الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه مسلم والنسائي «1» من
قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل تحت راية عمّية يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية»
وأبطل هذا التوارث بآية المواريث، وبقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6] .
الأحكام
يؤخذ من الآية: وجوب الوفاء بالتكاليف الإسلامية، وبالعقود التي يجريها الناس بعضهم مع بعض فيما هو مأذون فيه، كالقيام بأداء المهور والنفقات في باب النكاح، والمحافظة على مال المستأمن ونفسه في باب الأمان، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها على أصحابها سالمة، وما أشبه ذلك، ويؤخذ منها أيضا حلّ ذبائح الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها وحرمة الصيد في حال الإحرام.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) الشعائر: جمع شعيرة، وهي في الأصل ما جعل شعارا على الشيء وعلامة عليه، مأخوذ من الإشعار بمعنى الإعلام من جهة الإحساس، ويقال: شعرت بكذا أي علمته، ومنه سمّي الشاعر، لأنه بفطنته يشعر بما لا يشعر به غيره والمراد بالشعائر هنا قيل: مناسك الحج، وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: فرائض الله التي حدها لعباده، وهو قول عطاء، وقيل: الأحكام الإسلامية كلها، فإنّ أداءها أمارة على الإسلام والتعبد بأحكامه، وهو المعوّل عليه.
وإحلال الشعائر استباحتها والإخلال بأحكامها، وعدم المبالاة بحرمتها، والشهر الحرام رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فلامه للجنس، وسمّي الشهر حراما باعتبار أنّ إيقاع القتال فيه حرام.
والهدي ما يتقرب به المرء من النّعم ليذبح في الحرم.
والقلائد: جمع قلادة وهي تطلق على ما يعلّق في عنق المرأة للزينة، وعلى ما يعلّق في عنق البعير أو غيره من النعم من جلد أو قشر شجر ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له.
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1478) ، 33- كتاب الإمارة، 13- باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين حديث رقم (57/ 1850) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 139) ، كتاب التحريم، باب التغليظ حديث رقم (4125) .
والآمّون: جمع آم بمعنى قاصد من أم يؤم بمعنى قصد، والرضوان مصدر بمعنى الرضا، والشنآن مصدر بمعنى البغض يقال شنئته بالكسر أشنؤه بفتح النون شنئا بسكونها وشنآنا بفتح النون وسكونها أي أبغضته.
ينادي الله المؤمنين وينهاهم بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي أحكام دينه على الوجه العام أو أعمال الحج ومناسكه كالإحرام والطواف والوقوف بعرفة وبقية أعمال الحج، ومعنى إحلالها الإخلال بأحكامها كاستعمال الطيب ولبس المخيط والصيد والقرب من النساء فإن ذلك يخل بواجبات الإحرام وكطواف الزيارة محدثا أو جنبا فإن ذلك يخل بواجب الطهارة في الطواف والوقوف بعرفة حدثا أو جنبا أو بعد قربان النساء فإن ذلك يخل بواجب الطهارة وحرمة قربان النساء بالنسبة للوقوف ثم قال: ولا الشهر الحرام أي لا تحلوه بالقتال فيه وعدم المبالاة بحرمته وقد نسخ هذا الحكم.
بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فإنه ليس المراد بالأشهر الحرم أشهر الحج وإنما المراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض ويفكرون في أمر الإسلام مع التروي والنظر فإن اعتنقوا الإسلام في أثنائها فقد نجوا وإلا عاملهم بما عامل به غيرهم من القتل والأسر ويدل على أن هذا الحكم منسوخ الإجماع على جواز قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ثم قال:
ولا الهدى أي لا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم وإحلالها هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى وأخذوا من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم إلا أنهم استثنوا من ذلك هدى التطوع والقرآن والتمتع وحسا من المرقة فيبقى غيرها على عدم الجواز لأنها دماء مخالفات وكفارات وعقوبات فلا يجوز الانتفاع بشيء منها وقال:
وَلَا الْقَلائِدَ. أي لا تحلوا القلائد أي الهدايا ذوات القلائد والهدايا التي تقلد هي ما كانت للتطوع أو النذر أو القرآن أو التمتع أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. القلائد أعلام تقام للمسرات وذلك ظاهر إذا كانت للتطوع أمثاله أما إذا كانت بسبب الجنايات كانت عقوبات للمخالفات فلا وجه لإعلانها والتنويه بها.
وتفسير القلائد بالهدايا ذوات القلائد يدل على أنها نوع من الهدى السابق فكأنه قال لا تحلوا الهدى وخصوصا الهدايا ذوات القلائد ويحتمل أن يراد بالقلائد نفسها ويكون المراد النهى عن سلبها وتجريد الهدايا عنها فإن ذلك مما يعرض الهدايا للضياع.
وقوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي لا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام لزيارته بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان بأن تقاتلوهم أو تسلبوا أموالهم أو تزعجوهم وتخوفوهم.
وقوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من الضمير المسكن في آمّين أي لا تتعرضوا لهم حال كونهم يطلبون من ربهم ثوابا ورضوانا لتعبدهم في بيته الحرام.
قيل المراد بالآمّين المسلمين الذين يقصدون بيت الله للتعبد فيه وحينئذ يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للتشريف، ويكون ابتغاء الفضل والرضوان ظاهرا، وتكون الآية على هذا محكمة لا نسخ فيها.
وقيل المراد بالآمين المشركين، ويؤيده ما قيل من أن الآية نزلت في الحطم بن ضبعة البكري، حين قدم المدينة بخيله وأصحابه، ولكنه دخلها وحده حتى كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، ثم قام وقد وعد النبيّ عليه السلام بأن يأتي مع أصحابه ليسلموا، وانصرف مع أصحابه، فمر بسرح المدينة، فاستاق ما مرّ به وهرب، فلما كان موسم الحج، خرج الحطم حاجا في حجاج بني بكر بن وائل، ومعه تجارة عظيمة، فسأل المسلمون النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التعرض له فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلخ. وحينئذ يفسّر ابتغاء الفضل بطلب الرزق بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّهم كانوا يزعمون أنهم على سداد في دينهم، وأن الحجّ يقربهم إلى الله تعالى، ثم نسخت إباحة حجهم بعد ذلك.
وقيل: المراد بالآمين ما يشمل المسلمين والمشركين فإنهم كانوا يحجون جميعا، ثم نسخت إباحة حج المشركين بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] وقوله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] ويكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما للدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين.
فقد نهى الله تعالى المسلمين في صدر هذه الآية عن أمور خمسة:
منها ما ترغب النفوس في التمتع به كالمباحات التي حرّمت لأجل الإحرام من استعمال الطيب، ولبس المخيط، والقرب من النساء، واصطياد الطيور والحيوانات.
ومنها ما ترغب فيه النفوس بمقتضى شهواتها الغضبية كالانتقام ممن عاداها، وحال بينها وبين رغباتها.
ومنها ما ترغب فيه النفوس الضعيفة كالتعرض للهدايا، فأرشدهم الله تعالى إلى أنّ هذه الرغبة مهما عظمت لا تغيّر شيئا من أحكام الله تعالى، ثم قال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا خرجتم من الإحرام أبيح لكم الصيد، وبالطبع يحلّ لكم أيضا كل ما كان مباحا قبل الإحرام.
وإنما خص الصيد بالذكر لأنّهم كانوا يرغبون فيه كثيرا كبيرهم وصغيرهم وعظيمهم وحقيرهم، وللإشارة إلى أنّ الذي ينبغي الحرص عليه ما يعد قوتا تندفع به
الحاجة فقط، لا ما يكون من الكماليات، وما يكون إرضاء لشهوة الغضب.
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
جرم تتعدى إلى مفعول واحد، كقولك جرم ذنبا، وإلى مفعولين كما في الآية، أي لا يكسبنكم بغض قوم لأجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية أن تعتدوا عليهم للانتقام منهم، وهذا نهي عن إحلال قوم من الآمين خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهّم أنها مصححة لإحلالهم، وداعية إليه..
والشنآن مصدر أضيف إلى مفعوله، وأن صدوكم متعلق بالشنئان، بإضمار لام العلة، وإنما قدم قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا على هذه الجملة مع تعلقها بقوله: وَلَا آمِّينَ للإشارة إلى أنّ التحلل من الإحرام لا يصحّح لهم التعدي على الآمين بل يجب عدم التعرض لهم إلى أن يخرجوا من هذه العبادة فإنّهم لم يخرجوا عن أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، فالواجب أن يذكّر بعضكم بعضا بوجوب المحافظة على شعائر الله، وأن تتعاونوا على البر وأعمال الخير التي منها الإغضاء عن سيئات القوم احتراما للمسجد الحرام، وعلى التقوى أي تعاونوا على اتخاذ وقاية تقيكم من متابعة الهوى، والتمسك بأسباب العذاب الأليم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي لا تتعاونوا على الجرائم التي يأثم فاعلها، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم وهم يبتغون فضلا من ربهم وَاتَّقُوا اللَّهَ بفعل ما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه، وإظهار اسم الجلالة هنا لإدخال الروعة وتربية المهابة في القلوب.
قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) شروع في ذكر المحرّمات التي أشير إلى شيء منها بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فحرّم الميتة لخبث لحمها ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها. وهي الحيوان الذي مات دون ذكاة شرعية، فيحرم أكلها بالاتفاق، وأما شعرها وعظمها فقال الحنفية: طاهران يجوز استعمالهما، وقال الشافعية: نجسان لا يجوز استعمالهما، وقد استثني من الميتة المحرمة نوعان: السمك والجراد عند الجميع، ويدل على هذا الاستثناء ما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان،
فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال» ذكره الدارقطني «1» .
وحرم الدم أي المسفوح أي السائل من الحيوان عند التذكية، وأما الدم السائل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم، ويشوونه، ويأكلونه، فحرّمه الله، لأنه قذر يضر الأجسام.
وحرم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده باتفاق، وإنما خصّ اللحم بالذكر لأنه المقصود الأهم، وأما شعره فقال قوم بجواز استعماله في الخرز، والحقّ أن إباحة استعماله كانت للضرورة، وقد اندفعت الضرورة باختراع الآلات والأدوات التي تؤدي هذا المعنى بيسر.
وحرم ما أهل لغير الله به، أي حرم الحيوان الذي أهل أي رفع الصوت لغير الله بسببه أي عند ذبحه، سواء اقتصر على ذكر غير الله كقوله عند الذبح: باسم المسيح، أو باسم فلان، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله باسم الله واسم فلان، أما بدون العطف كقوله باسم الله المسيح نبي الله، أو باسم الله محمد رسول الله، فقال الحنفية: تحل الذبيحة، ويعتبر ذكر غيره كلاما مبتدأ، ولكنه يكره الوصل صورة بخلاف العطف: فإنّه يكون نصا في ذكر غير الله.
وحرم المنخنقة أي التي خنقت أو انخنقت بالشبكة أو بغيرها حتى ماتت.
وحرم الموقوذة أي التي ضربت بالخشب أو بالحجر حتى ماتت.
وحرم المتردية أي التي سقطت من علو إلى أسفل، أو وقعت في بئر فماتت.
وحرم النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح.
وحرم ما أكل السبع بعضه ومات بجرحه.
وهذه الخمسة تأخذ حكم الميتة التي ماتت حتف أنفها، لأنها لم تذكّ ذكاة شرعية، ولم يسل دمها بحيث يخرج جميعه منها، ثم قال: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه.
وتفصيل الكلام في ذلك: أنهم اتفقوا على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له، أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل، فقال قوم: تعمل فيه الذكاة، وهو المشهور من مذهب الشافعي، والمنقول عن الزهري وابن عباس، وهو مذهب الحنفية، فإنهم يقولون في كتبهم: متى كانت عينه تطرف، أو ذنبه يتحرك، أو رجله تركض، ثم ذكّي فهو حلال، وقال قوم: لا تعمل فيه الذكاة، وروي الوجهان عن الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين.
(1) رواه أحمد في المسند (2/ 97) .
ومنشأ الخلاف في أن الذكاة تعمل أو لا تعمل اختلافهم في أن الاستثناء متصل أو منقطع، فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل كلمة الاستثناء حرام، وما بعدها خرج منه، فيكون حلالا، ومن رأى أنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة، وكأنه قال ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال تتمتعون به كما تشاؤون.
ويؤيد القول بأن الاستثناء متصل إجماع العلماء على أن الذكاة تحلّل ما يغلب على الظن أنه يعيش، فيكون مخرجا لبعض ما يتناوله المستثنى منه فيكون الاستثناء فيه متصلا.
واحتج من قال: إن الاستثناء منقطع بأن التحريم إنما يتعلق بهذه الحيوانات بعد الموت وهي بعد الموت لا تذكى، فيكون الاستثناء منقطعا، وأجيب عن ذلك بأن الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحال، فإن ظاهر هذه الحيوانات أنها تموت بما أصيبت به، فتكون حراما بحسب الظاهر إلا ما أدرك حيا وذكّي، فإنه يكون حلالا، والتحريم وإن كان لا يتعلق بها حقيقة إلا بعد الموت كما يقولون، إلا أن اتصال الاستثناء يكفي فيه هذا الظاهر، خصوصا إذا لوحظ أنها إذا ذكيت وهي حية كانت مساوية لغيرها من بقية الحيوانات المذكاة، فلا وجه للقول بعدم حلها.
والاستثناء المتصل على ما تقدم يرجع إلى الأصناف الخمسة من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي وابن عباس والحسن، وقيل: إنه خاص بقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ والأول هو الظاهر.
وحرم وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: جمع نصاب كحمار وحمر، وقيل: جمع نصب بفتح وسكون، كسقف وسقف، وقيل مفرد، وجمعه أنصاب، كطنب وأطناب، وعلى كلّ فهي حجارة كانوا ينصبونها حول الكعبة، ويذبحون قرابينهم التي يتقرّبون بها إلى معبوداتهم عليها، ويعظّمونها، ويعتبرون الذبح لآلهتهم قربة، وكون الذبح على النصب قربة أخرى، ولهذا كانوا يلطّخون النصب بدم الذبائح، كأنهم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة.
وليست النصب هي الأوثان، فإنها حجارة غير منقوشة، بخلاف الأوثان فإنّها حجارة منقوشة.
وحرم الاستقسام بالأزلام أي محاولة معرفة ما قسم وقدر في الأمر من الخير أو الشر بالأزلام، جمع زلم بفتحتين، وهو السهم قبل أن يتصل ويراش، وهي سهام ثلاثة، كتب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، ولم يكتب على الثالث شيء، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو غير ذلك يعمد إلى هذه
السهام، وكانت موضوعة في حقيبة حول الكعبة، فيخرج منها واحدا فإن خرج الآمر مضى لحاجته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد التناول، وسميت هذه السهام أزلاما لأنّها زلمت بضم فكسر، أي سوّيت، فلم يكن نتوء أو انخفاض، وإنما ذكر هذا النوع هنا مع أنه ليس من المطعوم، لأنه لما كان يعمل حول الكعبة ذكر بجانب ما ذبح على النصب التي حول الكعبة.
ثم قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ يحتمل أن يكون راجعا إلى كل ما تقدم، أي أنّ التلبس بما تقدم ذكره تمرّد وخروج على أحكام الله تعالى، ويحتمل أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام، والمعنى أنّهم فسقوا وخرجوا عن الحد بالاستقسام بالأزلام، لأنّهم إن أرادوا بالرب في قولهم: أمرني ونهاني ربي جانب الله تعالى كانوا قد كذبوا على الله، وافتروا عليه، وإن أرادوا الأصنام كان ذلك شركا وجهالة، وعلى كلّ فقد فسقوا وتمردوا، وخرجوا عن الحد.
فإن قيل: إن الاستقسام بالأزلام لم يخرج عن أنه من جملة الفأل، وكان عليه السلام يحب الفأل «1» فلم صار فسقا؟
أجيب بالفرق بين الفأل وبين الاستقسام بالأزلام، فإنّ الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه، بخلاف الاستقسام بالأزلام فإنّ القوم كانوا يعملون بالأزلام عند الأصنام، ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد الأصنام وإعانتها، فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وكفرا.
ولما حذّر الله تعالى المؤمنين من تعاطي المحرمات التي ذكرها حرضهم على التمسك بما شرعه لهم، وثبته في قلوبهم، وبشرهم بما يقوّي عزيمتهم ويربّي فيهم الشجاعة والشهامة فقال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي من إبطال دينكم وغلبتكم عليه فَلا تَخْشَوْهُمْ أي لا تخافوا من أن يظهروا عليكم، واخشوا جانب الله تعالى فقط، أي استمروا على خشيته، والإخلاص له.
والمراد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الماضي والآتي. وقيل المراد يوم نزول هذه الآية، وهو يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتا في علم الله، قابلا للنسخ، ولكنها اليوم قد كملت، وصارت مؤبّدة صالحة لكل زمان ومكان، والمراد بإكماله إتمامه في نفسه وفي ظهوره، أما إتمامه في نفسه فكان
(1) رواه أحمد في المسند (2/ 332) .
باشتماله على الفرائض المقدسة، والحلال والحرام بالتنصيص على أصول العقائد، والتوقيف على أساس التشريع وقوانين الاجتهاد، نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)[الإخلاص: 1] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] ونحو إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل: 91] وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ونحو وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] .
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.
وأما إتمامه في ظهوره فكان بإعلاء كلمته، وغلبته على الأديان كلها، وموافقته للمصالح العامة، حتى إنّ كثيرا ممن لم يعتنقوا الدين الإسلامي يقتبسون منه ما يصلح أحوالهم، ويعين على ضبط أمورهم، وتدبير شؤونهم.
وقد تمسّك بعضهم بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ في نفي القياس، وبطلان العمل به، لأنّ إكمال الدين يقتضي أنه تعالى نصّ على أحكام جميع الوقائع، إذ لو بقي بعض لم يبيّن حكمه لم يكن الدّين كاملا.
وأجيب بأنّ غاية ما يقتضيه كمال الدين أن يكون الله تعالى قد أبان الطريق لجميع الأحكام، وقد أمر الله بالقياس، وتعبّد المكلفين به في مثل قوله تعالى:
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] فكان هذا مع النصوص الصريحة بيانا لكلّ أحكام الوقائع غاية الأمر أنّ الوقائع صارت قسمين: قسم نص الله تعالى على حكمه وقسم أرشد الله تعالى إلى أنّه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول، فلم تصلح الآية متمسكا لهم.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالإكمال في الدين والشريعة بما فتح الله عليكم من دخول مكة آمنين مطمئنين، ومن انقياد الناس لكم وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم دينا، تأتمرون بأوامره، وتنتهون بنواهيه، بحيث لا أقبل منكم غيره كما قال تعالى:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] .
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المخمصة المجاعة قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن، وهذه الجملة متصلة بذكر المحرّمات، وقوله:
ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى قوله: دِيناً اعتراض أكّد به معنى التحريم، فإنّ منع الناس عن هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ ألجأه الاضطرار وأصابه الضر فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة، فتناول من المحرمات شيئا غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل لإثم، وغير