الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية لدفع هذا التوهم، وبيان أنّ الأطفال الذين قد رخّص لهم في ترك الاستئذان في غير العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا، كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلخ أي فعليهم أن يستأذنوا في كلّ الأوقات، ويرجعوا إذا قيل لهم ارجعوا.
الكلام في بلوغ الصبي
قال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في القاموس الحلم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب.
والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق.
جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث
…
وعن الصبيّ حتّى يحتلم» «1»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «غسل الجمعة واجب على كلّ حالم»
وفي رواية «على كل محتلم» «2»
وفي حديث معاذ «3» رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، يعني الجزية
. ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت.
لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار:
روى ابن سيرين عن أنس قال: أتي أبو بكر رضي الله عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة، فخلّى عنه.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 131) ، كتاب الحدود، باب المجنون يسرق حديث رقم (4403) .
(2)
رواه مسلم في الصحيح (2/ 580) ، 7- كتاب الجمعة، حديث رقم (5/ 846) ، والبخاري في الصحيح (1/ 239) ، 11- كتاب الجمعة، 2- باب فضل الغسل حديث رقم (879) .
(3)
رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 20) ، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر حديث رقم (623) ، وأبو داود في السنن، (2/ 14) ، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة حديث رقم (1576) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 26) ، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر حديث رقم (2451) ، وأحمد في المسند (5/ 230) .
الحدود، يقتص له ويقتص منه.
وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير.
وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ، يقال: أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال: كناية عن ذلك: اخضرّ إزاره. والشافعي رضي الله عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما
روى عطية القرظي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلى الله عليه وسلم «1» .
وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية «2» .
وروى عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عن غلام فقال: هل اخضرّ إزاره؟
وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ، إلا أنهم مختلفون في التقدير.
فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد: حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى.
دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام: 152] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة، فيبني الحكم عليه للتيقن، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع، فنقص في حقهن سنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.
وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة، ولهم أيضا ما
روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه «3»
. واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف، لا البلوغ وعدم البلوغ، فلعلّ عدم
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 132) ، كتاب الحدود، باب في الغلام حديث رقم (4404) .
(2)
مسلم في الصحيح، 32- كتاب الجهاد، 22- باب حديث رقم (64/ 1768) ، والبخاري في الصحيح (5/ 60) ، 64- كتاب المغازي، 31- باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (4121) .
(3)
رواه مسلم في الصحيح (3/ 1490) ، 33- كتاب الإمارة، 23- باب بيان سن البلوغ حديث رقم (9/ 1868) .
إجازته عليه الصلاة والسلام لابن عمر أولا إنما كان لضعفه، وإجازته إياه ثانيا إنما كانت لقوته وقدرته على حمل السلاح لا لبلوغه، ويشعر بذلك أنّه صلى الله عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن.
قال الله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) القواعد: جمع قاعد بغير تاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت «1» : امرأة قاعد: قعدت عن الحيض. وفي «القاموس» أنها هي التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ يخلعنها غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ أصل التبرج: التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم: الحسن. والبارجة: السفينة الكبيرة للقتال، والمراد بالتبرج هنا: تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.
رخّص الله للنساء العجائز اللائي أيسن، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج، أن يخلعن ثيابهن، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان:
الأول: أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة:
كالجلباب السابغ: الذي يغطي البدن كله، كالرداء الذي يكون فوق الثياب، وكالقناع:
الذي فوق الخمار.
وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ: أن يضعن من ثيابهن.
وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال: في مصحف أبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود أن يضعن جلابيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا.
قالوا: والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
والرأي لثاني: أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.
(1) يعقوب بن إسحاق، لغوي، أديب توفي (424 هـ) انظر الأعلام للزركلي (8/ 195) .
وقد يقال: إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟
والجواب: أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب، فإنّه أبعد عن الريبة بهن، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن، ونفى عنهن الجناح في ذلك، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة، وأنفى للظنّة.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.
وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها: وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب، ما دامت الفتنة مأمونة، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن، وانقطعت رغبتهن في الرجال.
ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه، ووضع المرأة ثوبها، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته، وأمام أهله ومحارمه.
ففي «صحيح مسلم» «1» وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر، تضعين ثيابك عنده.
وفي رواية: «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك»
ظاهر أنّ المراد من
قوله صلى الله عليه وسلم: «تضعين ثيابك عنده»
أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.
قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
(1) سبق تخريجه.
الحرج: الضيق. ومنه الحرجة للشجر الملتف بعضه ببعض، لضيق المسالك فيه، والمراد بالحرج هنا الإثم.
والمفاتح: جمع مفتح أو مفتاح، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه، كأن يكون وكيلا عن رب المال، أو قيمه في ضيعته وماشيته.
والصديق: من يصدق في مودتك وتصدق في مودته، يقع على الواحد وعلى الجمع، والمراد به هنا الجمع.
والأشتات: جمع شتّ، صفة مشبهة على فعل كحق. يقال أمر شتّ أي متفرق.
وأصل معنى التحية طلب الحياة، كأن يقول: حيّاك الله، ثم توسّع فيه، فاستعمل في كل دعاء، وتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر.
طَيِّبَةً تطيب بها نفس السامع.
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية اختلافا كثيرا، نشأ عنه اختلاف أهل التأويل في معنى الآية، وأوجه اتصال جملها بعضها ببعض، فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة، نذكر لك منها أقربها للصواب، وأولاها بالاعتبار:
فمنها: ما اختاره ابن جرير «1» وهو أنّ المراد نفي الحرج عن العمي والعرج والمرضى وجميع الناس في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكر الله، فيكون الله قد نفى الحرج عن أهل العذر أولا، ثم نفى الحرج عن المخاطبين، ثم جمع المخاطبين مع أهل العذر في الخطاب بقوله: أَنْ تَأْكُلُوا وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلّبت المخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا.
أخرج ابن جرير «2» عن معمر قال: قلت للزهري في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون:
(1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 130) .
(2)
المرجع نفسه (18/ 129) . [.....]
قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون: لا ندخلها وهم غيّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.
وقد يقال: إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه، وأنه كان حلالا لهم، فما معنى نفي الحرج فيه؟
والجواب: أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: 46] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا: الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.
وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ على بيوت الزوجات والأولاد.
ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان: وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله فالمعنى: ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.
وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام- قرب الجامع بينهما، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري «1» : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فنقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.
فإن قيل: فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قيل: إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه
(1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 257) .
صلّى الله عليه وسلّم، فلهم القعود عن الجهاد من غير استئذان ولا إذن، كما أنّ للمماليك والصبيان دخول البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهلها.
ومنها: أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة عَلَى بمعنى (في) فقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلخ معناه ليس في الأعمى حرج، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ.
ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية «2» . أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ.
وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب: الآباء، والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات.
وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره، والأكل من بيوت الأصدقاء، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت، فهي في ظاهرها تنافي
قوله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» «3»
وما
في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» «4»
وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت، دون شرط ولا قيد، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان، وهو معارض لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم، وأقلهم حجّابا، كان دخولهم بيت غيره صلى الله عليه وسلم بغير إذن أولى بالحظر، وأدخل في المنع.
(1) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 128- 129) .
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
رواه أبو داود في السنن (2/ 386) ، كتاب الجهاد، باب فيمن قال لا يحلب حديث رقم (2623) .
من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين: إنما كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ بما تلونا، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: هذه الآية في الأقارب الكفرة، أباح الله سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وقال قتادة: الآية التي معنا على ظاهرها، والأكل مباح دون إذن، لكنه لا يجمل.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وقد يقال: إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟
والجواب: أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.
عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبون عليها يأكلون، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا، وضحك وقال: هكذا وجدناهم، يريد أكابر الصحابة.
وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت: لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة.
ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن، فهذا الظاهر غير مراد قطعا، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق، ولم يقل بذلك أحد.
والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض، ولا عبرة بنيته وقصده، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.
وأما قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فللمفسرين فيه رأيان:
الأول: أنّه كلام متصل بما قبله، ومن تمامه، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل
نفسه أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها، كأنّه قيل: هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً.
والرأي الثاني: أنّه كلام منقطع عما قبله، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، قال حاتم الطائي:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
…
أكيلا، فإنّي لست آكله وحدي
وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه.
وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم، وتعطيل مصالحهم، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.
وقد يقال: إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة، وأن تركه بغير داع مذمة.
وفي الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده» .
والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا، لا بخلا بالمشاركة، ولا كراهة في القرى.
ووجه آخر: وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية، فكأنّ الآية تشير
إلى أن القرابة والصداقة ليس معناهما إغفال الآداب العامة، وإهدار الحقوق الإسلامية، فإذا دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فلا بدّ أن تسلموا عليهم، لأنّهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنّكم حين تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم.
هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد، والسلام على الأنفس باق على ظاهره، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين، فإذا دخل الرجل بيته قال: السلام علينا من ربنا إلخ.
وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار، وداخلها يقول ما تقدم، أو يقول: السلام على من اتبع الهدى.
وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند الله أنها ثابتة بأمره تعالى، ومشروعة من لدنه عز وجل.
قال الضحاك: في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى، سمعت الله تعالى يقول: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.