الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأوَّلُ
مَوْضُوْعُ الفِتْنَةِ، وَمَوْقِعَةُ (الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ)
كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ أكْشِفَ لِلْقَارِئِ الكَرِيْمِ (بَادِئَ ذِيْ بَدْءٍ) حَقِيْقَةَ المَوْضُوْعِ الَّذِيْ دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
أقُوْلُ: إنَّ المَوْضُوْعَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ في مَوْقِعَةِ الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ مِنْ تَشَاجُرٍ وتَنَاحُرٍ وقِتَالٍ؛ هو ما يُسَمَّى عِنْدَ أهْلِ التَّارِيْخِ: بأيَّامِ الفِتْنَةِ!
* * *
نَعَمْ؛ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بَعْضُ التَّنَازُعِ والتَّشَاجُرِ مِمَّا أدَّى إلى القِتَالِ في مَوْقِعَتَيْ: الجَمَلِ، وصِفِّيْنَ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانْتْ لِهَاتَيْنِ المَوْقِعَتَيْنِ أثَرٌ كَبِيْرٌ في التَّارِيْخِ الإسْلامِيِّ، ومِنْهُ كَانَتْ هذه المَرْحَلَةُ التَّارِيْخِيَّةُ مِنْ أخْطَرِ المَرَاحِلِ تَحْقِيْقًا وتَدْقِيْقًا، تَحْرِيْرًا وتَنْظِيْرًا.
وعَلَى هَذَا؛ لا نَسْتِغْرِبُ ولا نَعْجَبُ إذا عَلِمْنَا أنَّ مُعْظَمَ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ
لَمْ تُطِلَّ بِرَأسِها، ولَم تَنْطَلِقْ في نَشْرِ ضَلالِهَا إلَاّ إبَّانَ هذه الفَتْرَةِ التَّارِيْخِيَّةِ (1).
* * *
(1) هُنَاكَ بَعْضُ الرَّسَائِلِ الجَامِعِيَّةِ، والكُتُبِ الإسْلامِيَّةِ قَدْ كَتَبَها أصْحَابُها لخِدْمَتِ التَّارِيْخِ الإسْلامِيِّ، وذَلِكَ في كَشْفِ باطِلِه، وإخْرَاجِ ما لَيْسَ مِنْه، ومُنَاقَشَةِ الأخْبَارِ والحَوَادِثِ على ضَوْءِ الصِّناعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، فَجَزاهُمُ اللهُ خَيْرًا، ومِنْ ذَلِك ما كَتَبَهُ أُسْتَاذُ التَّارِيْخِ المُحَقِّقُ أكْرَمُ ضِيَاءُ العُمَرِيُّ في أكْثَرِ مُصَنَّفَاتِه، وكِتَابُ «عَبْدِ اللهِ بنِ سَبأ وأثَرِه في أحْدَاثِ الفِتْنَةِ في صَدْرِ الإسْلامِ «لسُلَيْمانَ العَوْدَةِ، و «أثَرُ التَّشَيُّعِ على الرِّواياتِ التَّارِيْخِيَّةِ «لعبدِ العَزِيْزِ وَلِي، و «مَرْويَّاتُ أبي مِخْنَفٍ في تَارِيْخِ الطَّبَرِيِّ «ليَحْي اليَحْي، و «اسْتِشْهَادُ عُثْمَانَ ووَقْعَةُ الجَمَلِ «لخالِدِ الغَيْثِ، و «تَحْقِيْقُ مَوَاقِفِ الصَّحابَةِ في الفِتْنَةِ «لمُحَمَّدٍ أمَحْزُوْنَ، وغَيْرُها كَثِيْرٌ!
كَمَا أنَّ هَذِه الفَتْرَةَ لِلأسَفِ لَمْ تَقْتَصِرْ على أهْلِ البَاطِلِ؛ بَلْ امْتَدَّتْ إلى بَعْضِ (الدُّعَاةِ) يَوْمَ خَاضُوا غِمَارَها دُوْنَ تَفْتِيْشٍ وتَحْقِيْقٍ لأخْبَارِها؛ اللَّهُمَّ سَرْدُ الأخْبَارِ والآثَارِ مِنْ هُنَا وهُنَاكَ.
حَتَّى وقَعُوا في تَنَاقُضَاتٍ ومُخَالَفَاتٍ ما كَانَ لَها أنْ تَنَالَ شَيْئًا مِنْ أقْلامِهِم أوْ ألْسِنَتِهِم إلَاّ أنَّهُم لَمْ يَكُوْنُوا مِنْ أهْلِ التَّحْقِيْقِ والنَّظَرِ!
وَهُم مَعَ اجْتِهَادِهِم وحِرْصِهِم في الجَمْعِ والتَّوفِيْقِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ والأخْبَارِ
لَم يَسْلَمُوا مِنَ الخَطأ والزَّلَلِ، وذَلِكَ يَكْمُنُ في خَطَأيْنِ مُعْتَبَرَيْنِ لا يَسَعُ السُّكُوْتُ عَنْهُمَا:
الخَطَأ الأوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بالأخْبَارِ والآثَارِ مِنْ حَيْثُ القَبُولِ والرَّدِّ.
عِلْمًا أنَّ ذِكْرَ هذه الأخْبَارِ والآثَارِ الَّتي رُوِيَتْ في هذه الحُقْبَةِ الزَّمَنِيَّةِ مِنْ الأهَمِيَّةِ بِمَكَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ بَلْ كَانَ مِنَ الوَاجِبِ الاعْتِنَاءُ بِهَا أكْثَرَ ما يَكُوْنُ مِنْ غَيْرِها، لاسِيَّمَا وأنَّ التَّارِيْخَ الإسْلامِيَّ لَمْ تَعْلَقْ بِهِ الشُّبُهَاتُ، ويَسْرِ فِيْهِ التَّشْوِيْهُ إلَاّ مُنْذُ هَذِهِ الفَتْرَةِ الخَطِيْرَةِ حَيْثُ وَجَدَ أعَدَاءُ الإسْلامِ في مِثْلِ هذه الفِتَنِ مَرْتعًا خَصْبًا ووَقْتًا مُناسِبًا في تَحْرِيْفِ الحقَائِقِ التَّارِيْخِيَّةِ، وتَرْوِيْجِ باطِلِهِم على اخْتِلافِ مَشَارِبِهِم ونِحَلِهِم؛ وهو كَذَلِكَ لِمَنْ تَدَبَّرَ التَّارِيْخَ الإسْلامِيَّ (1).
بَلْ إخَالُكَ تَعْلَمُ أنَّ هذا المُنْعطَفَ التَّارِيْخِيَّ لَمْ يأخُذْ في ظُهُوْرِهِ واتِّسَاعِهِ إلَاّ إبَّانَ هذه الحُقْبَةِ الخَطِيْرَةِ.
لِذَا نَجِدُ الجَهَابِذَةَ مِنَ العُلَمَاءِ الَّذِيْنَ هُم صَيَارِفَةُ الحَدِيْثِ والأخْبَارِ قَدْ خَافُوا مِنَ الخَوْضِ والوُلُوْجِ في ذِكْرِ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِمَا في ذَلِكَ مِنْ مَزَلَّةِ أقْدَامٍ، ومَضَلَّةِ أفْهَامٍ إلَاّ لِمَا لا بُدَّ مِنْهُ، والضَّرُوْرَةُ تُقَدَّرُ بِقَدَرِها.
(1) هُنَاكَ (للأسَفِ) كَثِيْرٌ مِنْ كُتُبِ التَّارِيْخِ الإسْلامِيِّ، لَمْ تَسْلَمْ مِنَ العَبَثِ التَّارِيْخِيِّ الَّذِي صَنَعَتْهُ أيْدِي الشِّيْعَةِ وغَيْرِهِم مِنْ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ، لاسِيَّما كُتُبُ الأدَبِ (ولا أدَبَ!)، ابْتِدَاءً مِنَ «الأغَانِيِّ «للأصْفَهانِيِّ، و «البَيَانِ والتَّبيُّنِ «للجَاحِظِ، وانْتِهاءً «بالعِقْدِ الفَرِيْدِ «لابنِ عَبْدِ رَبِّه وما بَعْدَه. واللهُ المُسْتَعانُ!
لِهَذَا كَانَ مِنَ الوَاجِبِ العِلْمِيِّ التَّرَيُّثُ والتَّأنِّي في ذِكْرِ مَا ذُكِرَ، وكَذَلِكَ الخَوْضُ في نَبْشِ ما كان حَقَّهُ السُّكُوْتُ.
* * *
الخَطَأ الثَّاني: ما يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ أصْلِ المَوْضُوْعِ، وهو ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْ تَشَاجُرٍ وقِتَالٍ ونَحْوِهِ.
فهذا بَيْتُ القَصِيْدِ مِنْ ذِكْرِ وكِتَابَةِ هذه الرِّسَالَةِ، إذْ هو مِنَ الخَطَأ بِمَكَانٍ لِتَعَلُّقِهِ بالعَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ، فهو لَيْسَ كَسَابِقِهِ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بالأخْبَارِ ومُنَاقَشَةِ أسَانِيْدِها كَلَاّ؛ بَلْ هو فَوْقَ ذَلِكَ!
لِذَا سَوْفَ أذْكُرُ بَعْضَ ما يُسْعِفُنِي ذِكْرُهُ تُجُاهَ هذا المُوْضُوْعِ اسْتِجْلاءً للحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَسْتُ هنا أنْتَزِعُ حُكْمًا، أو أُصْدِرُ رَأيًا بِقَدْرِ ما أسْتَخْلِصُهُ مِنْ أحْكَامٍ وفَوَائِدَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى، وسُنَّةِ رَسُولِهِ (، وكَلامِ أهْلِ العِلْمِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
ومِنْ خِلالِ هَذَا أحْبَبْتُ أنْ أقِفَ بالمُسْلِمِ على تَحْرِيْرِ مَوْقِعَتَيْ (الجَمَلِ وصِفِّيْنَ) تَحْرِيْرًا مُخْتَصَرًا بَعْدَ التَّنْقِيْحِ والتَّرْجِيْحِ لأخْبَارِهِمَا، مُسْتَعِيْنًا باللهِ تَعَالى ثُمَّ بِتَحْرِيْرَاتِ وتَحْقِيْقَاتِ أهْلِ العِلْمِ المُحَقِّقِيْنَ ابْتِدَاءً بِشَيْخِ المُفَسِّرِيْنَ: مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيْرٍ الطَبَرِيِّ (310)، وانْتِهَاءً بِشَيْخِ
الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (728)، ومَنْ بَعْدَهُما مِنْ أهْلِ العِلْمِ والرُّسُوْخِ، كُلُّ هذا لأهَمِيَّةِ هذه الفَتْرَةِ التَّارِيْخِيَّةِ كَمَا أسْلَفْتُ آنِفًا (1).
* * *
وممَّا شَجَّعَنِي أيْضًا على ذِكْرِ وتَحْرِيْرِ هَاتَيْنِ المَوْقِعَتَيْنِ أنَّ بَعْضَ شُدَاةِ العِلْمِ مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ كُلَّمَا مَرَّوْا بِهذه (الفِتْنَةِ) في كُتُبِ التَّارِيْخِ يَقَعُوْنَ في حَرَجٍ ولَبْسٍ في تَحْرِيْرِ بَعْضِ الأخْبَارِ والآثَارِ؛ مَعَ ما تُبْقِيْهِ مِنْ سُؤَالاتٍ ومَحَارَاتٍ تَفْتَقِرُ عِنْدَهُم إلى إجَابَاتٍ وإحَالاتٍ!
كَمَا أنَّنِي هنا لَم أكُنْ (ابنُ جَلا وطَلَاّعُ الثَّنَايا) في تَحْرِيْرِ هذه الفَتْرَةِ؛ اللهُمَّ ناقِلٌ مَعَ بَعْضِ التَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ، والتَّنْقِيْحِ والتَّرْجِيْحِ على قَوَاعِدِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمِاعَةِ.
(1) ومِنْ أحْسَنِ ما وَقَفْتُ عَلَيه مِنَ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ المُحَرِّرةِ في شَأنِ الصَّحَابةِ؛ لاسِيَّما مَوْقِعَةُ (الجَمَلِ وصِفِّيْنَ) ما كَتَبَهُ الأخُ مُحَمَّدُ أمَحْزُوْنُ في كِتَابِه المُفِيْدِ «تَحْقِيْقِ مَوَاقِفِ الصَّحابَةِ في الفِتْنَةِ مِنْ مَرْوِيَّاتِ الطَّبَرِيِّ «، فَقَدْ قَامَ حَفِظَه اللهُ بتَحْرِيْرٍ وتَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ، مع تَوْجِيْهِ الرِّوايَاتِ، وكَذَا نَاصِرُ بنُ عَلِيٌّ الشَّيْخُ فِي كِتَابِه الفَذِّ «عَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنةِ والجَمَاعَةِ في الصَّحابَةِ «، و «اسْتِشْهَادُ عُثْمَانَ ووَقْعَةُ الجَمَلِ «لخالِدِ الغَيْثِ، وغَيْرُهم كَثِيْرٌ!
وأخِيْرًا؛ دُوْنَكَ أخِي المُسْلِمُ هَاتَيْنِ المَوْقِعَتَيْنِ (الجَمَلَ، وصِفِّيْنَ) بَعْدَ تَحْرِيْرٍ واخْتِصَارٍ، واللهَ أسْألُ أنْ أكُوْنَ قَدْ قَرَّبْتُ لَكَ الطَّرِيْقَ، وذَلَّلْتُ لَكَ السَّبِيْلَ، فإلى المَوْعُوْدِ.