الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في كلام العرب- إذا أرادوا بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه- أن يذكروا قبله ما هو عنوان وترجمة له، وهذا لا يكون إلا بأن يبنى الكلام على جملتين.
وقد يقال: ما الحكمة في أن بدأ الله في الزنى بالمرأة وفي السرقة بالرجل؟
والجواب: إن الزنى من المرأة أقبح، فإنّه يترتب عليه تلطيخ فراش الرجل، وفساد الأنساب، وعار على العشيرة أشد وألزم، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم، فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم.
وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر، فقدّموا عليهنّ لذلك.
حدّ الزنى
كان حد الزنى في أول الإسلام ما قصّه الله علينا في سورة النساء من قوله جلّ شأنه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)[النساء: 15، 16] فكانت عقوبة المرأة أن تحبس، وعقوبة الرجل أن يعيّر ويؤذى بالقول، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «1» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه كرب لذلك، وتربّد وجهه، فأنزل الله تعالى عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلمّا سرّي عنه قال:«خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم» .
معنى تربّد: تغيّر.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: سَبِيلًا فذكر الرجل بعد المرأة، ثم جمعهما فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فنسخ الله ذلك بآية الجلد فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وتقدّم لك في تفسير هاتين الآيتين ما يغني عن الإعادة، فارجع إليه في سورة النساء.
ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّ أولياء الأمر من
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 316) ، 29- كتاب الحدود، 3- باب حد الزنا، حديث رقم (13/ 1690) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 32) ، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (1434) ، وأبو داود في السنن (4/ 135) ، كتاب الحدود، باب في الرجم حديث رقم (4415) .
الحكام مكلّفون أن يجلدوا من زنى من ذكر أو أنثى مئة جلدة، سواء المحصن منهم وغيره. لكنّ السنة القطعية فرّقت في الحد بين المحصن وغير المحصن. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن تقدّم من السلف وعلماء الأمة، وأئمة المسلمين على أن من زنى وهو محصن فإنّه يرجم حتى يموت، ولا نعلم خلافا في ذلك لأحد إلا بعض المبتدعة من الخوارج، فإنّهم قالوا: إن الرجم غير مشروع، وإنه لا فرق في الحدّ بين المحصن وغير المحصن، وسنبيّن فساد مذهبهم إن شاء الله.
والقائلون بأن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه، أهو تمام ما على المحصن من العذاب، أم هو والجلد قبله حد المحصن.
فإلى الأوّل ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وإلى الثاني ذهب علي رضي الله عنه وإسحاق وأهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله.
فعلى رأي الجمهور يكون المراد بالزانية في الآية الكريمة البكرين، وتكون الآية مخصوصة بالسنة القطعية، أو بالآية المنسوخة التلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله» على كلام فيها.
وعلى رأي أهل الظاهر، تكون الآية باقية على عمومها، ويكون الرجم حكما زائدا في حقّ المحصن ثبت بالسنة.
والظاهر أيضا من قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّه يشمل الرقيق وغيره، فيكون الحدّ في الجميع واحدا، لكن قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أخرج الإماء من هذا الحكم، فإنّ الآية نزلت فيهن، وكذلك أخرج العبيد، لأنّه لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط.
وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة، إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس، يعني وهم لا يقولون به.
ومن الظاهرية من قال: الأمة إذا تزوجت فحدّها في الزنى خمسون جلدة لقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ إلخ. فإذا لم تتزوج فحدّها مئة جلدة للعموم في كلمة الزَّانِيَةُ.
وجمهور الفقهاء على رد هذين الرأيين بما سلف لك هنا وفي سورة النساء.
وكذلك عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ يشمل المسلم والكافر. غير أن الحربي لما يلتزم أحكامنا، ولم تنله يدنا كان خارجا من هذا الحكم، وبقي العموم فيمن عداه من المسلمين وأهل الذمة. وبهذا قال جمهور الفقهاء.
وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى، قيل: وهو مبنيّ على أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة.