الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّبهُ الَّتِي قِيْلَتْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، والرَّدُّ عَلَيْهَا
أمَّا ما دَارَ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ مِنْ شُبَهٍ وأقْوَالٍ مُحَرَّفَةٍ على غَيْرِ وجْهِهَا فَكَثِيْرٌ لا كَثَّرَهَا اللهُ، قَدْ أفْرَزَها أهْلُ الأهْوَاءِ والبِدَعِ بِدَافِعِ عَقَائِدَ فَاسِدَةٍ، وآرَاءَ باطِلَةٍ ما كَانَ لَهَا أنْ تأخُذَ حَيِّزًا مِنْ عَقَائِدِ المُسْلِمِيْنَ؛ إلَاّ مَعَ وُجُوْدِ انْتِشَارِ الجَهْلِ ودُعَاتِهِ، وقِلَّةِ العِلْمِ ودُعَاتِهِ!
ومَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ؛ فَلَنْ تَقُومَ لِلْبَاطِلِ دَوْلَةٌ؛ اللَّهُمَّ صَوْلَةٌ وجَوْلَةٌ ثمَّ يُزْهِقُهُ اللهُ ويَدْمَغُهُ بالحَقِّ، فالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ.
* * *
لِذَا؛ رَأيْتُ أنْ أقِفَ مَعَ بَعْضِ ما قِيْلَ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ مِنْ شُبَهٍ مَشْبُوْهَةٍ لا سِيَّمَا ما كَانَ مِنْهَا مُسْتَنَدُهُ الدَّلِيْلُ الصَّحِيْحُ، أو التَّعْلِيْلُ القَوِيُّ (1)!
(1) أمَّا الأدِلةُ الضَّعِيْفَةُ والمَوْضُوْعَةُ، والتَّعْلِيْلاتُ المَعْلُوْلةُ فَلَمْ أعِرْها اهْتِمَامًا، ولَمْ أتَكَلَّفْ تَوْجِيْهَها رَأسًا؛ لأنَّ تتبُّعَ البَاطِلَ بِكُلِّ ما فِيْهِ لا يَنْتَهِي أمْرُهُ، ولا يَنْقَطِعُ أهْلُهُ، فَيَكْفِينا مِنَ القِلادَةِ ما أحَاطَ بالعُنُقِ!
الشُبْهَةُ الأوْلَى: ما رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ كان يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ؛ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فهَرَبَ وتَوَارَى مِنْهُ، فَجَاءَ لَهُ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛ ثمَّ قَالَ:«اذْهَبْ فادْعُ لي مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يأكُلْ. ثمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فادْعُ لي مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يأكُلْ؛ فَقَالَ: «لا أشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» (1) مُسْلِمٌ.
* * *
قُلْتُ: لا نَقْصَ على مُعَاوِيَةَ بِهَذا الحَدِيْثِ لأمُوْرٍ، مِنْهَا:
الأوَّلُ: لَيْسَ فِيْهِ أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِمُعَاوِيَةِ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوْكَ فَتَبَطَّأ، وإنَّمَا يَحْتَمِلُ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لمَّا رَآهُ يَأْكُلُ اسْتَحْيَ أنْ يَدْعُوَهُ فَجَاءَ وأخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ يَأْكُلُ، وكَذَا في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ.
الثَّاني: فَيَحْتَمِلُ أنَّ هذا الدُّعَاءَ جَرَى على لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَمَا قَالَ لِبَعْضِ أصْحَابِهِ:«تَرِبَتْ يَمِيْنُكَ» ، ولِبَعْضِ أمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ:«عَقْرَى حَلْقَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الألْفَاظِ الَّتِي تَجْرِي على ألْسِنَتِهِم بِطَرِيْقِ العَادَةِ مِنْ غَيْرِ أنْ يقْصِدُوا حَقِيْقَتَها.
(1) أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2604).
الثَّالِثُ: ما أشَارَ إلَيْهِ الإمَامُ مُسْلِمٌ رحمه الله، أنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه لم يَكُنْ أهْلاً لِهَذا الدُّعَاءِ؛ وذَلِكَ حِيْنَمَا أوْرَدَ تَحْتَ بَابِ (فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ) حَدِيْثَ:«اللَّهُمَّ إنِّي أغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البَشَرُ، فَمَنْ سَبَبْتُهُ، أو لَعَنْتُهُ، أو دَعَوْتُ عَلَيْهِ ولَيْسَ أهْلاً لِذَلِكَ فاجْعَلِ اللَّهُمَّ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً، وأجْرًا، وَرَحْمَةً» (1) مُسْلِمٌ، ثمَّ أتْبَعَهُ بِحَدِيْثِ: «لا أشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ
…
». وبِهَذا التَّوْجِيْهِ ذَهَبَ كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ.
* * *
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ بَعْضَهُم زَعَمَ أنَّهُ لم يَصِحْ في فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه شَيْئًا؛ مُحْتَجًا بِقَوْلِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، حَيْثُ قَالَ:«لا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في فَضْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سُفْيَانَ شَيْءٌ» (2).
قُلْتُ: أمَّا مَا أُثرَ عَنِ ابْنِ رَاهَوَيْهِ؛ فَهُوَ أثَرٌ لا يَصِحُّ؛ سَنَدًا ومَتْنًا:
فأمَّا سَنَدًا: فَفِيْهِ رَجُلٌ مَجْهُوْلُ الحَالِ.
(1) أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2600).
(2)
رَوَاهُ عَنْهُ ابنُ الجَوْزِيِّ في «المَوْضُوْعَاتِ» (2/ 24).
أمَّا مَتْنًا: فَقَدْ وَرَدَتْ أحَادِيْثُ صَحِيْحَةٌ، وآثارٌ ثَابِتَةٌ في فَضْلِ مُعَاوِيَةَ، ممَّا يُقْطَعُ بِرَدِّ ما جَاءَ عنِ إسْحَاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ رحمه الله، وقَدْ مَرَّ بَعْضُها آنِفًا!
* * *
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: وكَذَا احْتَجُّوا بِصَنِيْعِ البُخَارِيِّ رحمه الله في صَحِيْحِهِ حَيْثُ قَالَ: (بَابُ ذِكْرِ مُعَاوِيَة)، ولم يَقُلْ:(فَضَائِلُ أو مَنَاقِبُ مُعَاوِيَةَ)!
قُلْتُ: أمَّا قَوْلُ تَصَرُّفِ البُخَارِيِّ في صَحِيْحِهِ فَلَيْسَ فِيْهِ حُجَّةٌ لَهُم؛ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِم، كَمَا يَلي:
أوَّلاً: أنَّ هَذَا تَفنُّنٌ مِنَ البُخَارِيِّ رحمه الله لا غَيْرَ؛ وهَذِهِ عَادَتُهُ في صَحِيْحِهِ هذا لِمَنْ سَبَرَ عِلْمَ البُخَارِيِّ في صَحِيْحِهِ مِنْ تَرَاجِمَ، وتَبْوِيْبٍ، وتَعْلِيْقٍ، وتَقْطِيْعٍ لِلأحَادِيْثِ
…
وهَكَذَا.
ثَانِيًا: نَجِدُ البُخَارِيَّ نَفْسَهُ رحمه الله صَنَعَ مِثْلَ هَذَا التَّبْوِيْبِ في بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ: أسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ، وجُبَيْرِ بنِ
مُطْعِمِ بنِ عَبْدِ اللهِ؛ وهَؤُلاءِ لا يَشُكُّ أحَدٌ في فَضَائِلِهِم، في حِيْنِ أنَّهُ رحمه الله ذَكَرَ لَهُم فَضَائِلَ جَلِيْلَةً (1).
ثَالِثًا: أنَّ البُخَارِيَّ لَهُ شَرْطُهُ الخَاصُّ في ذِكْرِ الحَدِيْثِ في (صَحِيْحِهِ)، ومِنْهُ لم يُدْخِلْ البُخَارِيُّ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ في كِتَابِهِ لأنَّهَا لَيْسَتْ على شَرْطِهِ، ولَيْسَ مَعْنَى هَذَا نَفْيُ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا، وكَمْ حَدِيْثٍ قَالَ عَنْهُ البُخَارِيُّ صَحِيْحٌ إلَاّ أنَّهُ لم يُدْخِلْهُ في (صَحِيْحِهِ).
وأدَلُّ شَيْءٍ على هذا صَنِيْعُ التِّرْمِذِيِّ في (سُنَنِهِ) حَيْثُ يَقُوْلُ:
(1) ونَحْوُ هَذِه الشُبْهَةِ (المَشْبُوْهَةِ) ما ذَكَرَها لِي أحَدُ رُؤوْسِ الرَّافِضَةِ فِي مَجْلِسِ مُناظَرَةٍ كَانَ بَيْنِي وبَيْنَه في المَسْجِدِ المَكِّي، وهي بِشَأنِ البُخَارِيِّ و «صَحِيْحِهِ» ، ـ وهُوَ أحَدُ مُتَحَدِّثي الشِّيْعَةِ في إذَاعَةِ طَهْرَانَ، وله كُتُبٌ غَبْرَاءُ ـ ونَصُّ شُبْهَتِه:«أنَّ البُخَارِيَّ مُتَّهمٌ في كِتَابِه؛ لأنَّه ذَكَرَ لأبي هُرَيْرَةَ مِنَ الأحادِيْثِ أكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ لعَليٍّ، عِلْمًا أنَّ عَليًّا كانَ أكْثَرَ مُلازَمَةً للنَّبِيِّ مِنْ أبي هُرَيْرَةَ!» ، فَقُلْتُ له: إذا كَانَتْ هذِه الشُّبْهَةُ عِنْدَكُم بِمَكَانٍ؟!، فَنَحْنُ أوْلَى بها ـ عَيَاذًا باللهِ ـ فَقَالَ لِي: كَيْفَ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لأنَّ البُخَارِيَّ رحمه الله قَدْ ذَكَرَ لأبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِنَ الأحَادِيْثِ أكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ لأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ؛ عِلْمًا أنَّهُم أكْثَرُ مُلازَمَةً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أبي هُرَيْرَةَ!، ومَعَ هَذا لَمْ نَزْدَدْ نَحْنُ (أهْلَ السُّنةِ) إلَاّ يَقِينًا بأمَانَةِ البُّخارِيِّ في «صَحِيْحِهِ» ، فَعِنْدَ هَذا غُصَّ بِرِيقِه!، عِلْمًا أنَّ هذا الرَّافِضِيَّ (المَرْفُوْضَ) كَانَ مَحْشُوْرًا ببَعْضِ المُتَشَابِهَاتِ والضَّلالاتِ، لذا فإنَّنِي عَازِمٌ على إخْرَاجِ ما دَارَ بَيْنِي وبَيْنَه في رِسَالَةٍ صَغِيْرةٍ إذا نَشِطْتُ لِذَلِكَ إنْ شَاء اللهُ!
سَألْتُ أبا عَبْدِ اللهِ البُخَارِيَّ عَنْ هذا الحَدِيْثِ، فَقَالَ: صَحِيْحٌ، وعلى هَذَا لا نَجِدُهُ في (صَحِيْحِهِ) لأنَّهُ لَيْسَ على شَرْطِهِ (1)!
* * *
الشُّبْهَةُ الرَابِعَةُ: قَوْلُهُم: إنَّ الَّذِيْنَ قَاتَلُوا عَلِيًّا رضي الله عنه، كَانُوا بُغَاةً
بِنَصِّ حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَّارٍ: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُه الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوْهُم إلى الجَنَّةِ، ويَدْعُوْنَهُ إلى النَّارِ» (2) البُخَارِيُّ.
* * *
قُلْتُ: نَعَمْ؛ إنَّ هذا الحَدِيْثَ صَرِيْحٌ بأنَّ الَّذِيْنَ قَتَلُوا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رضي الله عنه هُمُ الَّذِيْنَ كَانُوا في عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه؛ إلَاّ أنَّ لِلْحَدِيْثِ تَوْجِيْهَاتٍ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ تَرُدُّ ما يَدَّعِيْهِ أهْلُ الأهْوَاءِ والبِدَعِ، ومِنْ ذَلِكَ:
أوَّلاً: هَلْ لَفْظُ «البَغْي» في الحَدِيْثِ عَامٌ أمْ خَاصٌ؟
فإن كَانَ خَاصًا؛ فَمَنِ المَقْصُوْدُ بِهِ هُنَا؟ مُعَاوِيَةُ أمْ قَاتِلُ عَمَّارٍ؟
فَمَنْ قَالَ: إنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه هُوَ المَقْصُوْدُ بِهِ، فَهُوَ مَرْدُوْدٌ مِنْ وُجُوْهٍ:
(1) انْظُرْ «النَّاهِيَةَ» للفَرْهَارَوِيِّ (34)، و «مُخْتَصَرَ تَطْهِيْرِ اللِّسَانِ» للهَيْتَمِي (45)، و «الفُصُوْلَ في سِيْرَةِ الرَّسُوْلِ» لابنِ كَثِيْرٍ (337).
(2)
أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (436).
1 ـ أنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه لا يَشُكُ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ أنَّهُ لم يَقْتُلْ عَمَّارًا؛ بَلْ لم يَثْبُتْ مُطْلَقًا أنَّ أحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ قَتَلَ صَحَابِيًا مِثْلَهُ!
2 ـ لا نَعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ: وَصَفَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه بالبَغْي والضَّلالِ!
وإنْ كَانَ المَقْصُوْدُ بِهِ قَاتِلَ عَمَّارٍ؛ فَهَذا ممَّا لاشَكَّ فِيْهِ، وعَلَيْهِ فَلا إشْكَالَ حِيْنَئِذٍ.
* * *
ومَنْ قَالَ: إنَّ اللَّفْظَ عَامٌ يَشْمَلُ مُعَاوِيَةَ ومَنْ مَعَهُ، فَهَذا هُوَ مَحَلُّ خِلافِ وتَوْجِيْهِ أهْلِ العِلْمِ كَمَا هُوَ الآتي.
ثَانِيًا: هَلْ كَلِمَةُ «البَغْي» الوَارِدَةِ في الحَدِيْثِ شَرْعِيَّةٌ أمْ لا؟ والجَوَابُ أنَّهَا شَرْعِيَّةٌ ولا شَكَّ، فَعِنْدَئِذٍ كَانَ حَمْلُ هَذِهِ الكَلِمَةِ على الوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ثُبُوتًا ومَنْعًا
كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9].
لِذَا نَجِدُ أكْثَرَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وأهْلَ العِلْمِ كَأبي حَنِيْفَةَ، ومَالِكٍ، وأحْمَدَ وغَيْرِهِم يَقُوْلُوْنَ: لم يُوْجَدْ شَرْطُ قِتَالِ الطَّائِفَةِ البَاغِيَةِ؛ فإنَّ اللهَ لم يَأمُرْ بِقِتَالِهَا ابْتِدَاءً؛ بَلْ أمَرَ إذا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ أنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُما، ثمَّ إنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا على الأخْرَى قُوْتِلَتِ الَّتِي تَبْغِي، وهَؤُلاءِ (عَسْكَرُ مُعَاوِيَةَ) قُوْتِلُوا ابْتِدَاءً قَبْلَ أنْ يَبْدَؤُوا بِقِتَالٍ، ولِهَذا كان القِتَالُ عِنْدَ مَالِكٍ، وأحْمَدَ وغَيْرِهِمَا: قِتَالَ فِتْنَةٍ (1).
* * *
ثَالِثًا: البُغَاةُ لا يَخْرُجُوْنَ عَنْ ثَلاثِ حَالاتٍ:
1 ـ أنْ يَكُوْنُوا مُتَأوِّلِيْنَ بِشُبْهَةٍ، وهُوَ ما عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ والدِّيْنِ الَّذِيْنَ اجْتَهَدُوا، واعْتَقَدَ بَعْضُهُم حِلَّ أُمُوْرٍ، واعْتَقَدَ الآخَرُ تَحْرِيْمَها
…
فَقَدْ جَرَى ذَلِكَ وأمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ، فَهَؤُلاءِ المُتَأوِّلُوْنَ المُجْتَهِدُوْنَ غَايَتُهُم أنَّهُم مُخْطِئُوْنَ، وقَدْ قَالَ تَعَالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
(1) انْظُرْ «مِنْهَاجَ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (4/ 390 - 391).
ومِنْ خِلالِ هذا يَكُونُ صَاحِبُ هذا القِسْمِ مِنَ المُجْتَهِدِيْنَ المُتَأوِّلِيْنَ؛ لأنَّهُ اعْتَقَدَ أنَّهُ مُحِقٌّ، وإنْ قُلْنَا: إنَّهُ مُخْطِئٌ في اجْتِهَادِهِ لم تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ «باغِيًا» مُوْجِبَةً لإثْمِهِ، أو فِسْقِهِ، وهَذَا مَا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (1).
2 ـ أنْ يَكُوْنُوا مُتَأوِّلِيْنَ بِشَهْوَةٍ، وهذا ما عَلَيْهِ أهْلُ الفَسَادِ.
3 ـ أنْ يَكُوْنُوا مُتَأوِّلِيْنَ بِشُبْهَةٍ وشَهْوَةٍ مَعًا.
* * *
رَابِعًا: ولَو قُلْنَا أيْضًا: إنَّ كُلَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا باغٍ، فَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ بِمُخْرِجِهِ مِنَ الإيْمَانِ، ولا بِمُوجِبٍ لَهُ النِّيْرَانَ، ولا مَانِعٍ لَهُ مِنَ الجِنَانِ؛ فإنَّ البَغْيَ إذا كَانَ بِتَأوْيِلٍ كَانَ صَاحِبُهُ مُجْتَهِدًا، ولِهَذا اتَّفَقَ أهْلُ السُّنَّةِ على أنَّهُ لم تَفْسُقْ واحِدَةٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وإنْ قَالُوا في إحْدَاهُمَا: إنَّهُم كَانُوا بُغَاةً لأنَّهُم كَانُوا مُتَأوَّلِيْنَ مُجْتَهِدِيْنَ، والمُجْتَهِدُ المُخْطِئُ لا يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ (2).
* * *
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، «فَقَدْ جَعَلَهُم مَعَ وُجُوْدِ
(1) انْظُرْ «مَجْمُوْعَ الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/ 75 - 76).
(2)
السَّابِقُ (4/ 394).
الاقْتِتَالِ والبَغْي مُؤْمِنِيْنَ إخْوَةً؛ بَلْ مَعَ أمْرِهِ بِقِتَالِ الفِئَةِ البَاغِيَةِ جَعَلَهُم مُؤْمِنِيْنَ، ولَيْسَ كُلُّ ما كَان بَغْيًا وظُلْمًا، أو عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُوْمَ النَّاسِ عَنِ الإيْمَانِ، ولا يُوْجِبُ لعْنَتَهُم؛ فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ القُرُوْنِ!
وكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أو ظَالِمًا، أو مُعْتَدِيًا، أو مُرْتَكِبًا ما هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ قِسْمَانِ: مُتَأوِّلٌ، وغَيْرُ مُتَأوِّلٍ
…
أمَّا إذا كَانَ البَاغِي مُجْتَهِدًا ومُتَأوِّلاً، ولم يَتَبَيَّنْ لَهُ أنَّهُ بَاغٍ؛ بَلْ اعْتَقَدَ أنَّهُ على الحَقِّ وإنْ كَانَ مُخْطِئًا في اعْتِقَادِهِ: لم تَكُنْ
تَسْمِيَتُهُ «بَاغِيًا» مُوْجَبَةً لإثْمِهِ؛ فَضْلاً عَنْ أنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ» (1).
ويَدَلُّ على ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الحَسَنِ كَمَا مَرَّ مَعَنَا: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللهَ أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ» (2) البُخَارِيُّ.
لِذَا كَانَ يَقُوْلُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رحمه الله: «قَوْلُهُ: (فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، يُعْجِبُنَا جِدًّا)، قَالَ البَيْهَقِيُّ: «وإنَّمَا أعَجَبَهُم لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُمَا مُسْلِمِيْنَ، وهذا خَبَرٌ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله
(1)«مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/ 74 - 76).
(2)
أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (2704).
عليه وسلم - بِمَا كَانَ مِنَ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ بَعْدَ وَفَاةِ عَلِيٍّ في تَسْلِيْمِهِ الأمْرَ إلى مُعَاوِيَةَ ابنِ أبي سُفْيَانَ» (1).
* * *
خَامِسًا: هُنَاكَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ مَنْ طَعَنَ في الحَدِيْثِ.
ومِنْهُم مَنْ تأوَّلَهُ: على أنَّ المُرَادَ بالبَاغِيَةِ هُنَا هُمُ الفِئَةُ الَّتِي تَبْغِي أخْذَ الثَّأرِ بِدَمِ عُثْمَانَ، كَمَا قَالُوا: نَبْغِي ابنَ عَفَّانَ بأطْرَافِ الأسَلِ.
ومِنْهُم مَنْ قَالَ: إنَّ البَاغِيَةَ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِعَمَّارٍ لِلْقَتْلِ لا القَاتِلَةُ
…
وكُلُّها ضَعِيْفَةٌ، والثَّالِثُ أضْعَفُهَا تَأوِيْلاً!
سَادِسًا: مِنْ أهْلِ العِلْمِ مَنْ قَالَ: إنَّ هذا الحَدِيْثَ لَيْسَ نَصًّا في عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ ومَنْ مَعَهُ؛ بَلْ يُمْكِنُ أنَّهُ أُرِيْدَ بِهِ تِلْكَ العِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ علَى عَمَّارٍ رضي الله عنه فَقَتَلَتْهُ، وهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ العَسْكَرِ، ومَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمُهَا، ومِنَ المَعْلُوْمِ أنَّ أحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ لم يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ لا مُعَاوِيَةُ
(1)«الاعْتِقَادُ» للبَيْهَقِيِّ ص (198)، و «فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ (13/ 66).
ولا عَمْرٌو ولا غَيْرُهُمَا رَضِيَ اللهُ عَنِ الجَمِيْعِ؛ بَلْ أكْثَرُ النَّاسِ كَانُوا مُنْكِرِيْنَ قَتْلَهُ رضي الله عنه، وهذا ما ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ (1).
* * *
وأخِيْرًا؛ أُعِيْذُكَ باللهِ أخِي المُسْلِمَ أنْ تَتَفَوَّهَ بِشَيءٍ فِيْهِ غَمْزٌ أو لَمْزٌ بأصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لاسِيَّمَا كَاتِبُ رَسُوْلِ اللهِ وأمِيْنُهُ على وَحْي رَبِّهِ: وهُوَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَانَ رضي الله عنه وأرْضَاهُ، وجَعَلَ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ مَأوَاهُ، وطَيَّبَ بالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ
…
آمِيْنَ!
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، ولا عُدْوَانَ إلَاّ على الظَّالِمِيْنَ
(1) انْظُرْ «مَجْمُوْعَ الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/ 76 - 77).