الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ السَّادِسُ
فَضَائِلُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه
أمَّا فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ فَكَمَا ذَكَرْنَا؛ فإنَّهَا أكْثَرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ، وأشْهَرُ مِنْ أنْ تُنْكَرَ، حَيْثُ دَلَّ على فَضْلِهِم والثَّنَاءِ عَلَيْهِم الكِتَابُ والسُّنَّةُ وإجْمَاعُ سَلَفِ الأمَّةِ، وعلى هذا مَشَى عُلَمَاءُ الأمَّةِ وعَامَّتُهُم على صِحَّةِ العَقِيْدَةِ، وسَلامَةِ الصُّدُورِ، ونَزَاهَةِ الألْسُنِ على أصْحَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، لا يَلْوُوْنَ على قَوْلٍ مُبْتَدَعٍ، أوْ رَأيٍّ مُخْتَرَعٍ.
* * *
ومَعَ هذا؛ فإنَّ طَائِفَةً مِنْ أهْلِ البِدَعِ والأهْوَاءِ لم تُمْسِكْ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَوَقَعَتْ فِيْمَا لايُحْمَدُ عُقْبَاهُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ!
فأمَّا الدُّنْيَا: فَقَدْ نَفَرَ مِنْهُم أهْلُ السُّنَّةِ عَامَّةً، وصَاحُوا بِهِم بَيْنَ النَّاسِ تَحْذِيرًا وتَنْفِيْرًا، وبارَزُوْهُم بالحُجَّةِ والبَيَانِ، ونابَذُوْهُم بالتَّشْهِيْرِ
والتَّعْيِيْرِ، فَهُم بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ (كالجَمَلِ الأجْرَبِ) مَنْبُوْذُوْنَ مَقْهُوْرُوْنَ مَخْذُوْلُوْنَ
…
وللهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ.
وأمَّا في الآخِرَةِ: فَيَوْمٌ تَجْتَمِعُ فِيْهِ الخُصُوْمُ، وتُوْضَعُ المَوَازِيْنُ، وتُنْشَرُ
الصُّحُفُ، وتُسَعَّرُ جَهَنَّمُ، وفِيْهِ يَغْضَبُ ربُّنَا غَضَبًا لم يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ولا بَعْدَهُ
…
فَحِيْنَئِذٍ سَيَقُوْمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُ عَنْ أصْحَابِهِ، ويَنْتَصِرُ لَهُم مِنْ أعْدَائِهِم
…
فَعِنْدَئِذٍ حِسَابٌ وعَذَابٌ، وذِلَّةٌ ونَارٌ، اللَّهُمَّ أحْفَظْ لَنَا قُلُوْبَنَا وألْسِنَتَنَا ما أبْقَيْتَنَا
…
آمِيْنَ!
فلا تَثْرِيْبَ ولا غَرَابَةَ، أن يُنَالَ مِنْ أصْحَابِ رسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، لمَّا قِيْلَ لَهَا: إنَّ نَاسًا يَتَنَاوَلُوْنَ أصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ:«أتَعْجَبُوْنَ مِنْ هَذَا؟! إنَّمَا قَطَعَ (اللهُ) عَنْهُم العَمَلَ، وأحَبَّ أنْ لا يقْطَعْ عَنْهُم الأجْرَ» (1) ابنُ عَسَاكِرَ.
وقَالَ المُغِيْرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله عنه: «لا جَرَمَ لمَّا انْقَطَعَتْ أعْمَارُهُم، أرَادَ اللهُ أنْ لا يَقْطَعَ الأجْرَ عَنْهُم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، والشَّقِيُّ مَنْ أبْغَضَهُم، والسَّعِيْدُ مَنْ أحَبَّهُم» (2).
* * *
(1) أخْرَجَهُ ابنُ عَسَاكِرَ في «تَبْيِيْنِ كَذِبِ المُفْتَرِي» ص (423).
(2)
«جَامِعُ الأُصُوْلِ» لابنِ الأثَيْرِ (9/ 411).
عِلْمًا أنَّ نَابِتَةً نَكِدَةً مَمْقُوْتَةً في زَمَانِنَا هذا قَدْ أطَلَّتْ بِرَأسِهَا تُرِيْدُ أنْ تَنْفُثَ سُمُومَ مَرَضِهَا وباطِلِهَا بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ لِلنَّيْلِ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، وكَأنِّي بِهَا عَمْيَاءُ شَوْهَاءُ لا حِرَاكَ لَهَا تُرِيْدُ أنْ تُزَاحِمَ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الأمَّةِ مِنْ صَفَاءٍ ونَقَاءٍ تُجَاهَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
لِذَا رَأيْتُ أنْ أُضَمِّنَ كِتَابِي هذا فَصْلاً عَنْ فَضْلِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، حَيْثُ لاكَتْهُ ألْسِنَةٌ، ونَفَرَتْ عَنْهُ قُلُوبٌ مَرْضَى!
ومُعَاوِيَةُ رضي الله عنه؛ كَانَ كَمَا قَالَ أئِمَّةُ السَّلَفِ: «مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه بِمَنْزِلَةِ حَلْقَةِ البَابِ: مَنْ حَرَّكَهُ اتَّهَمْنَاهُ على مَنْ فَوْقَهُ» (1).
وعَنْهُ قَالَ الرَّبِيْعُ بْنُ نَافِعٍ: «مُعَاوِيَةُ بْنُ أبي سُفْيَانَ سِتْرُ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإذَا كَشَفَ الرَّجُلُ السِّتْرَ اجْتَرَأَ على ما وَرَاءَهُ» (2).
* * *
وبَعْدَ هَذَا؛ فَهَذِهِ بَعْضُ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، مَعَ كَشْفِ بَعْضِ ما دَارَ حَوْلَهُ مِنْ شُبَهٍ وأقْوَالٍ مُحَرَّفَةٍ على غَيْرِ وجْهِهَا.
(1)«تَارِيْخُ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (59/ 210).
(2)
السَّابِقُ (59/ 209).
أمَّا فَضَائِلُهُ رضي الله عنه فَكَثِيْرَةٌ، نأخُذُ مِنْهَا على وَجْهِ الاخْتِصَارِ مَا يَلِي (1):
لا يَشُكُّ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ أنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه مِنْ أكَابِرِ الصَّحَابَةِ عِلْمًا، وحِلْمًا، ونَسَبًا، وقُرْبًا مِنْ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والحَالَةُ هَذِهِ فَمَحَبَّتُهُ حِيْنَئِذٍ واجِبَةٌ بالإجْمَاعِ!
كَمَا أنَّهُ رضي الله عنه: أمِيْنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على وَحْي رَبِّهِ، حَيْثُ كَانَ أحَدَ الكُتَّابِ لِلْرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحَّ في مُسْلِمٍ (2)، وغَيْرِهِ.
قَالَ أبُو نُعِيْمٍ رحمه الله: «كَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَسَنَ الكِتَابَةِ فَصِيْحًا حَلِيْمًا وَقُوْرًا» (3).
* * *
(1) هُنَاكَ جَمْهَرَةٌ مِنْ أهْلِ السُّنةِ لَهُم جُهُودٌ مَشْكوْرةٌ في الذَّبِّ عَنْ مُعاوِيَةَ رضي الله عنه، وذَلِكَ فِي تَصَانِيْفَ مُسْتَقِلَّةٍ، مِنْها:
«أخْبَارُ مُعَاوِيَة» ، و «حِكَمُ مُعَاوِيَة» كِلاهُما لابنِ أبِي الدُّنيا (281)، و «جُزْءٌ في فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ» لعُبِيْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيِّ (604)، و «تَنْزِيْهُ خَالِ المُؤْمِنِيْنَ مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيانَ» لأبي يَعْلَى الحَنْبَلِيِّ (458)، و «شَرْحُ عَقْدِ أهْلِ الإيْمَانِ في مُعَاوِيَةَ بنِ أبي سُفْيَانَ» لأبي عَليٍّ الأهْوَازِيِّ (446)، و «سُؤالٌ في مُعَاوِيَةِ بن أبي سُفْيانَ» لابنِ تَيمِيَّةَ (728)، و «تَطْهِيْرُ الجِنَانِ واللِّسَانِ» لابنِ حَجَرٍ الهَيْتَمِيِّ (973)، و «النَّاهِيَةُ» للفَرْهارَوِيِّ وغَيْرُها.
(2)
انْظُرْ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» (2501).
(3)
انْظُرْ «الإصَابَةَ» لابنِ حَجَرٍ (9/ 232).
وناهِيْكَ بِهَذِهِ المَرْتَبَةِ الرَّفِيْعَةِ: كِتَابَةُ الوَحِي، ومِنْ ثمَّ نَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلْمُعَافَى بْنِ عُمْرَانَ: أيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالعَزِيْزِ مِنْ مُعَاوِيَةَ؟ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيْدًا، وقَالَ:«لا يُقَاسُ بأصْحَابِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أحَدٌ، ومُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ، وصِهْرُهُ، وكَاتِبُهُ، وأمِيْنُهُ على وَحْي اللهِ» (1). وبِمِثْلِهِ قَالَ ابْنُ حَاتِمَ (327) لمَّا سُئِلَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ (2).
وقِيْلَ لِلإمَامِ أحْمَدَ: «هَلْ يُقَاسُ بأصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحَدٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ، قِيْلَ: فَمُعَاوِيَةُ أفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ؟ قَالَ: أيْ لَعَمْرِي، قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» (3).
ومِثْلُ ذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ، حَيْثُ سُئِلَ: يا أبا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أيُّمَا أفْضَلُ مُعَاوِيَةُ أوْ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ؟ فَقَالَ: «واللهِ إنَّ
(1) انْظُر «تَارِيْخَ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (59/ 208)، و «مُخْتَصَرَ تَطْهيْرِ الجِنَانِ واللِّسَانِ» لابنِ حَجَرٍ (47)، اخْتَصَرَهُ سُلَيْمَانُ الخَرَاشِيُّ.
(2)
انْظُرْ «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِهِ» لابنِ عَبْدِ البَرِّ (2/ 227).
(3)
«السُّنةُ» للخَلَاّلِ (435).
الغُبَارَ الَّذِي دَخَلَ أنْفَ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بألْفِ مَرَّةٍ، صَلَّى مُعَاوِيَةُ خَلْفَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ، فَمَا بَعْدَ هَذَا الشَّرَفِ الأعْظَمِ؟!» (1).
قَالَ أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ الصَّائِغُ: «وجَّهْنَا رِقْعَةً إلى أبي عَبْدِ اللهِ: ما تَقُوْلُ رحِمَكَ اللهُ فِيْمَنْ قَالَ: لا أقُوْلُ إنَّ مُعَاوِيَةَ كَاتِبُ الوَحِي، ولا أقُوْلُ إنَّهُ خَالُ المُؤْمِنِيْنَ، فإنَّهُ أخَذَها بالسَّيْفِ غَصْبًا (أي: البَيْعَةَ)؟، قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ: هذا قَوْلُ سُوْءٍ رَدِيْءٍ يُجَانَبُوْنَ هَؤُلاءِ القَوْمُ، ولا يُجَالَسُوْنَ ويُبَيَّنُ أمْرُهُم لِلْنَّاسِ» (2).
قِيْلَ لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ: «يا أبا سَعِيْدٍ إنَّ هَاهُنَا قَوْمًا يَشْتُمُوْنَ أوْ يَلْعَنُوْنَ مُعَاوِيَةَ، وابْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: على أولَئِكَ الَّذِيْنَ يَلْعَنُوْنَ: لَعْنَةُ اللهِ» (3).
* * *
(1) السَّابِقُ (48).
(2)
«السُّنةُ» للخَلَاّلِ (2/ 434).
(3)
«تَارِيْخُ دِمِشْقَ» لابنِ عَسَاكِرَ (59/ 206).
وجَاءَ رَجُلٌ إلى الإمَامِ إبي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ فَقَالَ: «يا أبا زُرْعَةَ، أنا أُبْغَضُ مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لأنَّهُ قَاتَلَ عَلِيَّ بنَ أبي طَالِبٍ، فَقَالَ أبُوزُرْعَةَ: إنَّ رَبَّ مُعَاوِيَةَ رَبٌّ رَحِيْمٌ، وخَصْمَ مُعَاوِيَةَ خَصْمٌ كَرِيْمٌ. فَأيْشَ دُخُوْلُكَ أنْتَ بَيْنَهُما رضي الله عنهم أجْمَعِينَ؟» (1).
* * *
ثمَّ إذا تَقَرَّرَ لِلْجَمِيْعِ أنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه كَاتِبُ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأمِيْنُهُ على وَحْي رَبِّهِ؛ كَانَ لِزَامًا أنْ نأمَنَهُ على أمُوْرِ دُنْيَانا قَطْعًا، والحَالَةُ هَذِهِ فمُعَاوِيَةُ رضي الله عنه قَدْ حَازَ الحُسْنَيَيْنِ (دُنْيًا وآخِرَةً)!
* * *
ومِنْ غُرَرِ فَضَائِلِهِ رضي الله عنه ما رَوَاهُ أحْمَدُ في (مُسْنَدِهِ)، والتِّرْمِذِيُّ في (سُنَنِهِ) أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اجْعَلَه هَادِيًا مَهْدِيًّا، واهْدِ بِهِ» (2) أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ.
فإنْ قُلْتَ: هَذَانِ اللَّفْظَانِ: «هَادِيًا مَهْدِيًا» ، مُتَرَادِفَانِ، أو مُتَلازِمَانِ؛ فَلِمَ جَمَعَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا؟!
(1) السَّابِقُ (59/ 141).
(2)
أخْرَجَهُ أحْمَدُ (4/ 216)، والتِّرْمِذِيُّ (3842)، وهُوَ صَحِيْحٌ، انْظُرْ «صَحِيْحَ التِّرْمِذِيِّ» (3018)، و «السِّلْسِلَةَ الصَّحِيْحَةَ» للألْبَانِيِّ رحمه الله (1969).
قُلْتُ: لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلا تَلازُمَ بَيْنَهُمَا ولا تَرَادُفَ، لأنَّ الإنْسَانَ قَدْ يَكُوْنُ مُهْتَدِيًا في نَفْسِهِ غَيْرَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ، وكذا قَدْ يَكُوْنُ هَادِيًا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مُهْتَدِيًا في نَفْسِهِ، فالأوَّلُ قَدْ أصْلَحَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ، وأفْسَدَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّاسِ، والآخَرُ قَدْ أصْلَحَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّاسِ، وأفْسَدَ ما بَيْنَهُ وبَيْنُ اللهِ، وقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هذا الدِّيْنَ بالرَّجُلِ الفَاجِرِ» (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فلأجْلِ هَذَا طَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ حِيَازَةَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ العَظِيْمَتَيْنِ!
* * *
ومِنْهَا: ما رَوَاهُ أحْمَدُ أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ في حَقِّ مُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الكِتَابَ، والحِسَابَ، وقِهِ العَذَابَ» (2) أحْمَدُ.
(1) أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (3062)، ومُسْلِمٌ (111).
(2)
أخْرَجَهُ أحْمَدُ (17152)، وأوْرَدَهُ الهَيْثَمِيُّ في «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» (9/ 356) وقَالَ:«رَوَاهُ البَزَّارُ وأحْمَدُ في حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ، والطَّبَرانِيُّ، وفيه الحَارِثُ بنُ زِيَادٍ ولَمْ أجِدْ مَنْ وَثَّقَهُ، ولَمْ يَرْوِ عَنْه إلَاّ يُوْنِسُ بنُ سَيْفٍ، وبَقِيَّةُ رِجَالِه ثِقَاتٌ، وفي بَعْضِهِم خِلافٌ» ، والحَدِيْثُ أخْرَجَهُ أيْضًا ابنُ حِبَّانَ (7210)، وقَالَ مُحَقِّقُ كِتَابِ «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» (2/ 913):«إسْنَادُهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ» وسَاقَ لَه شَاهِدًا، وبِهَذا يَكُوْنُ الحَدِيْثُ حَسَنًا وللهِ الحَمْدُ.
فَحَسْبُكَ أخِي المُسْلِمَ هذا الدُّعَاءُ الجَامِعُ النَّبَوِيُّ المُسْتَجَابُ مِنَ الرَّسُوْلِ صلى الله عليه وسلم!
ومِنْهَا: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه مَدَحَهُ، وأثْنَى عَلَيْهِ، ووَلَاّهُ دِمِشْقَ مُدَّةَ خِلافَةِ عُمَرَ، وكَذَلِكَ عُثْمَانَ رضي الله عنه، ونَاهِيْكَ بِهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيْمَةٌ مِنْ مَنَاقِبِ مُعَاوِيَةَ، ومَنِ الَّذِي كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَرْضَى بِهِ لِهَذِهِ الوِلايَةِ الوَاسِعَةِ المُسْتَمِرَّةِ (1)؟!
* * *
وهذا فَقِيْهُ الأمَّةِ وحَبْرُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه يَقُوْلُ في مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه فِيْمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ، حِيْنَ سُئِلَ: أنَّ مُعَاوِيَةَ أوْتَرَ بِرَكْعَةٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إنَّهُ فَقِيْهٌ» ، وفي رِوَايَةٍ:«إنَّهُ صَحِبَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (2).
وقَالَ أيْضًا رضي الله عنه: «مَا رَأيْتُ لِلْمُلْكِ أعلى مِنْ مُعَاوِيَةَ» (3) البُخَارِيُّ في تَارِيْخِهِ.
(1) انْظُرْ «مُخْتَصَرَ تَطْهِيْرِ الجِنَانِ واللِّسَانِ» ص (62 - 63).
(2)
أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (7/ 130) مَعَ الفَتْحِ.
(3)
انْظُرْ «الإصَابَةَ» لابنِ حَجَرٍ (9/ 233).
ومِنْهَا: ما جَاءَ عَنْ أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أنَّهُ قَالَ عَنْ مُعَاوِيَةَ:«ما رَأيْتُ أحَدًا بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أشْبَهَ صَلاةً بِرسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أمِيْرِكُم هَذَا» (1) يَعْنِي مُعَاوِيَةَ!
وهذا عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُوْلُ في شَأنِ مُعَاوِيَةَ: «لا تَكْرَهُوا إمَارَةَ مُعَاوِيَةَ، فإنَّكُم لَو فَقَدتُّمُوْهُ رَأيْتُمْ رُؤُوْسًا تَبْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا كأنَّها الحَنْظَلُ» (2) ابْنُ أبي شَيْبَةَ.
* * *
ومِنْهَا: أنَّهُ رَوَى عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَائَةَ حَدِيْثٍ وثَلاثَةً وسِتِّيْنَ حَدِيْثًا.
اتَّفَقَ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ على أرْبَعَةٍ، وانْفَرَدَ البُخَارِيُّ بأرْبَعَةٍ، ومُسْلِمٌ بِخَمْسَةٍ.
* * *
(1) انْظُرْ «مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ» للهَيْثَمِيِّ (9/ 360) وقَالَ عَنْهُ: «رَوَاهُ الطَّبَرانيُّ، ورِجَالَهُ رِجَالَ الصَّحِيْحِ غَيْرُ قَيْسِ بنِ الحَارِثِ المَذْحَجِيِّ، وهُوَ ثِقةٌ» .
(2)
أخْرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ في «المُصَنَّفِ» (15/ 293)، وانْظُرْ «تَنْزِيْهَ خَالِ المُؤْمِنِيْنَ» لأبي يَعْلَى (93).
ومِنْهَا: أنَّهُ لمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ أوْصَى أنْ يُكَفَّنَ في قَمِيْصٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَسَاهُ إيَّاهُ، وأنْ يُجْعَلَ ممَّا يَلِي جَسَدَهُ، وكَانَتْ عِنْدَهُ قُلامَةُ أظْفَارِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأوْصَى أنْ تُسْحَقَ وتُجْعَلَ في عَيْنَيْهِ وفَمِهِ (1).
أمَّا وَفاتُهُ رضي الله عنه؛ فَقَدِ اتَّفَقُوا أنَّهُ تُوُفِّيَ بِدِمِشْقَ، والمَشْهُوْرُ أنَّ وَفَاتَهُ كانَتْ لأرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ (60 هـ)، وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وثَمَانِيْنَ سَنَةٍ.
وبِهَذا نَكْتَفِي بِهَذا القَدْرِ مِنْ فَضَائِلِهِ رضي الله عنه وأرْضَاهُ
(1) انْظُرْ «سَيَرَ أعْلامِ النُّبلاءِ» للذَّهَبِيِّ (3/ 162).