المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البَابُ السَّابِعُ الإِيْرَادَاتُ وقَبْلُ الانْتِهَاءِ وَالخُرُوْجِ مِمَّا أرَدْتُ بَيَانَهُ، كَانَ مِنَ الوَاجِبِ - تسديد الإصابة فيما شجر بين الصحابة

[ذياب الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌أقْوَالٌ مَأثُوْرَةٌ

- ‌تقريظ

- ‌البَابُ الأوَّل

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُالتَّعْرِيْفُ بالتَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيأهَمِيَّةُ التَّارِيْخِ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُخُطُوْرَةُ الكَلامِ في التَّارِيْخِ دُوْنَ عِلْمٍ

- ‌البَابُ الثَّاني

- ‌الفَصْلُ الأوَّلُمَوْضُوْعُ الفِتْنَةِ، وَمَوْقِعَةُ (الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ)

- ‌مَوْقِعَةُ الجَمَلِ

- ‌خُلاصَةُما جَاءَ في مَوْقِعَةِ الجَمَلِ

- ‌مَوْقِعَةُ صِفِّيْنَ

- ‌تَحْقِيْقُ قِصَّةِ الحَكَمَيْنِ رضي الله عنهما

- ‌سَبَبُ القِتَالِ بَيْنَ عَلِيٍّ ومُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما

- ‌خُلاصَةُ ما جَاءَ في صِفِّيْنَ

- ‌الفَصْلُ الثَّاني عَدَدُ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ حَضَرُوا الفِتْنَةَ

- ‌البابُ الثَّالِثُمُجْمَلُ ما دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وذَلِكَ في ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ

- ‌الأمْرُ الأوَّلُ: تَحْدِيْدُ بِدَايَةِ التَّشَاجُرِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الأمْرُ الثَّاني: الدَّافِعُ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابةَ رضي الله عنهم على التَّشَاجُرِ بَيْنَهُم

- ‌الأمْرُ الثَّالِثُ: وُجُوْبُ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ الرَّابِعُ

- ‌الفَصْلُ الأَوَلُفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌مَا وَقَعَ بَينَ الصَّحَابَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهالنُّصُوصُ الشَّرْعَيَّةُ

- ‌أقْوَالُ النَّاسِ فِيْمَا وَقَعَ في صِفِّيْنَ

- ‌أيُّهُمَا أوْلَى بالحَقِّ عَلِيٌّ أمْ مُعَاوِيَةُ

- ‌الفَصْلُ الثَّانيوُجُوْبُ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُوُجُوْبُ الدُّعَاءِ والاسْتِغْفَارِ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُحُكْمُ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم

- ‌أقْوَالُ أهْلِ العِلْمِ في حُكْمِ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ

- ‌حُكْمُ منْ سَبَّ أزْوَاجَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المَطْلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها

- ‌المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ مَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُفَضَائِلُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه

- ‌الشُّبهُ الَّتِي قِيْلَتْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، والرَّدُّ عَلَيْهَا

- ‌البَابُ الخَامِسُ أقْوَالُ السَّلَفِ في وُجُوبِ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌البَابُ السَّادِسُ الآثَارُ السِّلْبِيَّةُ مِنْ نَشْرِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ

- ‌البَابُ السَّابِعُ الإِيْرَادَاتُ

- ‌الإِيْرَادُ الأَوَّلُ:

- ‌الإيْرَادُ الثَّانِي:

- ‌البَابُ الثَّامِنُ خُلاصَةُ البَحْثِ

- ‌ثبت المراجع

الفصل: البَابُ السَّابِعُ الإِيْرَادَاتُ وقَبْلُ الانْتِهَاءِ وَالخُرُوْجِ مِمَّا أرَدْتُ بَيَانَهُ، كَانَ مِنَ الوَاجِبِ

البَابُ السَّابِعُ

الإِيْرَادَاتُ

وقَبْلُ الانْتِهَاءِ وَالخُرُوْجِ مِمَّا أرَدْتُ بَيَانَهُ، كَانَ مِنَ الوَاجِبِ أنْ أُجِيْبَ عَلى بَعْضِ الأَسْئِلَةِ التَّي هي في حُكْمِ الإِيرَادَاتِ وَالشُّبُهاتِ حَوْلَ هذا المَوْضُوعِ.

* * *

‌الإِيْرَادُ الأَوَّلُ:

لَعَلَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: قَدْ سَلَّمْناَ لَكُم بِمَا ذَكَرْتُمُوْهُ وقرَّرْتُمُوْهُ آنِفًا، وهو: السُّكُوْتُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ لَكِنْ هَذَا مَحْمُولٌ عَلى مَنْ أرَادَ ذِكْرَ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَاَبةِ رضي الله عنهم على وَجْهِ التَّنْقِيْصِ وَالبُغْضِ، وَسُوْءِ الظَّنِّ بِهِم ونَحْوِهِ مِمَّا هو مَثَارَةٌ للفِتْنَةِ عَيَاذًا باللهِ!

أَمَّا مَنْ أرَادَ ذِكْرَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ المَحَبَّةِ لِلجَمِيْعِ مَعَ سَلَامةِ الصَّدْرِ، والتَّرَحُّمِ عَلَيْهِم، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِم فَهَذا لَيْسَ مَحَلَّ نِزَاعِنَا!

أقُوْلُ: نَحْنُ لا نُسَلِّمُ لَكَ مَا قُلْتَه لِعِدَّةِ مُخَالفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ؛ مِنْهَا:

ص: 179

أوَّلاً: أنَّ هَذَا القَوْلَ خِلافُ الأصْلِ المُقَرَّرِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلفِ وَالخَلَفِ، وهُو السُّكُوْتُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، سَوَاءٌ كَانَ الحَدِيْثُ عَنْهُم عَنْ حُسْنِ ظَنٍّ، أوَ سُوْءِ ظَنٍّ لِمَا في ذَلِكَ مِنْ دَرْءٍ للمَفْسَدَةِ الحَاصِلَةِ، وَسَدٍّ للذَّرِيْعَةِ المُفْضِيَةِ للشُّبَهِ وَالفِتَنِ كَمَا هُوَ مَعْلومٌ مِنَ الوَاقِعِ بالضَّرورَةِ.

* * *

فَهَذَا العَوَّامُ بنُ حَوْشَبٍ رحمه الله (148) يُقَرِّرُ هَذَا الأصْلَ قَائِلاً: «أدْرَكْتُ مَنْ أدْرَكْتُ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأمَّةِ بَعْضُهُم يَقُوْلُ لبَعْضٍ: اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَتِأتَلِفَ عَلَيْها القُلُوْبُ، ولا تَذْكُرُوا ما شَجَرَ بَيْنَهم فَتُحَرِّشُوْا (1) النَّاسَ عَلَيْهِم» (2)، وَبِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ:«فَتُجَسِّرُوا (3) النَّاسَ عَلَيْهِم» (4).

(1) التَّحْرِيْشُ: هو الإغْرَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، انْظُرْ «مُخْتَارَ الصِّحَاحِ» ص (130)، و «لِسَانَ العَرَبِ» (6/ 279).

(2)

«الشَّرْحُ والإبانَةُ على أُصُوْلِ السُّنةِ والدِّيانَةِ» لابنِ بَطَّةَ (165).

(3)

أي: تُشَجِّعُوْهُم، انْظُرْ «لِسَانَ العَرَبِ» (4/ 136).

(4)

«الجَامِعُ لأحْكامِ القُرْآنِ» للقُرْطُبِيِّ (18/ 33).

ص: 180

ثانيًا: وكَذَلِكَ هُوَ (أيْضًا) خِلافٌ للأصْلِ المُحَقَّقِ، وَهُوَ الوُقُوعُ في الفِتْنَةِ، لِهَذا لا يَجُوْزُ لَكَ أنْ تُخَالِفَ أصْلاً مُحَقَّقًا رَجَاءَ سَلامَةِ صَدْرٍ مَظْنُونَةٍ!

فَقَدْ قَاَل رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهاتِ اسْتَبْرَأ لِدِيْنِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوْشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى.

ألا إنَّ حِمَى اللهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وَهِي القَلْبُ» (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وعَنِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيْبُكَ» (2) أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ.

ثالثًا: أَيْضًا فِي ذِكْرِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَعَ ادِّعَاءِ أمْنِ الفِتْنَةِ وَسَلامَةِ الصَّدْرِ؛ أمْنٌ مِنْ مَكْرِ الله تَعَالى عِيَاذًا باللهِ!

(1) أخْرَجَهُ البُخارِيُّ (52، 2051)، ومُسْلِمٌ (1599) مِنْ حَدِيْثِ النُّعْمانِ بنِ بَشِيْرٍ رضي الله عنهما.

(2)

أخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ (8/ 327)، والتِّرْمِذِيُّ (2518)، وأحْمَدُ (1/ 200)، وهو صَحِيْحٌ، انْظُرْ «صَحِيْحَ التِّرْمِذِيِّ» للألْبَانِيِّ (2045).

ص: 181

قَالَ اللهُ تَعَالى فِي سُورَةِ الأعْرَافِ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].

وَكَذَلِكَ فِيْهِ تَعَرُّضٌ للفِتَنِ الَّتي طَالَمَا اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَعَنِ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ: أيْمُ اللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: «إنَّ السَّعِيْدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعِيْدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعِيْدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، ولِمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا» (1) أبُو دَاوُدَ.

رابعًا: لَوْ سَلَّمْنَا أنَّ أَحَدًا خَاضَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ ثمَّ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ بسَلامةِ صَدْرٍ، وَصَفَاءِ قَلْبٍ؛ لَكَانَ هَذَا تَحْصِيْلَ حَاصِلٍ، ونَوْعَ عَبَثٍ، وَمُخَالَفْةً لمَنْهجِ السَّلَفِ الصَّالِحَ تُجَاهَ هَذِهِ الِفتْنَةِ؛ بَلْ هُوَ في الحَقِيْقَةِ ضَرْبٌ مِنَ الخَيَالِ، وَخِلَافُ الوَاقِعِ المألُوْفِ.

خامسًا: ثمَّ إذَا كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ (كَمَا ذَكَرَ المُعْتَرِضُ)، فَهَذا يَكُوْنُ إنْ كَانَ ولا بُدَّ لآحَادِ العُلَمَاءِ خَاصَّةً لا عَامَّتِهِم، كَمَا ذَكَرَهُ الإمَامُ الذَّهَبِيُّ

(1) أخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ (4/ 4263)، وهو صَحِيْحٌ، انْظُرْ «صَحِيْحَ أبي دَاوُدَ» للألْبَانِيِّ (3585).

ص: 182

رَحِمَهُ اللهُ آنِفًا: «بأنَّ كَثْيِرًا ممَّا حَدَثَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنْ شِجَارٍ وخِلافٍ يَنْبَغِي طَيُّهُ وإخْفَاؤُهُ؛ بَلْ إعْدَامُهُ، وأنَّ كِتْمَانَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ على العَامَّةِ؛ بَلْ آحَادِ العُلَمَاءِ» (1).

«لأنَّهُ لا مَصْلَحَةَ شَرْعِيَّةَ ولا عِلْمِيَّةَ مِنْ وَرَاءِ هذا النَّشْرِ، وبالأُسْلُوْبِ أو الطَّرِيْقَةِ التَّي ذَكَرْنا، أمَّا في ظِلِّ المَوَازِيْنِ العِلْمِيَّةِ المُسْتَقِيْمَةِ المُهْتَدِيَّةِ بالنُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ فَإنَّ البَحْثَ في هَذَا المَوْضُوْعِ لا يُمْتَنَعُ إذَا قُصِدَ بِهِ بَيَانُ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وما كَانَ ذِكْرُ العُلَمَاءِ المُعْتَبَرِيْنَ للحْرَوْبِ والخِلافَاتِ الَّتي وقَعَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إلَاّ على هَذَا السَّبِيْلِ، أو لِبَيَانِ المَوَاقِفِ الصَّحِيْحَةِ، وتَصْحِيْحِ الأغَالِيْطِ التَّارِيْخِيَّةِ التَّي أُثِيْرَتْ حَوْلَ مَوَاقِفِهِم في تِلْكَ الحُرُوْبِ» (2).

ومَعَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَقَدَ بعض العلماء طَرِيْقَةَ ابنِ عَبْدِ البرِّ في كِتَابِهِ «الاسْتِيْعَابِ في مَعْرِفَةِ الأصْحَابِ» لِذِكْرِهِ ما شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْ خِلافٍ (3).

(1) انْظُرْ «سِيَرَ أعْلامِ النُّبَلاءِ» للذَّهَبِيِّ (10 ـ 92).

(2)

انْظُرْ «مَنْهَجَ كِتَابَةِ التَّارِيْخِ» للسُّلَمِيِّ (253).

(3)

قال السخاوي رحمه الله في «الإعْلانَ بالتَّوْبِيْخِ» (64): "ورحم الله منقح المذهب المحيوي النووي - الإمام النووي - فإنَّه لمَّا أثْنَى على فَوَائِدِ «الاسْتِيْعَابِ» للحَافِظِ =

ص: 183

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: «ولِهَذَا كَانَ مِنْ مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ الإمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فإنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ فَضَائِلُهُم، ووَجَبَتْ مُوَالاتُهُم، ومَحَبَّتُهُم، وما وَقَعَ مِنْهُ ما يَكُوْنُ لَهُم فِيْهِ عُذْرٌ يَخْفَى على الإنْسَانِ، ومِنْهُ ما تَابَ صَاحِبُهُ مِنْهُ، ومِنْهُ ما يَكُوْنُ مَغْفُوْرًا، فالخَوْضُ فِيْمَا شَجَرَ يُوْقِعُ في نُفُوْسِ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ بُغْضًا وَذَمًّا، ويَكُوْنُ هُوَ في ذَلِكَ مُخْطِئًا؛ بَلْ عَاصِيًا، فيَضُرَّ نَفْسَهُ، ومَنْ خَاضَ مَعَهُ في ذَلِكَ، كَمَا جَرَى لأكْثَرِ مَنْ تَكَلَّمَ في ذَلِكَ؛ فَإنَّهُم تَكَلَّمُوْا فِيْمَا لا يُحِبُّهُ اللهُ ولا رَسُولُهُ: إمَّا مِنْ ذَمِّ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ الذَّمَ، وإمَّا مِنْ مَدْحِ أُمُورٍ لا تَسْتَحِقُّ المَدْحَ، ولِهَذَا كَانَ الإمْسَاكُ طَرِيْقَةَ أفَاضِلِ السَّلَفِ» (1).

وقَالَ أَيْضًا: «وحُكْمُ المُتَكَلِّمِ باجْتِهَادِهِ في العِلْمِ والدِّيْنِ حُكْمُ أمْثَالِهِ مِنَ المُجْتَهِدِيْنَ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا أو مُصِيْبًا، وقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ باللِّسَانِ أو اليَدِّ مُجْتَهِدًا يَعْتَقِدُ الصَّوَابَ مَعَهُ،

ص: 184

وقَدْ يَكُوْنَانِ جَمِيْعًا مُخْطِئَيْنِ مَغْفُوْرًا لَهُمَا، كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيْرَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

ولِهَذَا يُنْهَى عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ هَؤُلاءِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ أو مِمَّنْ بَعْدَهُم، فَإذَا تَشَاجَرَ مُسْلِمَانِ في قَضِيَّةٍ، ومَضَتْ ولا تَعَلُّقَ للنَّاسِ بِها، ولا يَعْرِفُونَ حَقْيِقَتَها، كَانَ كَلامُهُم فِيْها كَلامًا بِلا عِلْمٍ ولا عَدْلٍ يَتَضَمَّنُ أذَاهُما بِغْيرِ حَقٍّ، ولَوْ عَرَفُوا أَنَّهُما مُذْنِبانِ مُخْطِئَانِ، لكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِنْ بَابِ الغِيْبةِ المَذْمُومةِ!

لكِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أجْمَعِيْنَ أعْظَمُ حُرْمَةً، وأجَلُّ قَدْرًا، وأنْزَهُ أعَرْاضًا، وقَدْ ثَبَتَ مِنْ فَضَائِلِهِم خُصُوْصًا وعُمُومًا ما لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِم، فلِهَذَا كَانَ الكَلامُ الذَّي فِيْهِ ذَمُّهُم على ما شَجَرَ بَيْنَهُم أعْظَمَ إثْمًا مِنَ الكَلامِ في غَيْرِهِم» (1).

وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: «إِذَا رَأيْتَ أحَدًا يَذْكُرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوْءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلامِ!» (2).

* * *

(1)«مِنْهَاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (5/ 146 - 147).

(2)

«شَرْحُ أُصُوْلِ اعْتِقَادِ أهْلِ السُّنةِ والجَمَاعَةِ» للألْكائِيِّ (7/ 1252)، و «تَارِيْخُ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (59/ 209).

ص: 185