الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتّى تشهد، وأن يعظها القاضي أو نائبه بمثل قوله لكل منهما عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب: اتق الله، فإنّها موجبة، ولعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، كما يستحب التغليظ بالزمان والمكان، وحضور جمع من عدول المسلمين، على خلاف في ذلك بين الفقهاء، محلّه كتب الفروع.
ما يترتب على اللعان
ظاهر قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وقوله جلّ شأنه: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنّ اللعان من الزوج يسقط عنه حدّ القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى، وبيان ذلك من وجهين:
الأول: أن قوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ إلخ معناه فالشهادة المشروعة في حقه التي تعمل عمل شهادة البينة إذا كان القاذف أجنبيا أن يأتي بكلمات اللعان على الوجه المبيّن في الآية، ومعلوم أنّ مقتضى شهادة البينة من الأجنبي وموجبها هو سقوط حد القذف عنه، ووجوب حد الزنى على المقذوف، وإذ قد أقام الله كلمات اللعان من الزوج مقام البينة من الأجنبي وجب أن يكون مقتضى كلمات اللعان وعملها هو شهادة الشهود الأربعة وعملها، فكما أسقطت الشهادة من الأجنبي حدّ القذف عنه، وأوجبت حد الزنى على المقذوف، كذلك كلمات اللعان من الزوج، تأخذ هذا المقتضى، وتعمل هذا العمل بعينه، فتسقط حد القذف عن الزوج، وتوجب حد الزنى على الزوجة.
والوجه الثاني: أنّ كلمة العذاب في قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ.. لا يصح أن يراد منها عذاب الآخرة، لأن الزوجة إن كانت كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعيّن أن يراد به عذاب الدنيا، ولا يصحّ أن تكون اللام فيه للجنس، لأنّ لعانها لا يدرأ عنها جميع أنواع العذاب في الدنيا، فتعين أن تكون اللام للعهد، والمعهود هو المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا هو عذاب حد الزنى. ويشهد لذلك
قوله صلى الله عليه وسلم لخولة بنت قيس كما في بعض الروايات «الرجم أهون عليك من غضب الله»
فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم. وأيضا
فقوله صلى الله عليه وسلم على ما في الروايات الأخرى التي بلغت حدّ الشهرة أو التواتر لخولة عند ما أتمت كلمات اللعان الأربع «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» «1»
يشهد بأن المراد بالعذاب الحد، إذ لو كان المراد به الحبس- وهي إنما تحبس لتلاعن- لما كان لتذكيرها بهذا القول من فائدة، فثبت من هذا أنّ لعان الزوج يسقط حد القذف عنه، ويوجب حد
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 21) ، وابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (18/ 66- 67) .
الزنى عليها، وحينئذ يكون لعانها مسقطا للحد عنها، وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحجازيون، وخلائق من العلماء.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته فليس عليه حد في قذف زوجته فكيف يسقط لعانه حدا لم يثبت عليه وكذلك لا يوجب لعانه حدّ الزنى على الزوجة، لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود أو بالإقرار أربع مرات، وليس لعان الرجل في قوة الشهود الأربعة، وليس نكولها بصريح في الإقرار.
وعلى هذا الخلاف ينبني خلافهم في حكم الممتنع من اللعان من الزوجين فمالك والشافعي ومن وافقهما يقولون: الزوج الممتنع من اللعان يدخل في حكم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، فإذا كانت زوجته ممن يحدّ قاذفها حدّ، وإلا عزر، لأنّ اللعان جعل رخصة له، فلما أبى أن يلاعن فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فكان حكمه وحكم غير الزوج سواء. والزوجة الممتنعة عن اللعان بعد لعان زوجها يقام عليها حدّ الزنى، وهو مختلف بإحصانها ورقها وحريتها.
والحنفية يقولون: إذا امتنع الزوج من اللعان حبس حتى يلاعن، لأن اللعان حق توجه عليه، وحكمه حكم سائر الحقوق التي لا يمكن استيفاؤها إلا بالقهر والتعزير، فللحاكم حبسه وتهديده حتى يلاعن أو يكذّب نفسه في القذف، فيقام عليه حده.
ووافق الحنفية الإمام أحمد في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه لا تحبس، ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة، وهذا قول غريب جدا، إذ كيف يخلّى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان، وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن.
فأولى الأقوال بالصواب هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، ودل عليه ظاهر القرآن من أنّ لعان الزوج يسقط عنه حد القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى. وأنّ لعانها يدرأ عنها حد الزنى، ولم تتعرض آيات اللعان لأكثر من هذه النتائج.
وأما نفي الولد، والفرقة بين المتلاعنين، والتحريم المؤبد بينهما، فإنّما مأخذها من السنة لا من القرآن الكريم. فنفي الولد مصرّح به في حادثة هلال بن أمية وغيرها، والروايات الدالة على أنه من نتائج اللعان كثيرة تكاد تبلغ حد الشهرة أو التواتر، وقد صرح العلماء بأنّ المقصود الأصلي من اللعان إنما هو نفي الولد.
وكذلك الفرقة بين المتلاعنين ثبتت بالسنة الصحيحة، وللعلماء في موجبها خلاف. فقال الشافعي: إنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة، وحجته في ذلك أنّها فرقة حاصلة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، كما قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ
ففيه دلالة على أنّ كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب عن الزوجة.
وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين وأهل الظاهر: لا تقع الفرقة إلا بلعانهما جميعا، فإن تمّ لعانهما حصلت الفرقة، ولا يعتبر تفريق الحاكم. واحتجوا بأنّ الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وأيضا لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي أجنبية، ولكنّه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين.
وقال أبو حنيفة وأحمد في روايته الأخرى: إنّ الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم بينهما، والحجة في ذلك قول ابن عباس في حديثه، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وهذا يقتضي أنّ الفرقة لم تحصل قبله، وقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فقوله هذا يقتضي بقاء العصمة بعد اللعان، إذ لو وقعت الفرقة باللعان لكان كلامه لغوا، وتطليقه إياها عبثا، ولما أقره النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من ذلك.
وقال عثمان البتي وطائفة من فقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقة البتة، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه، وهذا لا يوجب تحريما، كما لو قامت البينة على زناها. وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة عويمر العجلاني فذلك لأنّ الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان.
وأما التحريم المؤبد بينهما فقال به عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وجمع من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري وأبو عبيد، والسنة الصحيحة صريحة في أنّ المتلاعنين لا يجتمعان أبدا.
وقال أبو حنيفة ومحمد وسعيد بن المسيّب: إن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب، وقد يحتجّ لهم بعموم قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقوله جلّ شأنه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] .
والذي تقتضيه حكمة اللعان أن يكون التحريم مؤبدا، فإنّ لعنة الله وغضبه قد حلّ بأحدهما لا محالة، ولا نعلم عين من حلّ به ذلك منهما يقينا، فوجب التفريق بينهما خشية أن يكون الزوج هو الذي قد وجبت عليه لعنة الله، وباء بها، فيعلو امرأة غير ملعونة، وحكمة الشرع تأبى ذلك، كما تأبى أن يعلو الكافر المسلمة. وأيضا فإنّ النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا، فإنّ الرجل إن كان صادقا عليها، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذبا: فقد أضاف إلى ذلك أنّه بهتها، وزاد في غيظها وحسرتها.
كذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه
لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه، وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والإساءة والوحشة ما لا يكاد يلتئم معه شملهما، وما يبعد معه أن يعود بينهما السكن والمودة والرحمة التي هي سر الحياة الزوجية الهنية الراضية، فاقتضت حكمة الله- وشرعه كلّه حكمة ومصلحة وعدل ورحمة- تأبيد الفرقة بينهما، وقطع أسباب اتصالهما بعد أن تمحضت صحبتهما مفسدة، واستحال اجتماعهما إلى ضرر وشقاق.
هذه أحكام مترتبة على قذف الرجل زوجته وحدها، فأما إذا قذف معها أجنبي فهذا موضع قد اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحدّ للأجنبي.
وقال أحمد: يجب عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء أذكر المقذوف في لعانه أم لم يذكره. وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد له، كما يسقط الحد للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حد له.
والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة، فإنّه صلى الله عليه وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سمّاه صريحا، وأيضا فإنّ الزوج مضطر إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه، وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه، كما استدل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بشبه الولد بشريك، فكان قذفه تابعا لقذف الزوجة، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها.
وأجاب القائلون بأن اللعان لا يسقط حدّ الأجنبي عن عدم إقامة الحد لشريك بجوابين.
الأول: أن شريكا كان يهوديا، وهو باطل، والصحيح أن شريك بن عبدة، وأمه سحماء، وهو حليف الأنصار، ولم يكن يهوديا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه.
والجواب الثاني: أنه لم يطالب به، وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة، وهو غير سديد أيضا، لأن شريكا لما استقر عنده أنه لا حقّ له في هذا القذف لم يطالب به، ولم يتعرض لقاذفه. وإلا فغير معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه، والقوم كانوا أشدّ حميّة وأنفة، وأقوى تمسكا بالمحافظة على الكرامة.
هذا وقد استدلّ بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معيّن، لأنّ قول الزوج: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه، فإذا كان هذا جائزا فأولى منه بالجواز الدعاء باللعن على شخص مقطوع بكذبه.
وكذلك استدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر، وذلك لأنّ الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.