِنْ كُتُبِ التَّارِيْخِ المَشْهُورَةِ المرْضِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ المُسْلِمْيِنَ قَدْ ذَكَرَتْ ما جَرَى، وحَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِكُلِّ تَفْصِيْلٍ وتَحْلِيْلٍ، فَلَنَا فِيْهِم أُسْوَةٌ حَسَنةٌ فَيَسَعُنا ما يَسَعُهُم؟!

أقُوْلُ: إنَّ هَذَا القَوْلَ حَقٌّ لا شَكَّ فِيْهِ، فَقَدْ ذَكَرَتْ كُتُبُ التَّارِيْخِ بِعَامَّةٍ ما شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم، بَيْدَ أنَّها لَمْ تَذْكُرْ ذَلِكَ للاسْتِئْناسِ والتَّشَوُّفِ لأخْبَارِهِم والتَّفَكُّهِ بِحُرُوْبِهِم وقِتَالِهِم ونَحْوِ ذَلِكَ؛ فَحَاشَاهُم رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالى، فَهُم أبْعَدُ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ!

كَمَا لا نَنْسَ (أيْضاً) أنَّه كَمَا ثَبَتَ في كُتُبِهِم ما شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم؛ فَكَذَا قَدْ ثَبَتَ تَقْرِيرُهُم لِمُعْتَقَدِ السَّلَفِ عَنِ الكَفِّ وَالإمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم.

وهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُم مَحْضُ التَّنَاقُضِ كَمَا يَزْعُمُه مَنْ لَيْسَ لَهُ أدْنى عِلْمٍ بِحَالِهِم، فَهَؤُلاءِ الأئِمَّةُ قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وسَطَّرُوْهُ في كُتُبِهِم لأُمُوْرٍ مَهِمَّةٍ مِنْها:

الأمْرُ الأوَّلُ: إبْرَاءً للذِّمَّةِ، فَكَانَ مِنَ الأمَانَةِ العِلْمِيَّةِ أنْ يَذْكُرُوْا ذَلِكَ حِفْظًا لِلتَّارِيْخِ الإسْلامِيِّ مِنْ عَادِيَةِ المُحَرِّفِيْنَ أهْلِ البِدَعِ والأهْوَاءِ؛

ص: 186

كَيْ لا يَدْخُلُ فِيْهِ ما لَيْسَ مِنْهُ، أو إخْرَاجُ ما هُوَ مِنْهُ، لِذَا جَعَلُوا مِنْ أَنْفُسِهِم حُرَّاسًا على تَارِيْخِ الأُمَّةِ الإسْلَامِيَّةِ.

* * *

الأمْرُ الثَّانِي: كَانَ هَذَا مِنْهُم إتْمَامًا لِلتَّارِيْخِ الإِسْلامِيِّ، فَكَمَا بَدَءوا بِكَتْبِ أوَّلِهِ، فَكَذَا سَارُوا إلى آخِرِهِ دُوْنَ نَقْصٍ أو ثَلْبٍ؛ مِمَّا قَدْ يُجْعَلُ لِلطَّاعِنْيِنَ عَلَيْنَا سَبِيْلاً؛ لِذَا كَانَ في جَمْعِ ما وَرَدَ مِنْ رِوَاياتٍ وأخْبارٍ حَوْلَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم جُنَّةً يَتَصَدَّى بِهَا السَّلَفيُّ في وَجْهِ كُلِّ مُبْتَدِعٍ، وخَنْجَرًا في نَحْرِ كُلِّ ضَالٍّ، كَمَا يَقُولُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله:«لَكِنْ إذَا ظَهَرَ مُبْتَدِعٌ يَقْدحُ فِيْهُم (في الصَّحَابةِ) بِالبَاطِلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الذَّبِّ عَنْهُم، وذِكْرِ ما يُبْطِلُ حُجَّتَهُ بِعِلْمٍ وعَدْلٍ» (1).

فَهَذِه الأُمَمُ أجْمَعُ لا تَعْتَزُّ إلَاّ بِعِزِّ تَارِيْخِها، ولا تُذَلُّ إلَاّ بِضَيَاعِ تَارِيْخِها أو بَعْضِهِ؛ فَتَأمَّلْ يا رَعَاكَ اللهُ!

* * *

الأمْرُ الثَّالِثُ: كَذَلِكَ أرَادُوا مِنْ ذِكْرِ وحِفْظِ أخْبَارِهِم رضي الله عنهم العِبْرَةَ والعِظَةَ لِمَنْ بَعْدِهِم، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أبُو الفَرَجِ ابنِ

(1)«مِنْهَاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (6/ 254).

ص: 187

الجَوْزِيُّ رحمه الله بِقَوْلِهِ: «واعْلَمْ أنَّ في ذِكْرِ السِّيَرِ والتَّوَارِيْخِ فَوَائِدَ كَثِيْرَةً؛ أهَمُّهَا فَائِدَتَانِ:

أحَدُهُمَا: أنَّه إنْ ذُكِرَتْ سِيْرَةُ حَازِمٍ، ووُصِفَتْ عَاقِبَةُ حَالِهِ عَلِمْتَ حُسْنَ التَّدْبِيْرِ واسْتِعْمَالَ الحَزْمِ، وإنْ ذُكِرَتْ سِيْرَةُ مُفَرِّطٍ ووُصِفَتْ عَاقِبَتُهُ خِفْتَ مِنْ التَّفرِيْطِ

ويَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شَحْذَ صَوَارِمِ العُقُوْلِ، ويَكُونُ رَوْضَةً لِلْمُتَنَزِّهِ في المَنْقُوْلِ.

الثَّانِيَةُ: أنْ يَطَّلِعَ بِذَلِكَ على عَجَائِبِ الأُمُوْرِ، وتَقَلُّبَاتِ الزَّمَانِ، وتَصَارِيْفِ القَدَرِ، والنَّفْسُ تَجِدُ رَاحَةً بِسَمَاعِ الأخْبَارِ» (1).

وبِهَذَا نَعْلَمُ أنَّ بَعْضَ الأحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ قَدْ تَبيَّنَتْ مِنْ خِلالِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

أحْكَامُ قِتَالِ أهْلِ البَغْي كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ عَليٌّ رضي الله عنه مَعَ المُخَالِفِيْنَ، وهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ومُهِمٌّ؛ ولَوْلا ما حَصَلَ بَيْنَهُم مِنْ قِتَالٍ لمَا عُلِمَ ذَلِكَ، واللهُ أعْلَمُ (2).

* * *

(1)«المُنْتَظَمُ» لابنِ الجَوْزِيِّ (1/ 117).

(2)

انْظُرْ «مَجْمُوْعَ الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (4/ 434 وما بَعْدَها).

ص: 188

الأمْرُ الرَّابِعُ: كَذَلِكَ نَجِدُهُم لَمْ يَذْكُرُوا أخْبَارَ وحَوَادِثَ هَذَهِ الفِتْنَةِ سَرْدًا بِلا زِمامٍ أو خِطَامٍ؛ بَلْ أسْنَدُوْها إبْرَاءً لِلذِّمَّةِ، في حِيْنَ نَرَاهُم لَمْ يُغْفِلُوا هَذَا الجَانِبَ رَأسًا؛ بَلْ لَهُم عِنَايةٌ بنَقْدِ كَثِيْرٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ والأخْبَارِ مَعَ بَيَانِ صَحِيْحِها مِنْ سَقِيْمِها، وتَوْجِيْهِ ما أمْكَنَ تَوْجِيْهُهُ.

وهَذا ما قَرَّرَهُ ابنُ جَرِيْرٍ رحمه الله في مُقدِّمةِ كِتَابِه (تَارِيْخِ الأُمُمِ والمُلُوْكِ): «

فَمَا يَكُنْ في كَتابِي هَذَا مِنْ خَبَرٍ ذَكَرْنَاهُ عَنْ بَعْضِ المَاضِيْنَ مِمَّا يَسْتَنْكِرُهُ قَارِئُه، أو يَسْتَشْنِعُهُ سَامِعُهُ، مِنْ أجْلِ أنَّه لَمْ يَعْرِفْ لَهُ وَجْهًا في الصِّحَّةِ، ولا مَعْنىً في الحَقِيْقَةِ، فلْيَعْلَمْ أنَّه لَمْ يُؤتَ في ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، وإنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نَاقِلِيْهِ إلَيْنا، وأنَّا إنِّما أدَّيْنا ذَلِكَ على نَحْوِ ما أُدِّيَ إلَيْنا» (1).

* * *

الأمْرُ الخَامِسُ: كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُم مِنْ ذِكْرِ وكِتَابةِ ما شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم نَشْرَها وتَرْوِيْجَها بَيْنَ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ كَلَاّ (ما هَذَا أرَادُوهُ)؛ بَلْ غَايَةُ عِلْمِهِم أنَّ الَّذِي سَيَقِفُ

(1)«تَارِيْخُ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (1/ 8).

ص: 189

مُسْتَفِيْدًا مِنْ كُتُبِهِم هُمُ العُلَمَاءُ خَاصَّةً دُوْنَ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ كَمَا هُوَ مَألُوْفٌ لَدَى الجَمِيْعِ.

* * *

ومِنْ نَفَائِسِ الكَلامِ ودُرَرِهِ، مِمَّا هُوَ جَدِيرٌ بطَالِبِ العِلْمِ (في زَمَانِنِا!) أنْ يُنْعِمَ النَّظَرَ فِيْهِ؛ هُوَ ما قَالَهُ السُّبْكِيُّ رحمه الله (771) في كِتَابِه (طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ الكُبْرَى):«لا يَزَالُ طَالِبُ العِلْمِ عِنْدِي نَبِيْلاً حَتَّى يَخُوضَ فِيْمَا جَرَى بَيْنَ السَّلَفِ المَاضِيْنَ، ويَقْضِي لِبَعْضِهِم على بَعْضٍ» (1).

* * *

وبَعْدَ هَذَا: هَاكَ أخِي المُسْلمُ الكرِيْمُ ما قَالَهُ الإمَامُ المُحَدِّثُ أبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ رحمه الله (360) كَيْ تَقَرَّ عَيْنُكَ، ويَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ لِمَا سَطَّرنا لَكَ آنِفًا حَيْثُ نَرَاهُ يَرُدُّ على بَعْضِ الاعْتِرَاضَاتِ وَالإيْرَادَاتِ نَحْوِ ما شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم:

قَالَ رحمه الله بِاخْتِصَارٍ: يَنْبَغِي لِمَنْ تَدَبَّرَ ما رَسَمْنَا مِنْ فَضَائِلِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم، وفَضَائِلِ أهْلِ بَيْتِهِ رَضِيَ اللهُ

(1)«الطَّبقَاتُ الكُبْرَى» للسُّبْكِيِّ (2/ 22).

ص: 190

عَنْهُم أجْمَعَيِنَ أنْ يُحِبَّهُم، ويتَرَحَّمَ عَلَيْهِم، ويَسْتَغْفِرَ لَهُم، ويُثْنيَ عَلَيْهِم ويَشْكُرَ اللهَ العَظِيْمَ إذْ وَفَّقَهُ لِهَذَا، ولا يَذْكُرُ ما شَجَرَ بَيْنَهُم، ولا يُنَقِّرُ عَنْهُم، ولا يَبْحَثُ.

فإذَا عَارَضَنا جَاهِلٌ مَفْتُوْنٌ قَدْ خُطِيَ بِهِ عَنْ طَرِيْقِ الرَّشَادِ، فَقَالَ: لِمَ قَاتَلَ فُلانٌ لفُلانٍ؟ ولِمَ قَتَلَ فُلانٌ لفُلانٍ وفُلانٍ؟!

قِيْلَ لَهُ: ما بِنَا وبِكَ إلى ذِكْرِ هَذا حَاجَةٌ تَنْفَعُنَا، ولا اضْطَرَرْنا إلى عِلْمِها.

فإنْ قَالَ قَائِلٌ: ولِمَ؟

قِيْلَ: لأنَّها فِتَنٌ شَاهَدَها الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، فكَانُوا فِيْها على حَسَبِ ما أرَاهُمُ العِلْمُ بِها، وكانُوا أعْلَمَ بتَأْوِيْلِها مِنْ غَيْرِهِم، وكانُوا أهْدَى سَبِيْلاً مِمَّنَ جَاءَ بَعْدَهُم.

لأنَّهُم أهْلُ الجَنَّةِ، عَلَيْهِمُ نَزَلَ القُرْآنُ، وشَاهَدُوْا الرَّسُوْلَ صلى الله عليه وسلم، وجَاهَدُوا مَعَهُ، وشَهِدَ اللهُ لَهُم عز وجل بالرِّضْوَانِ، والمَغْفِرَةِ، والأجْرِ العَظِيْمِ، وشَهِدَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُم خَيْرُ قَرْنٍ.

فكَانُوْا باللهِ عز وجل أعْرَفَ، وبرسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وبالقُرْآنِ وبالسُّنَّةِ، ومِنْهُم يُؤْخَذُ العِلْمُ، وفي قَوْلِهِم نَعِيْشُ، وبأحْكامِهِم نَحْكُمُ، وبأدَبِهِم نَتَأدَّبُ، ولَهُم نَتَّبِعُ، وبِهَذَا أُمِرْنا.

ص: 191

فإنْ قَالَ قَائِلٌ: وأَيْشٍ الَّذِي يَضُرُّنا مِنْ مَعْرِفَتِنا لِمَا جَرَى بَيْنَهُم، والبَحْثِ عَنْهُ؟

قِيْلَ لَهُ: لاشَكَّ فِيْهِ، وذَلِكَ أنَّ عُقُوْلَ القَوْمِ كَانَتْ أكْبَرَ مِنْ عُقُوْلِنا، وعُقُولُنا أنْقَصُ بكَثِيْرٍ، ولا نَأمَنُ أنْ نَبْحَثَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، فَنَزِلُّ عَنْ طَرِيْقِ الحَقِّ، ونَتَخَلَّفُ عَمَّا أُمِرْنا فِيْهِم.

فإنْ قَالَ قَائِلٌ: وبِمَ أُمِرْنا فِيْهِم؟

قِيْلَ: أُمِرْنا بالاسْتِغْفَارِ لَهُم، والتَّرَحُّمِ عَلَيْهِم، والمَحَبَّةِ لَهُم، والاتِّباعِ لَهُم

إلخ.

فإنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّما مُرَادِي مِنْ ذَلِكَ لأنْ أكُوْنَ عَالِمًا بِمَا جَرَى بَيْنَهُم فأكُوْنُ لَمْ يَذْهَبْ عَلَيَّ ما كَانُوا فِيْهِ لأنِّي أُحِبُّ ذَلِكَ ولا أجْهَلُهُ.

قِيْلَ لَهُ: أنْتَ طَالِبُ فِتْنَةٍ؛ لأنَّكَ تَبْحَثُ عَمَّا يَضُرُّكَ ولا يَنْفَعُكَ، ولَوْ اشْتَغلْتَ بإصْلاحِ ما للهِ عز وجل عَلَيْكَ فِيْما تَعَبَّدَك بِهِ مِنْ أدَاءِ فَرَائِضِهِ، واجْتِنابِ مَحَارِمِهِ كَانَ أوْلَى بِكَ.

وقِيْلَ لَهُ: ولاسِيَّما في زَمَانِنا هَذَا مَعَ قُبْحِ ما قَدْ ظَهَرَ فِيْهِ مِنَ الأهْوَاءِ الضَّالةِ (1).

(1) لَيْتَ شِعْرِي! إذا كَانَ هَذا الخَوْفُ مِنَ الآجُريِّ رحمه الله على أهْلِ زَمَانِ القَرْنِ الرَّابِعِ!؛ فَكَيْفَ الحَالُ إذَنْ بأهْلِ القَرْنِ الخامِسِ عَشَر؟ فاللهُ المُسْتَعَانُ!

ص: 192

وقِيْلَ لَهُ: اشْتِغالُكَ بِمَطْعَمِكَ، ومَلْبَسِكَ مِنْ أيْنَ هُوَ أوْلَى بِكَ، وتَمَسُّكُكَ بِدِرْهَمِكَ مِنْ أيْنَ هُوَ، وفِيْمَ تُنْفِقُهُ أوْلَى بِكَ؟

وقِيْلَ: لا نَأمَنُ أنْ تَكُوْنَ بِتَنْقِيرِكَ وبَحْثِكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ القَوْمِ إلى أنْ يَمِيْلَ قلبُكَ فَتَهْوَى ما لا يَصْلُحُ لَكَ أنْ تَهْوَاهُ، ويَلْعَبُ بِكَ الشَّيطانُ فَتَسُبَّ، وتُبْغِضَ مَنْ أمَرَكَ اللهُ بِمَحَبَّتِهِ، والاسْتِغْفَارِ لَهُ وباتِّباعِهِ، فَتَزِلَّ عَنْ طَرِيْقِ الحَقِّ، وتَسْلُكَ طَرِيْقَ البَاطِلِ

إلخ (1).

(1)«الشَّرِيْعَةُ» للإمَامِ الآجُريِّ (5/ 2485 - 2487) باخْتِصَارٍ وتَصَرُّفٍ.

ص: 193