الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: المراد الشهادة على الناس بمعاصيهم يوم القيامة كما في قوله تعالى:
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] أي كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأنهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل المراد الشهادة لأمر الله بأنّه الحق، والظاهر الأول، وإن كان الثاني أنسب بكون الآية نزلت في يهود بني النضير، ومعنى كونه يشهد لله أنه لا يحابي بشهادته أهل وده وقرابته، ولا يمنع شهادته عن أعدائه وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي لا يحملنّكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم في معاملتهم، وأن تظلموهم في محاكمتكم لهم، وأن تعتدوا عليهم في أنفسهم وأولادهم.
قيل: نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إليه بذلك، ونجّاه من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ستّ ليال، اشتد الأمر فيها عليهم، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتفي منهم بالجلاء، وأن يكفّ عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل.
وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم، ويكثر من الفتك فيهم فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه «1» .
وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفّف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك بالمشركين بأيّ نوع من أنواع الفتك.
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أولا عن أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم صرّح لهم بالأمر بالعدل، للتأكيد، ثم ذكر علة الأمر بالعدل بقوله: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام، أو المعنى: أن العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء عذاب الله على الوجه العام أيضا، وبه يندفع ما قد يقال: إن العدل من التقوى، فكيف يقال هو أقرب للتقوى.
ثم أمر بالتقوى على الوجه العام فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اتخذوا وقاية من عذابه في جميع أعمالكم، فإنّ الله خبير بما تعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
الأحكام
يؤخذ من الآية ما يأتي:
1-
وجوب القيام لله تعالى بكل التكاليف التي وجهها إلينا.
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (6/ 91) .
2-
وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم.
3-
وجوب العدل في معاملة الأعداء والأحباب.
4-
وجوب تقوى الله على الوجه العام.
قال الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
نص الله تعالى في الآية السابقة على تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض حيث قال: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وبيّن في هذه الآية أنّ الفساد الذي يوجب القتل ما هو؟ فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل كشهادة الزور والسرقات وهتك الأعراض من غير المحصن، فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إلخ.
نزلت هذه الآية في قطّاع الطريق لا في المشركين ولا في المرتدين، فإنّ كلّا منهما إذا تاب قبلت توبته، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها، أمّا قطّاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
قيل: نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه، وأنه إن أتاه أحد من المسلمين أو مرّ عليه من يقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتعرض له بسوء، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال، وكان هلال غائبا، فقطعوا عليهم الطريق، وقتلوا منهم، وأخذوا أموالهم.
وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين. وعلى كلّ فقوله: يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يتناول كلّ من اتصف بهذه الصفة سواء أكان كافرا أم مسلما، غاية الأمر أن يقال: إنّ الآية نزلت في الكفار، ولكنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومحاربة الناس لله على وجه الحقيقة غير ممكنة، لتنزهه عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل أو تقاتل، ولأنّ المحاربة تستلزم أن يكون كلّ من المتحاربين في جهة ومكان، والله منزّه عن ذلك، فيكون مجازا، إما من المخالفة والإغضاب مع التلبس بحالة تشبه حالة المحاربين، فإنّ قطّاع الطريق يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق، أو المعنى يحاربون أولياء الله
ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] .
والمحاربون هم الذين يجتمعون بقوة وشوكة يحمي بعضهم بعضا، ويقصدون المسلمين، أو أهل الذمة في أرواحهم وأموالهم.
والسعي في الأرض بالفساد عبارة عن إخافة الطرق بحمل السلاح، وإزعاج الناس، سواء أصحبه قتل النفوس وأخذ الأموال أم لا.
واتفق العلماء على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطّاع الطريق، وأما إذا حصلت في المصر ففيها الخلاف، فقال أبو حنيفة: لا يكون قاطعا للطريق، لأنّ المجني عليه يلحقه الغوث في الغالب، فلا يتمكن المجتمعون من المقاتلة، وروي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية، وروي عنه أيضا إذا كابر في المصر باللصوصية كان محاربا، تجري عليه أحكام قطاع الطريق، وهو مذهب الإمام الشافعي، لإطلاق قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ.
واختلفوا في الحكم المستفاد من هذه الآية، فقال قوم من السلف: الآية تدل على التخيير بين هذه الأجزية، فمتى خرجوا لقطع الطريق وقدر عليهم الإمام خيّر بين أن يجري عليهم أيّ نوع من هذه الأحكام، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وهو مذهب المالكية.
وقال قوم آخرون من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على ما يليق بها من الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطّعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السّبل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي من الأرض، وهو ما رواه عطاء عن ابن عباس، وذهب إليه قتادة والأوزاعي، وهو مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وأكثر العلماء.
وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص، وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فالإمام مخيّر في أمور أربعة:
إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم.
وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم.
وإن شاء صلبهم فقط.
وإن شاء قتلهم فقط. ولا يجوز إفراد القطع في هذه الحالة، بل لا بدّ من انضمام القتل أو الصلب إليه، لأنّ الجناية قتل وأخذ مال، والقتل وحده فيه القتل، وأخذ المال وحده فيه القطع، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل القطع وحده، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة.
وقال صاحباه: في هذه الصورة يصلّبون ويقتلون ولا يقطعون، واتفق أبو حنيفة
مع أصحابه على أنهم إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف لا غير، وإن أخافوا الطريق ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا نفسا ينفون من الأرض.
حجة المالكية ظاهر الآية، فإنّ الله تعالى ذكر هذه الأجزية بكلمة (أو) وهي موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيجب العمل بحقيقة هذا الحرف ما لم يدل الدليل على خلافه، ولم يوجد، فيثبت التخيير.
حجة الشافعية والصاحبين وأكثر العلماء: أنّ الآية لا يمكن إجراؤهما على ظاهر التخيير في مطلق المحارب لأمرين:
الأول: أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، يزداد بازديادها، وينقص بنقصها، وقد وردت الشريعة بهذا الذي يراه العقل حيث قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] فالتخيير في جزاء الجناية القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة، وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء القاصرة خلاف المشروع، يؤيّد هذا إجماع الأمة على أنّ قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال لا يكون جزاؤهم المعقول النفي وحده، وهو يدل على أنّه لا يمكن العمل بظاهر التخيير.
والثاني: أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، أما إذا كان السبب مختلفا، فإنّه يخرج التخيير عن ظاهره، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وقطع الطريق متنوع، وبين أنواعه تفاوت في الجريمة، فقد يكون بأخذ المال فقط، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الأمرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب العقاب مختلفا، فلا يحمل ظاهر النص على التخيير، بل يحمل على بيان الحكم لكل نوع، فيقتلون ويصلبون إن قتلوا وأخذوا، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال لا غير، وينفون من الأرض إن أخافوا الطريق ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.
ونظير ذلك قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف: 86] فإنّه ليس الغرض التخيير، وإنما المعنى ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا، فلما اختلف السبب لم تحمل الآية على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع.
ويؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة أنّ الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير بالمرة، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين
الأجزية الثلاثة، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص، وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى، لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير، وبما هو المعقول المؤيد بما وردت به الشريعة.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ معطوف على يُحارِبُونَ وقوله: فَساداً حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله باسم الفاعل، أو هو مصدر مؤكّد ل يَسْعَوْنَ فإنّه بمعنى يفسدون إفسادا، فهو مصدر حذفت زوائده، أو هو اسم مصدر مؤكد.
وقوله: أَنْ يُقَتَّلُوا خبر عن المبتدأ الذي هو (جزاء) والمراد يقتلون حدا، أي من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا يسقط القتل حينئذ بعفو الأولياء، ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أو بغيرها، والإتيان بصيغة التفعيل لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء.
وقوله: أَوْ يُصَلَّبُوا أي مع القتل إن قتلوا النفس وأخذوا المال.
وقوله: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي إن أخذوا المال لا غير، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا الطريق، ولم يقتلوا نفسا، ولم يأخذوا مالا.
وكيفية الصلب أن يصلب حيا على الطريق العام يوما واحدا، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء، ثم يطعن برمح حتى يموت، وهو مرويّ عن أبي يوسف، وذكره الكرخي أيضا.
وقيل: يقتل ويصلّى عليه، ثم يصلب، وهو مذهب الشافعية، والنفي من الأرض هو الحبس عند الحنفية، والعرب تستعمل النفي بهذا المعنى كثيرا، لأنّ الشخص إذا نفي فارق بيته وأهله، فكأنّه نفي من الأرض، وقيل: النفي هو طلبهم عند الفرار، وعدم تمكينهم من الإقامة في مكان خاص، بمعنى أنه إذا طلبهم الإمام، فإن قدر عليهم أقام عليهم الحد، وإن هربوا طلبهم في البلدة التي ينزلون بها، فإن هربوا إلى بلدة أخرى طلبهم أيضا، وهكذا.
وكيفية القطع أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، سواء أكانوا أخذوا المال من مسلم أم من ذمي، بشرط أن يكون المال بحيث لو قسم يخص كل واحد: قدر عشرة دراهم عند الحنفية، أو ربع دينار عند الشافعية كما في السرقة، ولم يعتبر الإمام مالك هذا الشرط، لأنّه يرى إجراء الحكم عليهم بأي نوع من أنواعه بمجرد الخروج، ولو لم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.
ذلِكَ الذي فصل من الأحكام لَهُمْ خِزْيٌ كائن فِي الدُّنْيا أي ذل وفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جناياتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أنّ لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا، لأن
الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها.
ويؤخذ من الآية أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة حيث قال: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ فالحدود من الزواجر لا من الجوابر، كما هو صريح الآية، وقيل: إن الحدود تجبر الذنوب وتكفرها، بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» «1» .
وأجيب عن الحديث بأن الآية قطعية فيجب أن يقيّد الحديث الذي هو ظني بما لا يتنافى مع الآية، وقد قالوا: يجب حمل الحديث على ما إذا تاب عن الذنب، فتوبته تكفّر إثم الجريمة، وإنما أضاف الكفارة إلى العقاب في الحديث باعتبار أنّ الظاهر أن من يقع في يد الحاكم، ويرى أنّ الحد واقع عليه لا محالة يندم على ما فعل، ويتوب منه، فيكفّر الله عنه إثم الجريمة، فيكون العقاب سببا في الكفارة بواسطة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء لإخراج بعض ما تناول اللفظ، ولكنّه مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أما ما هو من حقوق الأولياء من قصاص أو مظلمة في مال أو غيره فهو ثابت لهم، إن شاؤوا عفوا، وإن شاؤوا استوفوا.
والمراد أنّ التوبة قبل القدرة عليهم لا تسقط عنهم القتل حدا، الذي من آثاره أنه ينفّذ عليهم ولو عفا الأولياء، ولا تسقط عنهم القتل قصاصا، الذي أمره مفوّض إلى رأي الأولياء، إن شاؤوا عفوا، وإن شاؤوا استوفوا.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) سبق هذه الآية بيان خطر القتل والفساد وحكمهما، والإشارة إلى الغفران للتائبين، فكان من المناسب أن يأمر الله المؤمنين أن يتقوه في كل ما يأتون وما يذرون، فيتركوا المعاصي ومن جملتها القتل والفساد، ويفعلوا الطاعات ومنها السعي في إحياء النفوس، ودفع الفساد، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. فقال جلّ شأنه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.
ثم قال: وَابْتَغُوا أي اطلبوا لأنفسكم إِلَيْهِ أي إلى ثوابه ورضاه الْوَسِيلَةَ أي افعلوا الطاعات، واتركوا ما نهاكم عنه، فذلكم وحده هو الطريق
(1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 20) ، 86- كتاب الحدود، 9- باب الحدود حديث رقم (6784) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1333) ، 29- كتاب الحدود، 10- باب الحدود حديث رقم (41/ 1709) .
المقرّبة من رضاه، الموصلة إلى ثوابه. والوسيلة فعلية بمعنى ما يتوسل به، أي يتقرب، وليست مصدرا، ولذا تعلّق بها ما قبلها، وهو (إليه) .
قال العلامة أبو السعود «1» : ولعلّ المراد بها الاتقاء المأمور به، فإنّه ملاك الأمر كله، كما أشير إليه، وذريعة لنيل كل خير، ومنجاة من كل ضير. فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخولا أولياء.
وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات.
ولما كان فعل الحسنات وترك السيئات شاقا على النفس الداعية إلى اللذات الحسية، المخالفة للعقل الداعي إلى الفضائل أردف الله تعالى هذا التكليف بقوله:
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
قال الإمام فخر الدين «2» : وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو: أن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر، والمقام الأول هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته، والمقام الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه، والفوز بالمحبوب.
قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
أوجب الله تعالى في الآية السابقة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، وبيّن في هذه الآية أنّ أخذ المال على سبيل السرقة يوجب القطع أيضا، وإن كان بينهما اختلاف ما.
قيل: نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق، به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة التمسها عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتتبعوه حتى وصل إلى بيت زيد، فأخذوها منه، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن طعمة، لأنّ الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى، وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النساء: 107] ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة، وفرّ طعمة، ومات أثناء فراره.
(1) في تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 32) .
(2)
في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (11/ 220) .
وَالسَّارِقُ مبتدأ خبره محذوف، والمعنى حكم السارق والسارقة مما يتلى عليكم، وقوله: فَاقْطَعُوا جملة مبينة لحكمهما، فهما جملتان، ويحتمل أن تكون جملة فَاقْطَعُوا خبرا عن المبتدأ، وحسّن اقترانها بالفاء أنّ الألف واللام في المبتدأ قائمة مقام الاسم الموصول، وخبره يقترن بالفاء كثيرا، خصوصا إذا روعي أنه جزاء، والجزاء يقترن بالفاء.
ولما كانت السرقة معهودة كثيرا من النساء كالرجال صرّح بالسارقة للزجر، ومزيد العناية بالبيان، وإن كان المعهود إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال.
والسرقة في اللغة: أخذ المال مطلقا في خفاء وحيلة، ولكنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبيّن أنّ قطع الأيدي لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معيّن مقدارا معينا من حرز المثل، ولذلك عرف الفقهاء السرقة بأنها: أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا خفية من حرز بمكان، أو حافظ، ودون شبهة.
أما العقل والبلوغ فلأنّ السرقة جناية، وهي لا تتحقق دونهما.
وأما المقدار فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا، أو قيمتها من غيرها، وروي عن الصاحبين أنه لا قطع إلا فيما يساوي عشرة دراهم مضروبة.
وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا قطع إلا في ربع دينار.
حجة الحنفية ما
رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» «1» .
وما روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم من أنهم كانوا يقولون: لا قطع إلا في عشرة دراهم.
وحجة المالكية والشافعية: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» وما
روي عن عائشة أيضا من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تقطع يد السّارق إلا في ربع دينار فصاعدا» «2» وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأنّ الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأنّ الحظر مقدّم على الإباحة أمكن ترجيح مذهب الحنفية، لأنّ المجنّ المسروق في عهده
(1) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 455) ، كتاب قطع السارق حديث رقم (4956) .
(2)
رواه البخاري في الصحيح (8/ 21) ، 86- كتاب الحدود، 14- باب قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ حديث رقم (6789) .
عليه الصلاة والسلام الذي قطعت فيه يد السارق، وهو الأصل الذي تقطع في مثله يد السارق قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأنّ الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والشبهة تدرأ الحدود، ولأنّ التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدّم على المبيح.
فالاحتياط في عقوبة القطع يقضي بأنّ اليد لا تقطع إلا في سرقة عشرة دراهم فما فوقها.
وأما اعتبار الحرز، فلما
ورد من أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن حريسة الجبل فقال: «فيها غرامة مثلها، وجلدات نكالا، فإذا آواها المراح، وبلغ ثمن المجن، ففيها القطع» «1»
. ولما
ورد من أنه عليه السلام قال: «ليس في الثمر المعلّق قطع حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن» «2»
ومنه يعلم أنّ الإحراز شرط في القطع.
والحرز قد يكون بما بني للسكنى وحفظ الأموال، ومثله المضارب والخيم والفسطاط مما يسكن الناس فيه، ويحفظون به أمتعتهم.
وقد يكون الحرز بالحافظ في الصحراء والمساجد والرحاب والطرقات أما النوع الأول من الحرز فهو ظاهر، وأما الثاني فالأصل في كون الحافظ حرزا
حديث صفوان بن أمية حين دخل المسجد ونام فيه، وتوسّد رداءه، فاستل اللص الرداء من تحت رأسه، واستيقظ صفوان، فأدرك اللص وساقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عليه الصلاة والسلام بقطعه، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة.
فقال عليه الصلاة والسلام: «فهلا قبل أن تأتيني به» «3» .
وأما اعتبار عدم الشبهة، فلما روي واشتهر من
قوله عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» «4»
. فلا يقطع من سرق من مال له فيه شركة أو سرق من مدينة مثل دينه، ولا يقطع
(1) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 456) ، كتاب قطع السارق، باب التمر المعلق حديث رقم (4957) .
(2)
المرجع نفسه (4958) .
(3)
رواه أبو داود في السنن (4/ 128) ، كتاب الحدود، باب فيمن يسرق حديث رقم (4394) والنسائي في السنن (7- 8/ 438) ، كتاب السرقة، باب الرجل يتجاوز للسارق حديث رقم (4893) ، وابن ماجه في السنن (2/ 865) ، كتاب الحدود باب من سرق حديث رقم (2595) .
(4)
رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 25) ، كتاب الحدود، باب ما جاء من درء الحدود حديث رقم (1424) .
العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، وما أشبه ذلك لوجود الشبهة، ولا قطع معها.
وتثبت السرقة بالإقرار مرّة، وبشهادة رجلين على السرقة للقطع، فإن شهد رجل وامرأتان على السرقة لا تقبل للقطع، ولكنّها تقبل لضمان المسروق، وهذا مذهب الحنفية والمالكية الشافعية.
وإطلاق السارق يشمل الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، والمسلمين والذميين.
وفي قوله: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي القسمة آحادا، فيدلّ التركيب على أنّ كل سارق تقطع منه يد واحدة، واليد التي تقطع هي اليمنى للإجماع على ذلك، ولقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (فاقطعوا أيمانهما) .
واليد تطلق على العضو المخصوص إلى المنكب، وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] والمراد ما كان إلى مفصل الكفّ، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول، ولا بين فقهاء الأمصار في أنّ قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكفّ لا إلى المرفق ولا إلى المنكب، وقال الخوارج، تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تقطع الأصابع فقط.
حجة الجمهور ما
رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ
، وما
روي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرّسغ
، فكان هو المعوّل عليه.
وإذا عاد السارق إلى السرقة ثانيا قطعت رجله اليسرى باتفاق الحنفية والمالكية والشافعية لما
رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع الرجل بعد اليد.
ولما
روي عن علي وعمر أن كلا منهما كان يقطع يد السارق اليمنى، ولما عاد السارق إلى السرقة قطع كل منهما رجله اليسرى
، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر على كل منهما أحد، فكان إجماعا.
ولما
رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله» «1» .
(1) انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، كتاب السرقة، باب ما يقطع فيه وما لا يقطع (3/ 562) .
وإذا عاد إلى السرقة ثالثا وقف القطع عند الحنفية، فلا يقطع منه عضو بعد ذلك، ولكنّه يضمّن المسروق، ويعزّر بالحبس حتى تظهر توبته، لما
روي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بسارق للمرة الثالثة فقال: لا أقطع، إن قطعت يده فبأيّ شيء يأكل، وبأي شيء يستنجي، وإن قطعت رجله فبأيّ شيء يمشي، إني لأستحيي من الله، ثم ضربه بخشبة وحبسه «1» .
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند المالكية والشافعية:
تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعا تقطع رجله اليمنى.
وإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردّت إلى مالكها، وقطعت يد السارق ثم عاد إلى سرقتها مرّة ثانية فلا يقطع فيها عند الحنفية، وأما المالكية والشافعية فيقولون بالقطع، وهو رواية عن أبي يوسف لإطلاق
قوله عليه الصلاة والسلام: «فإن عاد فاقطعوه» .
تمسّك الحنفية بما يؤخذ من
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» «2»
فإنّ عدم ضمان المال يدلّ على أنّ المال أصبح غير معصوم في حق السارق بعد قطع يده، لأنّه لو كان معصوما مع قطع يده لوجب ضمانه، وحيث لم يجب الضمان تبيّن أن المال غير معصوم في حقه، فإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردت إلى المالك، فلا نزاع في أنّ العصمة عادت إليها، ولكن مع هذا لا زالت شبهة سقوط العصمة قائمة، فأشبهت المباح في حقه، فلا تقطع يده في سرقتها ثانية فإنّ الحدود تدرأ بالشبهات.
وإذا قطعت يد السارق، وكانت العين المسروقة قائمة وجب ردها إلى صاحبها، وإذا كانت هالكة أو مستهلكة فلا ضمان عليه عند الحنفية، وقال المالكية: يضمّنها إن كان موسرا، ولا شيء عليه إن كان معسرا.
وقال الشافعية: يضمنها مطلقا، أما ردها وهي قائمة فلما ورد من أنه عليه الصلاة السلام ردّ رداء صفوان إليه حين قطع يد السارق، وأما عدم الضمان عند عدمها
فلقوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» .
وحجة القائلين بالضمان قياسه على سائر الأموال الواجبة، فإنّهم أجمعوا على رد العين المسروقة إذا كانت موجودة، وهو يستلزم أنها إذا لم تكن موجودة تكون في ضمانه، كما في سائر الأموال الواجبة، ترد بنفسها إن كانت قائمة، ويرد مثلها إن
(1) انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، كتاب السرقة، فصل في كيفية القطع وإثباته (3/ 570) . [.....]
(2)
رواه النسائي في السنن (7- 8/ 462) ، كتاب السرقة، باب تعليق يد السارق حديث رقم (4984) .
كانت هالكة، ويدلّ على ذلك أيضا ما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» «1» .
وقوله: جَزاءً مفعول له، أو مصدر مؤكد لفعله الدال عليه قوله:
فَاقْطَعُوا أي فجازوهما جزاء وقوله: بِما كَسَبا متعلق (بجزاء) على الإعراب الأول، وبقوله: فَاقْطَعُوا على الإعراب الثاني، و (ما) مصدرية، أي بسبب كسبهما، أو موصولة، أي بسبب الذي كسباه.
وقوله: نَكالًا مفعول له للإشعار بأنّ القطع للجزاء. والجزاء للنكال فيكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة.
والنكال: الإهانة والتحقير للمنع من العودة.
وقوله: مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف صفة لنكالا.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء من غير منازع ولا ممانع، وهو حَكِيمٌ في تشريعه، لم يشرع إلا ما فيه المصلحة، فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه بما وقع منه من السرقة، وأصلح في توبته بأن تكون التوبة عند الجمهور، وقيل: تسقطه، لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة، والعقوبة المذكورة هي القطع.
قال الله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
السحت: الاستئصال من سحته إذا استأصله، ومنه قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] أي يستأصلكم، ويطلق السّحت على الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان، لأنّه يستأصل فضيلة الإنسان وشرفه، ويستأصل جسده في النار في الآخرة، ويطلق أيضا على شدة الجوع، لأنّ من كان شديد الجوع يستأصل ما يصل إليه من الطّعام.
وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد أنّ السحت الرشوة
، وأجر البغي وعسب الفحل، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية، ويرجع أصل ذلك كله إلى الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان ويخفيه.
(1) رواه أبو داود في السنن (3/ 284) ، كتاب البيوع، باب تضمين العارية حديث رقم (3561) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 566) ، كتاب البيوع، باب العارية حديث رقم (1266) ، وابن ماجه في السن (2/ 802) ، كتاب الصدقات، باب العارية حديث رقم (2400) .
ونزلت «1» هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه، وعوّل عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السّحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعوا منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقيل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ للربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء: 161] .
والرشوة قد تكون في الحكم، وهي محرمة على الراشي والمرتشي،
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لعن الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما «2» ،
لأنّ الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهة أنّه قبل الرشوة على أن يحكم بما يفترض عليه الحكم به، وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة، ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرّمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما روي عن الحسن قال: لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه، وكما روي عن جابر بن زيد والشعبي:
أنهما قالا: لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك في نظره فقال شعرا يتضمن التعجب من هذا التصرف فقال عليه الصلاة والسلام:«اقطعوا لسانه» فزادوه حتى رضي
، فهذا نوع من الرشوة رخّص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه، يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه.
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
قيل: نزلت هذه الآية في أمر خاص هو رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأراد اليهود الترخيص لهما، فأنكروا الرجم، وتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبحث عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وأطلعهم على آية الرجم، وبيّن لهم كذبهم وتحريفهم في كتاب الله، ثم رجم اليهوديين وقال: «اللهم إني أول
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (6/ 154) .
(2)
رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 622) ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي حديث رقم (1336) ، وأحمد في المسند (5/ 279) .
من أحيا سنة أماتوها» «1»
وإنما بحث عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة في كتبهم لأنّ الحدود الإسلامية لم تكن نزلت، فأقام الرجم على شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، وأما ما نزل حكمه في الشريعة الإسلامية فلا يجوز للمسلم المحكّم أن يحكم فيه بغير حكم الإسلام.
وقيل: نزلت في أمر خاص هو الدية بين بني قريظة وبني النضير، فكان بنو النضير يرون أنّ لهم شرفا يقضي بأن دية النضيري ضعف دية القرظي فغضب بنو قريظة، وتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم بالحق وجعل الدية سواء، وإذا لوحظ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أمكن القول بأنّ الآية عامة في كل من جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتحاكم إليه.
وظاهر الآية أنّه عليه الصلاة والسلام مخيّر بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم، ولكنّ المتقدمين اختلفوا فقال النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبو بكر الأصم وأبو مسلم أنّ حكم التخيير الذي تدل الآية عليه ثابت غير منسوخ.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: إن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وبعضهم وفق بين المختلفين بأنّ التخيير ورد في أهل العهد الذين ليسوا من أهل الذمة كبني قريظة والنضير، فلا يجب على الحاكم المسلم أن يجري عليهم أحكام المسلمين، وإن ترافعوا إليه كان مخيّرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ورد في أهل الذمة الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وهذا هو أساس قول الحنفية:
إن أهل الذمة والمسلمين سواء في إجراء الأحكام الإسلامية عليهم، كعقود المعاملات والتجارات والمواريث والحدود، إلا أنهم لا يرجمون، لأنّهم غير محصنين، ويجوز لهم الاتجار في الخمر والخنزير دون المسلمين.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتابه إلى أهل نجران: «إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله»
فجعلهم كالمسلمين في تحريم الربا عليهم.
وقال الشافعية: إنّ أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأما المعاهدون فلا يجب عليه ذلك إذا تحاكموا إلينا، بل هو مخيّر بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم.
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً الغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1327) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (28/ 1700) .
اللذين خيّر فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم، وتغيظوا منه، وربما يقصدونه بالأذى، فأخبره الله تعالى بأنه إن رأى الإعراض عنهم فلا بأس عليه، فإنّهم لا يضرونه بشيء أبدا، وقدم حال الإعراض للمسارعة إلى أنه لا ضرر عليه فيه، وإن كان مظنة الغيظ والحقد، ثم قال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي جاءت به الشرائع، أو جاء به الإسلام إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يحاربون المظالم.
وهاهنا أمور:
الأول: أنّ المحكّم ينفذ حكمه فيما حكّم فيه، فإنّ اليهود حكّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفذ حكمه فيهم.
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود، أما الآن وقد أكمل الله الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية، لا فرق بين المسلمين وغيرهم.
والثالث: قال الإمام الشافعي: التحكيم جائز، ولكن الحكم غير لازم، وإنما هو فتوى، فإن شاء المستفتي عمل بها أو تركها.
قال الله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) قال النيسابوري: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه:
منها عدولهم عن حكم كتابهم.
ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا.
ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه، وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد.
والواو في قوله: وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.
أما قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ، خبره عِنْدَهُمُ.
وإما أن يرتفع خبرا عنها، والتقدير وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ناطقة بحكم الله، فيكون عِنْدَهُمُ متعلقا بالخبر.
وإما ألا يكون له محل، ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره.
وأنّثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث.
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ و (ثم) لتراخي الرتبة، أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم.
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون اه.
قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) نبه الله بهذه الآية اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من مثل وجوب رجم الزاني والاقتصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين، والأنبياء المبعوثين إليهم.
والمراد (بالهدى) بيان الأحكام والتكاليف، والمراد (بالنور) بيان ما ينبغي أن يعتقد من توحيد الله وأمور النبوة والمعاد.
والنَّبِيُّونَ من بعثهم الله في بني إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة، ومعنى إسلامهم انقيادهم لحكم التوراة، وعن قتادة: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا عليه الصلاة والسلام، فقد حكم على من زنى من اليهود بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وذكر بلفظ الجمع تعظيما، ونظيره قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] .
وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى، وتقرير أنّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه.
ولِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر متصل ب (يحكم) يعني أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم، وفيما بينهم، أو هو مؤخّر من تقديم، فيكون التقدير: فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.
وَالرَّبَّانِيُّونَ العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم.
وَالْأَحْبارُ جمع حبر، بكسر الحاء أو فتحها، والمراد العلماء المتقنون الصالحون.
وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ معناه بما استودعوا من علمه، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه على وجهين:
أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
والثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. ويتعلق قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا بالأحبار على معنى العلماء أو (يحكم) .
وقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ خطاب لليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقدموا على تحريف التوراة خائفين أو طامعين، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدّم الله ذكره فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ والمعنى:
إياكم أن تحرفوا كتابي خوفا من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فإنما يخشى العاقل عقاب ربّه وحده.
ثم أتبع أمر الخوف بأمر الطمع والرغبة فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي من أجل الرهبة أنهاكم عن التغيير للطمع في المال أو الجاه، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت، لا بقاء لها، ولا منفعة، فلا ينبغي أن تضيّعوا بها الدّين والثواب الدائم.
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وعيد شديد، المقصود منه تهديد اليهود الذين أقدموا على تحريف حكم الله في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، ومعناه أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة، وقالوا: إنّه غير واجب، أصبحوا كافرين، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة، ولا بمحمد والقرآن.
هذا وقد احتج جماعة بهذه الآية على أنّ شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا، لأنّ الله تعالى يقول: فِيها هُدىً وَنُورٌ والمراد بيان أصول الشرع وفروعه، ولو كانت التوراة منسوخة غير معتبرة الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط للزوم التكرار، على أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلا بد أن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها، لأنا- وإن اختلفنا في أنّ غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا- غير مختلفين في أنّ سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها.
وأيد الخوارج أيضا بآخر هذه الآية قولهم: كلّ من عصى الله فهو كافر، فقالوا إنها نص في أنّ كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله. ولم يوافقهم جمهور الأئمة، بل دفعوا شبهتهم بأن قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا تتناوله الآية.
قال الله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) لما جعل اليهود ديّة النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به، مخالفين في هذا ما في التوراة، وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه، نزلت هذه الآية.
ومعنى (كتبنا) فرضنا. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية أن يقتل المسلم بالذمي.
وقالت الشافعية: الآية خبر عن شرع من قبلنا، وشرعهم ليس شرعا لنا.
وقرأ البعض (النفس) وجميع ما عطف عليه منصوبا، ونصب فريق الكلّ ما عدا الجروح فقد رفعه على القطع، ورفع آخرون ما سوى (النفس) على جعل ذلك ابتداء الكلام.
وتدلّ الآية على جريان القصاص في جميع ما ذكر فيها، ويرى العلماء أنّ المراد بقوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، فلا يجوز التعدي، وعليه فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى وإن رضي المقتص منه. وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمّدا، فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية، فإن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة، ورأى البعض أن في عين الأعور الدية كلّها، لأنّ منفعته بها كمنفعة ذي العينين أو قريبة منها.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور، وقال أحمد بن حنبل:
لا قود عليه، وعليه الدية كاملة.
واختار ابن العربي الأول، لأنّ الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنّه أسلم عند الله، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس، ومتمسّك مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجني عليه. وحجة ابن حنبل أنّ في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة.
والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء، وكذلك يقتص من صالم الأذن وقالع السن.
وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ معناه أنها ذات مقاصة، وهو تعميم للحكم
بعد ذكر بعض التفاصيل، والمراد منه: كل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة- مثلا- وهي التي توضح العظم، أي تكشفه. أما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم، أو كسر في عظم ففيه حكومة.
وفي قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ الضمير في (به) يعود إلى القصاص وقوله: فَهُوَ راجع إلى التصدق الدال عليه الفعل، والضمير في (له) يحتمل أن يعود إلى العافي المتصدق.
روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق من جسده يشيء كفّر الله تعالى عنه مثل ما تصدّق»
ويحتمل رجوعه إلى الجاني المعفوّ عنه، أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المتصدق فأجره على الله تعالى.
ثم ذيل الله تعالى هذه الأحكام بما يوجب العمل بها، وهو قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله من الأحكام والشرائع فقد تعدّى حدود الله، ووضع الشيء في غير موضعه. قال الرازي: وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا فأي فائدة في ذكر الأخف بعده.
وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى، وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه «1» اه.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قد أمر الله تعالى في أول السورة بإيفاء العقود، وقد قالوا في تفسيره: إنّ ذلك شامل للوقوف عند حدود الله، والتزام ما أحله الله، واجتناب ما حرمه، وعدم تعدّي تلك الحدود، وقد نص بعد ذلك على عدم إحلال ما حرم الله في قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ إلخ. وهو نوع من إيفاء العقود، وفي هذه الآية يقول الله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وهو بيان للنوع المقابل لما ذكر أولا. أي كما نهيتكم عن إحلال ما حرّم الله أنهاكم عن تحريم ما أحل الله.
(1) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (12/ 8) .
والطيبات اللذائذ التي تشتهيها النفوس، ولا تعافها الطباع، لا شتمالها على ما ينفع، وتجردها عما يضر.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلس إلى أصحابه يوما في بيت عثمان بن مظعون يعظهم، فوصف لهم يوم القيامة، وبالغ، وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا، ويحرّموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، وأن لا يناموا في فراش النساء، بل لقد عزم بعضهم على أن يجبّ مذاكيره، ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض فوصل خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم فقالوا: ما أردنا إلا خيرا، فقال لهم:«إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» .
وليس في ذلك شيء من الحض على الاستزادة من أسباب الشهوات، بل ذلك نهي عن الرهبانية الموصلة إلى هدم الأجسام، وانحلال القوى، ومتى انهدمت الأجسام، وانحلت القوى، تسرب الخراب والاضمحلال إلى الأمة، قلا تقوى على العمل.
وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقولهم في مصلحة المجتمع، وأنّى لهم ذلك وقد انهدمت أجسامهم فضاعت عقولهم. والعقل السليم في الجسم السليم، ومع ذلك فالله لما نهانا عن تحريم الطيبات نهانا عن الاعتداء، وقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فهو يأمرنا أن نكون وسطا، وأن نلتزم التوسط في الأمور.
وقد ذهب المفسرون مذاهب في المراد من قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فمنهم من ذهب إلى أن المراد لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تجتنبوا ما أحل الله اجتنابا يشبه اجتنابكم لما حرم الله.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على غيركم بالتقوى ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على أنفسكم بنذر أو يمين، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] .
ومنهم من يرى أن المراد النهي عن أن يغصب شيئا ويخلطه بماله فيحرم ماله، لعسر تمييزه عن المخلوط به.
وأنت ترى أنه لا مانع من إرادة كل هذه الوجوه من الآية، فهي تحتملها جميعا، ولا داعي لتخصيصها بالبعض.
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (7/ 7) .
وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. أي: لا تعتدوا بتحريم الطيبات، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحملنكم النهي عن تحريم الطيبات إلى استعمالها على وجه الإسراف، على حد قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] ويحتمل أن يكون المراد: اقتصروا على ما أحل الله لكم من الطيبات، ولا تجاوزوها إلى ما حرّم عليكم.
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) أي كلوا ما أحلّ لكم وطاب مما رزقكم الله. (فحلالا) مفعول (لكلوا) و (مما رزقكم الله) حال منه، وسوغ مجيئها من النكرة تقدّمها عليها.
ويستدل بالآية على أن الرزق اسم يتناول الحلال والحرام، ولو كان خاصا بالحلال لما كان لوصفه به كبير فضل.
وتذييل الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ بعث على المحافظة على ما أوصاهم به، والمداومة عليه، وقد أمر الله بالتقوى عقب النهي عن تحريم الطيبات، والأمر بالأكل من الرزق الطيب الحلال، ليشعرنا أنه لا منافاة بين التلذذ بالطيبات من الرزق وبين. التقوى، غير أنّه يجب أن تكن تقوى الله رائدنا فيما نقدم عليه من عمل، فلا نسرف، ولا نقتر، ولا نضارّ أحدا.
والآية بعمومها دليل على حرمة الرهبانية.
وقد جاء النهي عنها صريحا في «القرآن» وفي السنة، فقد صرح «القرآن» بأن الرهبانية مبتدعة.
وجاء في السنة من طرق كثيرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني»
والآية على هذا في معنى قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] .
قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قيل في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس. حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (7/ 10) .
واللغو من القول الساقط الذي لا يعتدّ به، وهو في اليمين الذي لا يتعلق به حكم.
وقد اختلف السلف في تعيينه شرعا،
فعن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو كلام الرجل في بيته، لا والله، وبلى الله» «1» .
وروي عنها أنّها قالت: لغو اليمين لا والله، بلى والله «2» .
روي عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر أنه كذلك.
وروي عنه أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وذهب بعض العلماء إلى أن اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد بسبق اللسان.
ويرى بعضهم أنّ اللغو أن تحلف على المعصية تفعلها، فينبغي ألا تفعلها، ولا كفارة فيه، واستدل له
بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها. فليتركها، فإنّ تركها كفارة» «3» .
واختلف فقهاء الأمصار فيها أيضا فذهب الحنفية إلى أن اللغو هو: الحلف على شيء مضى وأغلب ظنه الصدق. وحكى الجصاص أنّ ذلك مذهب مالك والليث والأوزاعي.
ونقل عن الربيع عن الشافعي أنّ من حلف على شيء أنّه وقع وهو يظنه كذلك فعليه كفارة، وكأن الشافعي رضي الله عنه لا يرى اليمين في مثل هذا المثال لغوا، بل يراها يمينا معقودة.
وقد تقدم الكلام في سورة البقرة في بيان مذاهب الفقهاء في اليمين اللغو والغموس والمنعقدة، وهي أيضا معروفة في الفقه، وكذلك أحكامها، حيث يجعل الحنفية الأقسام الثلاثة متباينة في الحكم، فاللغو لا شيء فيه، وكذلك يقول جميع الفقهاء.
إنما الكلام عندهم فيما هو حكم اللغو والغموس:
يرى الحنفية أن جزاء الغموس الغمس في جهنم، وأنّها لا تكفر. والشافعية يقولون: إنّ الغموس تكفّر، لأنّ الله يقول: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، ومن تعمّد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به، لأنّه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله فَكَفَّارَتُهُ إلخ.
والحنفية يقولون: إنّ اليمين الغموس هي المذكورة في قوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]
(1) المرجع نفسه (2/ 241) .
(2)
المرجع نفسه (2/ 240- 241) .
(3)
رواه أحمد في المسند (2/ 185) .
والمؤاخذة بها هو عقاب الآخرة. ويدل له قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بيمين آثمة على منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار» «1»
ولم يذكر الكفارة.
والمسألة مبسوطة في كتب الفروع. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي بتعقيدكم الأيمان، وتوثيقها بالقصد والنية.
ويحتمل أن تكون (ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بما عقدتم الأيمان عليه.
والمعنى: لكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم الأيمان عليه، أو بنكث تعقيدكم اليمين.
ويحتمل أن يكون المعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمين إذ حنثتم، وحذف الشرط للعلم به، وقد عرفت أنّ الشافعية يدخلون الغموس في اليمين المعقودة، ففيها الكفارة عندهم، والحنفية يقولون: لا كفارة في الغموس.
فَكَفَّارَتُهُ أي فكفارة يمينكم إذا حنثتم، أو فكفارة نكثه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالا، وأما إذا كانت صوما فلا، حتى يتحقّق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين، من غير ذكر الحنث، وقال الله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقاسوها أيضا على إخراج الزكاة قبل الحول. وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلا بعد الحنث ووجوب التكفير.
والحنفية يرون أنّ الآية فيها إضمار الحنث، وهو متعيّن، إذ لم يقل أحد ولا الشافعية بوجوب الكفارة قبل الحنث، فالحنث وإن لم يذكر إلا أنه معلوم، فهي على حد قوله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] حيث كان وجوب العدة مرتبا على الإفطار المقدّر.
ونحن نرى أنّ الآية لا تصلح شاهدا لواحد من الطرفين.
مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ لا من جيده فيقع الحيف عليكم، ولا من رديئه فتبخسوا المسكين حقه، ويجوز أن يكون المراد من أوسطه في المقدار، أي: إذا كان فرد يأكل كثيرا، أو فرد يأكل قليلا فتوسطوا بين المقدارين، وأطعموا المسكين هذا
(1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 779) ، كتاب الأحكام، باب اليمين حديث رقم (2325) .
الوسط. وقدّره الشافعية بمدّ لكل مسكين، والحنفية قدّروه بما يجب في صدقة الفطر.
والجار والمجرور مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط.
أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على (إطعام) إما باعتبار أن الكسوة مصدر، أو على إضمار مصدر.
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وقد اشترط الشافعية فيها الإيمان، لأنّ النص لم يقيّد هنا، وقيّد في مواضع أخر كالقتل مثلا، فدل ذلك على أنّ القيد حيث وجد فهو مقصود.
والحنفية لا يرون هذا.
إلى هنا نصّت الآية الكريمة على أنّ كفارة اليمين الإطعام، أو الكسوة، أو التحرير.
وقد اختلف العلماء في متعلّق خطاب التكليف، فذهب بعض المعتزلة إلى أنّ الواجب الجميع، ويسقط بالبعض.
وقيل: الواجب واحد بعينه عند الله، ويتعين بفعل المكلف، فيختلف بالنسبة للمكلفين.
وقيل غير هذا، والمسألة معروفة في علم الأصول، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ واشترط الحنفية فيها التتابع، وهو مذهب ابن عباس ومجاهد، وأخرج الحاكم وابن جرير وغيرهم من طريق صحيح أنّ أبي بن كعب كان يقرأ الآية هكذا (ثلاثة أيام متتابعات)«1» وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
وأما الشافعي فلا يشترط التتابع، لأنه يرى أن هذه قراءات شاذّة لا يحتجّ بها، ولعلها لم تثبت عنده.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوا أنفسكم من الحنث فيها، أو لا تبذلوها وأقلوا من الحلف، فإنّ ذلك مسقط لهيبتكم، وهو حينئذ في معنى قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] ومنه قول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
…
إذا بدرت منه الأليّة برّت
وقيل: إنّ معنى ذلك راعوها حتى لا تحنثوا فيها، فتلزمكم الكفارة.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي مثل هذا البيان الشافي بيّن الله لكم أحكامه، لتشكروه على ما أنعم عليكم.
(1) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 539) .
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) الخمر: اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة، أيا كان نوعها، أو هو خاصّ بما كان من ماء العنب النيّئ الذي غلى واشتد وقذف بالزبد.
يرى الحنفية أنّ الخمر حرّمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا، لأنّ اللغة لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر.
ويرى غيرهم أنّ الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فغير ماء العنب حرام بالنص إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلخ.
والواقع: أنه قد وردت آثار مختلفة في معاني الخمر، فقد روي عن ابن عمر أنّه قال:«حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء..» .
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عربي ما كان يرى أنّ اسم الخمر يتناول هذين
…
وفي مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ نقيع البسر، وهذا يدل على أنّ ابن عباس يرى أنّ غير العنب يسمى خمرا.
وروى ثابت عن أنس قال: حرمت علينا الخمر يوم حرّمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وروي عنه أنّه سئل عن الأشربة، فقال: حرّمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فكان عنده أنّ ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر.
وروي عن عمر أنه قال: إنّ الخمر حرّمت وهي من خمسة أشياء من: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا» «1» .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب» «2» .
ولقد أطلنا بذكر هذه الآثار لمعرفة منشأ الخلاف، والحنفية يقولون فيما خالف
(1) و (2) سبق تخريجه. [.....]
مذهبهم من هذه الأخبار: إنها لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة، وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا في التسمية، والكلام إنما هو في الحكم، والمسلمون جميعا بحمد الله متفقون في الحكم من حيث الحرمة إلا شيئا يروى عن أبي حنيفة في حل القليل من غير الأصناف الأربعة، وهو ما لم يبلغ حدّ الإسكار، وقد نص بعض المتأخرين من الحنفية على أنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها ولا الفتوى، حتى في خاصة النفس، وأنّ الحكم أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام.
غير أنّه يتبع الكلام في الحرمة كلام في الأحكام الأخرى كالنجاسة والحدّ، فمن يرى أنّ هذه الأشياء خمر، وأنها يشملها اسم الخمر يقول: إنها نجسة بقوله تعالى:
رِجْسٌ وأنّ فيها الحد الذي ثبت بدليله المعروف في الفقه.
ومن يرى أنها حرام من طريق القياس لإسكارها. هل يرى أنّ النجاسة ووجوب الحد ثبت للخمر للإسكار ومخامرة العقل، فينقل الحكم، وهو النجاسة ووجوب الحد، كما نقل الحرمة بالقياس للإسكار، أم هو يرى أنّ الذي ثبت بعلة الإسكار إنما هو الحرمة فقط، فلا يعدي النجاسة ووجوب الحد إلى غير ماء العنب والأشربة المعدودة عنده.
وهل يورث الخلاف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط الحد؟ ذلك يجب الرجوع فيه إلى الفقه وقواعده، فإنّ ذلك لا ارتباط له بالآية التي معنا.
والميسر: أصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار في توزيعه. وقد بيّن ذلك عند تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] .
وقد روي عن الإمام علي أنّه الشطرنج.
وعن عثمان وجماعة أنّه النرد، وقال جماعة من أهل العلم: القمار كله من الميسر. ويراد منه: تمليك المال بالمخاطرة، فكل مخاطرة بالمال قمار، وهو من الميسر، وهو حرام.
رِجْسٌ أي قذر تعافه العقول. وعن الزجاج: الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح، وقد يطلق الرجس على النجس.
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ من تسويله وتزيينه. فَاجْتَنِبُوهُ أي اجتنبوا الرجس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
ولقد شدد الله في الآية الكريمة أمر الخمر والميسر تشديدا يصرف النفوس عنه إلى غير عود، فصدّرت الجملة (بإنما) وقرنا بالأصنام والأزلام وهما ما هما من الشناعة، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، ثم أمر باجتنابهما، وأضاف
الاجتناب إلى أعيانهما، حتى كأنهم مما يفرّ منهما، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، فهل مع هذا كله يعود الناس إليهما، إن ذلك لحسرة؟! ولقد أردف الله ذلك ببيان المضار التي تنجم من جراء الخمر والميسر، عسى أن يكون في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع فقال:
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي بسبب تعاطيهما، أما الخمر فإنّها تذهب العقل، ومتى ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال المجانين، ولو كان مجنونا لغفر الناس له ما يكون منه من أذى، فيتأذى الناس منه ويبغضونه لما يلحقهم من شره، ولا عذر له، فيغرس في قلوبهم الغل والضغينة، وما جر عليه ذلك إلا الخمر. وأما الميسر فإنه في حال انشغاله بالقمار يكون فاقد الإحساس والشعور، لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعا في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسرا أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقدا وحفيظة، وربما أداه ذلك إلى قتل من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة، وإن لم تمكنه رجع إلى نفسه بالقتل، أو بالهم والاكتئاب، وإن صادفه الحظ وكان رابحا امتلأ قلب صاحبه عليه غلا وضغينة. والحوادث منا في السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد. دع ما يتخذه كل المتقامرين من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم، وكثيرا ما أودت تلك الوسائل بأصحابها.
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن الأضرار التي تعود على المتقامرين والمخمورين في الدنيا بيّن أنّ ضررهما ليس قاصرا على الدنيا فقط، بل هما ضارّان بالدين أيضا، فإنّهما يمنعان من الذكر ومن الصلاة، ومتى منعا من الذكر والصلاة فقد صار الشخص فاجرا، لا يرقب في الله إلا ولا ذمة، فهو مستهتر، لا يبالي ما يرتكب من الآثام، فماذا يمنعه، وقد بعد من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ في هذه الجملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية، وأنّ الأمر من الشدة والهول بحيث لا يمنعه إلا انتظار الجواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حين سمعها، وقد كان طلب البيان الشافي بعد آية البقرة قولة الخائف الوجل: انتهينا يا رب. ولقد سبق القول في سورة البقرة أن آية الخمر [219] التي فيها، كانت أول ما نزل في الخمر، ثم نزلت آية النساء، ثم هذه.
وأخرج الربيع أنه لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.
قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) أمر بالطاعة في كل ما جاء عن الله والرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما جاء في الخمر والميسر دخولا أوليا، وتحذير عن المخالفة، فإنّها موقعة في المهالك فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقد بلّغكم فانقطعت حجتكم، وانسد أمامكم سبيل الاعتذار، ولم يعد لكم مطمع في التعلّة، وإن ذلك لتهديد شديد.
قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) روي عن ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك وغيرهم في سبب نزول هذه الآية: أنه لما حرّمت الخمر قالت الصحابة: كيف بمن ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وقد فهم عمر بن الخطاب هذا المعنى من الآية. وقد أراد أن يقيم الحد على قدامة بن مظعون حين شهد عليه الشهود بأنه شربها. روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده.
فقال قدامة: ليس لك ذلك، لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرّم الله.
والطعم يطلق في اللغة على التذوق والتلذذ بما يؤكل ويشرب وهو هنا بهذا المعنى.
وبحسب ما ذكرنا من سبب النزول يكون معنى الآية: ليس على من آمن بالله واتقاه وعمل صالحا جناح فيما تناوله من المحرمات قبل تحريمها إذا ما اتقى الله في محارمه، وآمن به، وعمل صالحا، ثم استمر على هذه التقوى وهذا الإيمان في المستقبل، ثم اتقى الله فيما أحل له، وأحسن في استعماله.
ومن هذا الذي قلنا تعرف معنى التقوى والإيمان المكرّرين في الآية، وتعرف معنى الإحسان الذي زيد فيها، وهو وجه من وجوه كثيرة أوردها المفسّرون لبيان أنه لا تكرار في الآية، ولنذكر بعضا منها، فقد قال بعضهم: إن التقوى والإيمان الأولين يراد بهما حصول أصل التقوى، وأصل الإيمان، والثانيين يراد منهما الثبات والدوام، والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
وذهب بعضهم إلى أن التقوى الأولى تقوى المحرمات قبل نزول هذه الآية،
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (3/ 171) .
والثانية: اتقاء الخمر والميسر، والثالثة اتقاء ما يحدث بعد هذه الآية.
وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى الأولى اتقاء الكفر، والثانية اتقاء الكبائر، والثالثة اتقاء الصغائر.
وذهب بعضهم إلى أنّ المراد من هذا التأكيد في الحثّ على الإيمان والتقوى.
يبقى أن يقال: كيف شرط الله في رفع الجناح عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى مع أنّ الجناح مرفوع عن المباح من المطعومات حتى عن الكافرين، ولكن متى عرف أن ذلك كان جوابا عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم على ما تناولوا من المحرمات قبل التحريم، وأن الآية بصدد طمأنة السائل على أصحابه، وأنهم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأنّها مثل قول الله تعالى في شأن من مات قبل الصلاة إلى الكعبة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] متى عرف ذلك ظهرت فائدة الشرط وتذييل الآية بقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ للإشادة بشأن الإحسان في ذاته، وشأن هؤلاء الذين نزلت الآية فيهم.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) تقدّم الكلام غير مرة في معنى الابتلاء، وأنّ المراد منه في مثل هذا المقام أن يعامل العباد معاملة المبتلي المختبر، ليتعرف حالهم وهل يثبتون على المحن والشدائد أو لا يثبتون.
أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل أنها نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم، وطعنا، برماحهم، وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية، وخص الأيدي والرماح، لأن الصيد يكون بهما غالبا.
والتنكير في قوله تعالى: بِشَيْءٍ للتحقير، وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير تنبيها على أنّ من لم يثبت أمام هذه الأشياء التافهة كيف يثبت عند شدائد المحن، ويمكن أن يقال: إنّ التنوين للتعظيم، باعتبار جزاء الاعتداء عليه فإنّه عظيم، و (من) في قوله: مِنَ الصَّيْدِ للتبعيض، إما باعتبار أن المراد صيد البر لا صيد البحر، أو صيد الحرم دون صيد الحل.
لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته حاصلا منهم فيما لا يزال فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فمن تجاوز حدّ الله في الصيد بعد هذا التنبيه فله عذاب أليم، لأنّ المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة، والمراد
بالعذاب عذاب الآخرة، وقيل: بل وعذاب الدنيا، فقد روي عن ابن عباس. قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا، ويسلب ثيابه.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ النهي عن القتل يدلّ على تحريم إزهاق روح الصيد مطلقا، سواء كان من طريق الفعل أو من طريق التسبب، كالإشارة والدلالة مثلا، ويؤيد هذا المعنى
قوله عليه الصلاة والسالم لبعض أصحابه: «هل أشرتم، هل دللتم» ، قالوا: لا. قال: «إذن فكلوا» «1»
. فدل هذا على أنّ للإشارة والدلالة مدخلا في التحريم، وأنّهما مما يتناوله النهي في قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ فكان النهي متناولا للقتل من طريق المباشرة والتسبب. والمراد بالصيد المصيد، وقد اختلف في المراد بمدلوله، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول، وخصّه بعضهم بالمأكول، وبالأوّل قال الحنفية، وبالثاني قال الشافعية، وانبنى على هذا الخلاف أن من قتل سبعا وهو محرم فهل يجب عليه الجزاء أو لا يجب، قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: لا يجب.
استدل الحنفية لمذهبهم بأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم.
ولم تنحصر فائدة حل الاصطياد في الأكل، بل قد تكون الفوائد التي هي غير الأكل أجدى من الأكل، ومغرية بالصيد أكثر منه، كصيد الفيلة للانتفاع بسنها مثلا، فيبقى اسم الصيد عاما في الحلال والحرام، لا يخرج منه شيء إلا ما أخرجه الدليل.
وقد فهم الصحابة هذا فامتنعوا من فعله مطلقا، حتى أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الخمس الفواسق، فهي خارجة من هذا العام بهذا الإذن.
وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال
فسمى الثعلب، صيدا، وهو مما لا يؤكل، إذ هو من السباع ذات الناب.
وذكر الفخر الرازي حجة الشافعية فقال: حجة الشافعي القرآن والخبر. أما القرآن فهو أنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن. إنما قلنا: إنه ليس
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 851) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد حديث رقم (56/ 1196) .
بصيد، لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى: بعد هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الإحرام، فثبت أنّ الصيد ما يحل أكله، والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد، وجب أن لا يكون مضمونا، لأنّ الأصل عدم الضمان. تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية.
فبقي ما ليس بصيد على وفق الأصل.
هذه عبارة الفخر الرازي أوردناها بنصها. ونحن لا نظن أن الإمام الشافعي وهو من هو يسلك هذا الطريق في الحجاج، فإنه يقال: ما الذي تدل عليه آية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ إنها إن دلت على شيء فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول. إذ هي قد أحلت شيئين صيدا وطعاما، فهما شيئان عامّ وخاصّ، فالأول الصيد مطلقا، والثاني طعامه، فهي تبيح الصيد انتفاعا وطعاما.
انظر إلى مَتاعاً لَكُمْ أي نفعا، وهو أعمّ من أن يكون من طريق الأكل أو طريق الحلية مثلا، وأما قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فهو كقوله تعالى:
لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فإن دلت هذه على حل صيد غير المأكول دلت الأخرى، فنحن نرى أنّ هذه الآية التي ساقها الفخر دليلا لا تنهض دليلا على الدعوى.
قال الفخر بعد ذلك: وأما الخبر فهو الحديث المشهور، وهو
قوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والحية، والعقرب، والكلب العقور» «1»
وفي رواية أخرى: «السبع العادي» «2»
قال والاستدلال به من وجوه:
أحدها: أن قوله: «والسبع العادي» نص في المسألة.
ثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام وصفها بكونها فواسق، ثم حكم بحلّ قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلّلا بذلك الوصف.
وهذا يدل على أنّ كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الإيذاء في السباع أقوى، فوجب جواز قتلها.
ثم أتى بوجه ثالث لا يخرج في المعنى عن الثاني وهو أن الشارع خصها بهذا الحكم لا ختصاصها بمزيد الإيذاء، وصفة الإيذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها، وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة.
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 856) ، 15- كتاب الحج، 9- باب ما يندب للمحرم حديث رقم (66/ 1198) .
(2)
رواه أبو داود في السنن (2/ 113) ، كتاب الحج، باب ما يقتل من الدواب حديث رقم (1848) .
وما ندري إذا أراد الفخر أن يستدل للحنفية فماذا يقول: إنه لا يقول ولا يفعل أكثر من أن يقول: وحجة الحنفية، ثم يذكر هذا الدليل، فإنك قد عرفت أن الحنفية يقولون: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق، لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد، أو لأنها غير مأكولة، فهذا دليل للحنفية لا عليهم. وأما ما ذكر من الرواية الأخرى التي صرح فيها باسم «السبع العادي» فالحنفية لهم أن يقولوا: بل هم قد قالوا فعلا: إن صح هذا الحديث فنحن نقول بموجبه، فقد جاء في الحديث وصف السبع بالعادي، والعادي معناه الضاري، وهم يقولون بقتل كل ما يكون منه عدوان دفعا لعدوانه، وإضافة هذا الوصف دليل على أنه من غير الفواسق، وفي ذلك دليل على أنه إنما يحل قتله في حال ضراوته وعدوانه. والحنفية يقولون: إن السبع لو قتل في هذه الحال لا جزاء فيه، فأنت ترى أنّ هذه الحجة التي ساقها الفخر الرازي للتدليل على مذهب الشافعية لا تصلح دليلا على الدعوى.
وإنما يصلح دليلا لهم أن يقوم الدليل على أنّ الصيد خاصّ بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة لهم، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص، وقد قال الفخر الرازي في الرد على بيت الإمام علي الذي استدل به الحنفية: إنه غير وارد، لأن الثعلب مأكول، فهو صيد، ونحن نقول به، والرد من هذه الجهة مقبول له أنه ثبت أنه إنما سماه صيدا لأنه مأكول، وهذه هي محل النزاع «1» .
وعلى أي حال فالآية ظاهرها العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص.
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حرم جمع حرام، وقد قيل: إن المراد وأنتم محرمون بالحج، وقيل: بل المراد وقد دخلتم بالحرم، وقيل: هما مرادان بالآية، وعلى هذا المعنى الأخير فهذه الآية تدلّ على أنّ المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أنّ الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم.
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهر الآية ترتيب الجزاء المخصوص على القتل العمد، وقد اختلف السلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فالجمهور على أنّ الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمّد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان ذاكرا لإحرامه أو ناسيا.
وإنما خصّ العمد بالذكر لأجل أن يرتّب عليه الانتقام عند العود، لأنّ العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ.
(1) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (12/ 87) .
بقي أن يقال: هذا حكم العمد قد عرف من الآية وأنّ فيه الجزاء، فمن أين الجزاء في الخطأ.
قيل: إن جزاء الخطأ معروف من الدليل الذي يقرّر التسوية في ضمان المتلفات. إذ إنّ من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم، أو أتلف مالا مملوكا لإنسان عمدا أو خطأ فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات. بل قد عرف في باب جنايات الإحرام بوجه خاص أنه لا فرق بين معذور وغير معذور في وجوب الفدية، وما الخطأ إلا عذر من الأعذار، غاية ما يؤثر في العقوبة الأخروية فيسقطها.
وإذا ثبت أن جناية الإحرام يستوي فيها المعذور وغير المعذور علمنا أن القتل العمد والخطأ في وجوب الجزاء سواء، وليس ذلك إثباتا للكفّارة بالقياس، بل بما ثبت به أن ضمان المتلفات يستوي فيه العمد والخطأ.
وذهب ابن عباس فيما رواه قتادة عنه: أنه لا شيء في الخطأ، وهو قول طاوس وعطاء ومجاهد في إحدى الروايتين عنه.
والرواية الأخرى أنّه إن قتله عامدا ناسيا لإحرامه، أو قتله خطأ ذاكرا لإحرامه فهذا الذي يحكم عليه بالجزاء. أما من قتله عامدا ذاكرا لإحرامه فهذا لا ينفعه الجزاء.
فقد أخرج ابن جرير «1» عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه، ولا مريد غيره، فقد حل، وليس له رخصة، ومن قتله ناسيا إحرامه، أو أراد غيره، فذلك العمد المكفر.
وروى ابن أبي نجيح عنه أيضا في هذا المعنى قال: من قتله ناسيا لإحرامه متعمّدا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه، فإن قتله ذاكرا لإحرامه متعمّدا قتله لا يحكم عليه، ولا حجّ له.
وفي رواية: هذا لا يحكم عليه. هذا أجلّ من أن يحكم عليه. وقال ابن زيد:
أما الذي يتعمّد فيه، وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله غير محرّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله، وهو يعلم أنّه محرم، وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله.
فهذه أقوال ثلاثة في قتل الصيد، وقد علمت أن الجمهور على الأوّل وعلمت وجهه. فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرئ فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين، والمعنى على هذه القراءة فالواجب جزاء مماثل للمقتول.
(1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (7/ 27) .
وقرئ فجزآء مثل برفع جزاء مضافا إلى مِثْلُ ما قَتَلَ وظاهر هذه القراءة أنّ الجزاء إنما هو جزاء مثل المقتول لا جزاء المقتول.
قالوا: إن ذلك خارج مخرج: مثلك جدير بالإكرام، والمعنى أنت جدير بالإكرام، ومن ذلك قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] إذ المعنى كمن هو في الظلمات، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى (من) والمعنى فجزاء من مثل ما قتل.
ومِنَ النَّعَمِ يحتمل أن يكون حالا من الجزاء، والمعنى فجزاء مماثل للمقتول حال كون الجزاء من النعم، وجوّز بعضهم أن يكون بيانا لما في قوله: ما قَتَلَ والمعنى عليه: فجزاء مماثل للمقتول حال كون المقتول من النعم، وأنت تعلم أن ذلك إنما يتم على رأي أبي عبيد والأصمعي اللذين يقولان: إن النعم كما يكون من الأهلي يكون من الوحشي، وهو خلاف المشهور، إذ إنّ المشهور أن النعم يطلق على الإبل وحدها، وعلى البقر والغنم مضمومة إلى الإبل، ويصح أن يكون حالا من الضمير في (قتل) وهو قريب من هذا المعنى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالمثل، فقد روي عن ابن عباس أن المثل النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير، وكذا كل صيد قتل يجب فيه نظيره في المنظر، وهو مذهب محمد بن الحسن والشافعي ومالك والإمامية، وحجتهم أن الله أوجب مثل المقتول مقيّدا بكونه من النعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة لأنّها ليست من النعم.
وقد أوجب الصحابة رضوان الله عليهم كعلي وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، إلى غير ذلك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا قبل الصيد، يقوّم في المكان الذي صيد فيه، أو في أقرب الأماكن إليه، وفي زمان الصيد، لأنّ القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، وخلاف محمد إنما هو فيما له مثل، أما ما لا مثل له فالواجب القيمة عنده كما هي عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأما الشافعي فقد روي عنه أنه يعتبر المماثلة ولو في الصفات، فأوجب في الحمامة شاة، لأنّ الحمامة تشبه الشاة في عب الماء وفي الهدير.
احتج أبو حنيفة وأبو يوسف: بأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا، والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل منه، وذلك يكون فيما هو مماثل في الصورة والمعنى، وذلك طنما هو من المشارك في النوع، وإيجاب ذلك متعذر، لأنّ نوع الصيد صيد، وهو محذور، فننتقل منه إلى ما يقاربه، وهو المثل في المعنى، فوجب المصير إليه،
وذلك لأنّه قد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، فقد قال الله تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ والمراد من المثل النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات، فهو مشترك معنوي، والحيوانات قد اعتبرها الشارع من القيميات للاختلاف الباطني في أبناء النوع الواحد، فأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلف نوعه.
وقد أهدر الشارع في ضمان المتلفات المماثلة الحاصلة في الصورة الظاهرة في أبناء النوع الواحد، فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر، ولسنا نقول إننا نعتبر القيمة ونصرفها نقدا، بل نحن نعتبرها معيارا تعرف بها قيمة الصيد، ثم يشترى بها ما يساويها من النعم إن بلغت هديا، وإلا أطعم بها مساكين، أو صام بمقدارها. فالمدار في الجزاء على المثل الذي هو القيمة، ليمكن أن يلجأ الحكمان إليها في تعيين الواجب من النعم.
ويستشهد الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن الالتجاء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف أنظار الناس فيه، وذلك ليس إلا القيمة. فإنّ مقابلة الصفات الظاهرة من العبّ والهدير قد لا تخفى على أحد.
وللشافعي ومحمد رضي الله عنهما أن يقولا: بل الأمر على العكس، فلم يوجب الله في ضمان سائر المتلفات غير الصيد الالتجاء إلى الحكمين، لأنّ الوقوف على القيمة سهل، فأما الوقوف على المضاهاة والمشاكلة في صفات الحيوانات وهيئاتها وطبائعها مما لا يهتدي إليه إلا الخبير بهذه الصفات والطبائع، والخبير بهذه الأشياء في الناس قليل. وما نظن أحدا يشعر أنّ بين الحمامة والشاة شبها في العب والهدير إلا من درس طبائع الحيوان وخواصه، فمن أجل ذلك احتجنا إلى الحكمين.
يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أي أنّ الجزاء الواجب يحكم به حكمان عدلان من المسلمين حال كون المحكوم به هديا بالغ الكعبة. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أي من قتل صيدا فالواجب عليه جزاء مثله من النعم يبينه الحكمان، أو كفارة هي طعام مساكين أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أو ما يساوي ذلك، أي الجزاء المماثل صياما يقدر لكل ما يساوي طعام مسكين صوم يوم، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما، لأنّ الصيام لم يعهد في أقل من يوم.
وأنت ترى في الآية (أو) التي للتخيير، فأين التخيير يا ترى: أهو لمن وجب عليه الجزاء، أم هو للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه قاتل الصيد لا يتعداه.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن الحكمين يقدران قيمة الجزاء، وأنه يساوي كذا من الهدي، وكذا من طعام المساكين، وكذا من الصيام، وقاتل الصيد مخيّر بين أيّها يفعل.
وقال محمد وهو محكيّ عن الشافعي أيضا: بل الخيار للحكمين، ومتى حكما بشيء والتزمه القاتل لا يتعداه.
ويريد أبو حنيفة: أن يأخذ من قوله: (هديا) دليلا على أنّ الواجب في الجزاء القيمة، لأن الهدي لم يعرف إلا فيما تجوز به الضحايا، وهو الجذع من الضأن، والثني من غيره، لأنّ مطلق اسم الهدي ينصرف إليه، كما في هدي المتعة والقران.
ولمحمد والشافعي أن يقولا: إن اسم الهدي قد يطلق على كل ما يهدى، وقد تأيّد هذا المعنى عندهما بما روي من أن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة.
وأبو حنيفة يجيب عما ورد من فعل الصحابة: بأنهم إنما أوجبوه طعاما لا هديا، وأبو حنيفة يجيز أن يكون الإطعام من الصغار التي لا تصلح للضحايا على أنها طعام لا هدي.
هذا وقد دلت الآية الكريمة على أنّه إذا كان الجزاء هديا فلا بدّ أن يبلغ الكعبة، فيذبح هناك.
قال العلماء: والمراد من الكعبة الحرم، وإنما خصّت بالذكر للتعظيم، فلو ذبحه في غير الحرم كان إطعاما. والإطعام كما يكون في الحرم يكون في غيره، وقد نقل عن الشافعي أنّ الإطعام كذلك اعتبارا بالهدي.
ومحلّ إثبات ذلك أو نفيه في الفقه، لأنّ الآية لم تقيّد الإطعام بكونه بالغ الكعبة.
لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي شرعنا ما شرعنا من الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره.
والوبال في الأصل الثقل، ومنه الوابل للمطر الكثير، والوبيل للطعام الثقيل الذي يعسر هضمه، والمرعى الوخيم.
والمعنى شرعنا ذلك ليذوق من قتل الصيد ثقل فعله وسوء عاقبته.
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد وأنتم محرمون، فلم يجعل فيه إثما، ولم يوجب فيه جزاء، ولم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك، مع أنه ذنب عظيم، حيث كنتم على شريعة إسماعيل، وقد كان الصيد فيها محرّما.
وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد ورود النهي فالله ينتقم منه، وهو العزيز الذي لا يغالب، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه.
والمراد بالانتقام الانتقام في الآخرة.
وأما الكفارة فقد أوجبها الجمهور على العائد، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن وابن جبير.
وروي عن ابن عباس وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة، حتى إنهما كانا يسألان المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم، لم يحكم عليه، وإن قال: لا، حكم عليه. وهم في هذا الذي ذهبوا إليه يتمسكون بظاهر الآية.
والجمهور يقولون: إن عذابه والانتقام منه في الآخرة لا ينافي وجوب الجزاء عليه، وإنما لم ينصّ عليه لعلمه مما تقدم.
قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) أي أحل لكم أيها المحرمون ما يصاد من الماء بحرا كان أو نهرا، أو غيره، والمراد به الحيوان الذي يكون توالده ومثواه في الماء، سواء أكان مأكولا، أم غير مأكول.
وقد قيل: إنّ هذا الترخيص خاصّ بالسمك، أما طير البحر فلا يتناوله الترخيص وَطَعامُهُ المراد منه ما يطعم منه ويحل أكله، فهو من عطف الخاص على العام، ويكون الحل الواقع على الصيد المراد منه حل الانتفاع مطلقا، ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة امتنانا بالإنعام بما هو قوام الحياة، وهو الأكل.
ولا شكّ أنّ الصيد من البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل، كأخذ زيته، وما يحويه بعض حيوان البحر من العظم والسن والعنبر وغير ذلك.
وذهب ابن أبي ليلى إلى أنّ المراد من الصيد والطعام المعنى المصدري، فكأنه قيل: أحل لكم الاصطياد من البحر، وأن تطعموا ما صدتموه، ومن أجل ذلك ذهب هو إلى أنّ جميع حيوان البحر مأكول.
وقيل: بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة، وبطعامه ما ألقاه البحر أو جزر عنه الماء.
غير أنّ هذا ربما يعكّر على الحنفية الذين يقولون بحرمة ما طفا على وجه الماء من السمك الميت، وإن كان لهم أن يقولوا في الجواب: إن ما طفا ليس مما ألقاه البحر، بل هو ميت لعلة أخرى غير الصيد وغير إلقاء البحر وانحسار الماء عنه، وهو حينئذ ميتة يشملها قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] وقد تقدّم الكلام فيه في سورة البقرة.
وقيل: المراد بصيد البحر السمك الطري: وبطعامه السمك المملوح، وسميّ طعاما لأنه يدّخر للاقتيات؟ قالوا: وهذا بعيد، لأنه داخل تحت قوله: صَيْدُ الْبَحْرِ لأنّه قبل أن يملّح كان طريا.
مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحللنا لكم ذلك لتتمتعوا به مقيمين ومسافرين، ولا
شكّ أنّ صيود البحر فيها متعة ومنفعة في السفر والحضر، سواء بالأكل أو بالادخار، أو بما يخرج منه مما ينتفع به.
ويرى بعضهم أنّ التمتع به على التوزيع، فالطريّ منه للمقيمين، والقديد للمسافرين. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ هو ما يكون توالده ومثواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته، والتحريم هنا إما منصبّ على ذات المصيد، أو على الفعل، فإن كان الثاني فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط، وأما الأكل منه بأن ما يصيده حلال فلا تدل الآية على منعه، فمن يرى منعه فليلتمس له دليلا من غير الآية. وأما إذا كان التحريم منصبا على ذات المصيد فهو يقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد، إلا ما يخرجه الدليل على ما تقرّر في الأصول، فيشمل تحريم الصيد والأكل وغيرهما، وقد عرفت أن قتل الصيد يخرج منه أشياء كالكلب العقور والذئب والسبع الضاري، لأنها من الخمس الفواسق:
أما الذئب فلأنه عدّ نصا في بعض الروايات من الخمس الفواسق، وفي بعضها قيل: إنّه المراد من الكلب العقور، وأما السبع الضاري فلضراوته، والشافعي يخرج هذه الثلاثة، لأنها ليست بصيد، لأنّ الصيد عنده ما يؤكل على ما تقدّم.
ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين، وظاهر الآية تحريم كلّ الصيد على المحرم، سواء أصاده هو أم محرم آخر أم حلال، سواء كان للمحرم دخل في صيده، أم لم يكن له دخل.
والمسألة خلافية عند السلف، فمذهب ابن عباس وابن عمر وجماعة أنّ الصيد مطلقا حرام على المحرم عملا بظاهر الآية، وأيضا
فقد أخرج مسلم «1» عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، أو بعضه، أو بعض لحمه، أو عضوا من لحم صيد على اختلاف في الروايات، وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان، فردّه صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» .
ويرى أبو هريرة وعطاء ومجاهد وابن جبير وعمر وطلحة وعائشة أنه يحل له أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله ما دام لم يدل عليه، ولم يشر إليه، ولم يأمره بصيده «2» ، وهو رواية الطحاوي عن أبي حنيفة، ووجهه أنّ الخطاب للمحرمين، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم، والمراد ما يصيدونه حقيقة أو حكما بأن يدلّوا عليه، أو يشيروا إليه، أو يأمروا به.
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 850) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد حديث رقم (1193) .
(2)
سبق تخريجه.
وقد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فارتفعت أصواتنا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«فيم تتنازعون» .
فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم، فأمرنا بأكله.
وروى مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، وخرجنا معه، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة، فقال:«خذوا ساحل البحر حتى تلقوني» . قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة، فإنّه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فأصاب منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها قال: فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون إلخ القصة، وفيها أنهم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء» . قالوا: لا، قال:«فكلوا» «1»
. وعن مالك والشافعي وأحمد وداود رحمهم الله أنه لا يباح ما صيد له لما
رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال وأنتم محرمون، ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم» «2» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اتقوه فيما نهاكم عنه من الصيد وفي جميع المعاصي فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ويحاسبكم حسابا عسيرا.
قال الله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) سمّي البيت الحرام كعبة لعلوّه، وارتفاع شأنه، ومن ذلك الكعبان، للعظمين الناتئين بجانبي القدمين، ويقال: كعب ثدي المرأة إذا نتأ وبرز الْبَيْتَ الْحَرامَ بيان الكعبة على جهة التمدح، فإنّه معظّم عندهم منذ القدم، لحرمته وقِياماً لِلنَّاسِ مفعول جعل الثاني، ومعنى كون البيت الحرام قياما للناس أنّ به قوامهم في صلاح أمورهم دينا ودنيا. حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا، فيه يأمن الخائف، وينجو اللاجئ، وبه يطعم البائس الفقير، مما جعل الله في الحج من مناسك بها عمارة واد غير ذي زرع،
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 853) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد للمحرم، حديث رقم (59/ 1196) .
(2)
رواه أبو داود في السنن (2/ 113) ، كتاب المناسك، باب لحم الصيد حديث رقم (1851) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 204) ، كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد حديث رقم (846) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 205) ، كتاب الحج، باب إذا أشار إلى الصيد حديث رقم (2826) .
ولولا ما فرض الله من الحج والنّسك ما استطاع أحد أن يقيم فيه، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا، والحسنات فيه مضاعفة، لتشتد رغبة الناس فيه، فيزيد الخير، وتعم البركة. هذا إلى ما في اجتماع الناس ومجيئهم من البلاد النائية، والأقطار المختلفة من منافع دونها منافع المؤتمرات التي يلجأ إليها الناس اليوم لتعرّف وجوه مصلحة المجتمع، انظر كيف قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الحج: 27، 28] ولا تنس ما في أعمال الحج من منافع، حيث يتجرد الناس عن أمور الدنيا، لا يحملهم شيء على هذا التجرد إلّا تقوى الله، والمبادرة إلى امتثال أمره. يتذكرون باجتماعهم وتجرّدهم هول المحشر، والوقوف بين يدي ربهم، فتشتد خشيتهم، ويعظم خوفهم، فيتجنبون الموبقات والآثام.
قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه.
وأخرج ابن جرير «1» عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك كذلك. فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض. فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله.
وتعظيم البيت وجعله أمنا للخائف وملجأ للعائذ، أمر أودعه الله في قلوب الناس منذ القدم، وليس هناك ما يمنع الناس من الاعتداء غير ما أودعه الله في القلوب من الهيبة والجلال، وتعظيم البيت. وقد طبع الناس على الشر، فلا يكبح جماحهم في نفوسهم إلا امتثال أمر الله. وبذلك أمكن أن يعيش الناس في هذه الأرض الجرداء.
فسبحان المدبر الحكيم.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على الكعبة، والمعنى وجعل الشهر الحرام قياما للناس، والمراد منه الشهر الذي يؤدّى فيه الحج، أو الجنس فيشمل الأشهر الأربعة، وقد عرفت أنّ المراد من القيام الصلاح في الدنيا والآخرة. ولا شكّ أنّ الشهر الحرام كذلك حيث يقوم فيها الحاج ممتثلا أمر ربه، ويقدم النسك، فينتفع، وينتفع الناس، ويأمن الخائف، حيث إنهم كانوا يأمنون فيها، ويتصرفون في معايشهم، فهو قيام للناس أيضا وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله أيضا وَالْهَدْيَ ما يهدى إلى الحرم ولا شك أنّه قيام للناس، به يقيم الفقر صلبه وَالْقَلائِدَ جمع قلادة والمراد بها ما يقلّد به البعير، وما كانوا يفعلونه من تقليد أنفسهم ومطيّهم بلحاء الشجر، حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء، وقيل: بل المراد من القلائد ذوات القلائد، وخصت بالذكر لأنّ بها يعرف كون الهدي هديا، فلا يتعرّض له أحد بسوء حتى يبلغ محلّه، فيؤدي الغرض
(1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (7/ 50) .
الذي من أجله شرع ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإنّ شرع الحج وما فيه من مناسك ومنافع يقتضي حكمة وتدبيرا يستلزمان العلم بتفاضل الأشياء، وما ينطوي عليه من الأسرار، وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وذكر العامّ بعد الخاصّ ليكون الخاصّ كالدليل على العام.
قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
(البحيرة) : فعيلة بمعنى مبحورة، أي مشقوقة، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنيها، وشقوها، وامتنعوا من نحرها، ولا تطرد من ماء ولا مرعى، وقيل فيها غير ذلك.
و (السائبة) : فاعلة من سيبته فساب، إذا تركته فهو سائب، روي عن ابن عباس أنها التي تسيّب للأصنام، فتعطى للسدنة، وقيل غير ذلك.
و (الوصيلة) : قال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل غير ذلك.
و (الحامي) : قال أبو عبيدة والزجاج: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل غير ذلك.
والمعنى: ما شرع الله هذه الأشياء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ حيث كانوا يفعلون ما يفعلون وينسبونه إلى شرع الله، وهم لا يعقلون أنّ ذلك افتراء على الله، وهو تنديد بهم لتعطيلهم العقل والنظر، إذ لو نظروا لعلموا أنّ هذه وثنية وشرك. والله لا يأمر بالكفر، ولا يرضاه لعباده.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ: يجوز أن يكون مبتدأ وخبره اثنان، على حذف مضاف أي شهادة بينكم شهادة اثنين، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا، أي فيما أمرتم أن
يشهدوا اثنان، ويكون اثنان فاعلا بالشهادة، وقرئ شَهادَةُ بالنصب والتنوين، أي ليقم شهادة بينكم اثنان، وعلى القراءة الأولى تكون إضافة شهادة إلى الظرف، وهو بينكم على التوسع.
وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: شارفه، وظهرت أمارته، وهو ظرف متعلّق بشهادة وحِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه، وفي هذا الإبدال تنبيه على أنّ الوصية لا ينبغي أن نتهاون فيها.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفتان لاثنان أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ عطف على اثنان، وظاهر الآية أنّ المراد اثنان من المؤمنين، أو آخران من غير المؤمنين، لأنّ الله وجّه الخطاب للمؤمنين جميعا، فإذا قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فهما من غير المؤمنين.
وقال بعضهم: مِنْكُمْ أي من قبيلتكم، ومن غيركم، أي من غير قبيلتكم إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل، فليس المراد الموت بالفعل، وإنما المراد مشارفته، والعرب قد تعبّر بالفعل عن مقاربته ومشارفته تَحْبِسُونَهُما تقفونهما، وتصبرونهما، للحلف مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر، وإنما فهمت صلاة العصر مع أن الصلاة مطلقة، لأنّها كانت معهودة للحلف عندها، وكان أهل الحجاز يقعدون للحكومة بعدها، وقيل: أي صلاة كانت، وقوله:
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ جوابه محذوف دلّ عليه ما قبله، أي إن أنتم ضربتم في الأرض فآخران من غيركم، وجملة الشرط وجوابه اعتراضية، فائدتها التنبيه على أنّ شهادة اثنين من غير المسلمين إنما هي عند الضرورة، وقوله: تَحْبِسُونَهُما إما صفة لآخران، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا نفعل بهما، فقال:
تحبسونهما من بعد الصلاة.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في أمرهما، وجوابه محذوف علم مما قبله، أي فحلّفوهما لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً الضمير في به يرجع إلى القسم المفهوم من فَيُقْسِمانِ والمعنى لا نشتري بصحة القسم ثمنا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي لو كان المقسم له ذا قربى، قال الزمخشري «1» : أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان المقسم له قريبا على معنى أنّ هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ لا نكتم شهادة الله، أي الشهادة التي أمر الله بحفظها.
(1) انظر تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الرازي (1/ 688) .
وروي عن الشعبي أنه وقف على شَهادَةُ وابتدأ اللَّهِ بمد الهمزة وتأويلها أنه حذف حرف القسم، وعوّض عنه همزة الاستفهام، والمعنى على القسم. وقرئ اللَّهِ بدون مد على القسم أيضا، وقد ذكر سيبويه أن من العرب من يطرح حرف القسم ولا يعوض منه حرف الاستفهام، فيقول: الله لقد كان كذا.
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي اطّلع على أنهما فعلا ما أوجب إثما، واستوجبا أن يقال: إنهما من الآثمين.
فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قرئ استحقّ على البناء للمفعول، والمعنى فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الإثم، أي من الذين جني عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته، والْأَوْلَيانِ خبر لمبتدأ محذوف.
أي هما الْأَوْلَيانِ كأنّه قيل: من هما؟ فقيل: الْأَوْلَيانِ أو بدل من الضمير في يقومان، ومعنى الْأَوْلَيانِ الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت، ويجوز أن يكون الْأَوْلَيانِ نائب فاعل اسْتَحَقَّ على حذف مضاف، أي استحق عليهم انتداب الأولين.
وقرئ على البناء للفاعل والمعنى من الذين استحق عليهم الأوليان أو يجرّد وهما للشهادة، ويقدموهما لها، ويظهروا بهما كذب الكاذبين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي ما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهما إلى الخيانة، إنا إذا اعتدينا وخوّناهما وهما ليسا خائنين لمن الظالمين!.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي ما تقدم من الحكم أقرب أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة بالشهادة على وجهها الذي تحمّلوها عليه خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المتقدم.
وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ بيان لحكمة ردّ اليمين على الورثة، وهو معطوف على مقدّر ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة، أو يخافوا أن تردّ أيمان على الورثة بعد أيمانهم، فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد، فيكون ذلك الخوف داعيا إلى أن ينزجروا عن الخيانة التي تؤدي إليه، فأي الخوفين كان وجد المطلوب، وهو تأدية الشهادة دون تحريف ولا تبديل.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا سمع إجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
يؤخذ من الآية أنّ الله طلب أن يشهد الموصي على وصيته اثنين عدلين من المؤمنين فإن كان في سفر، وأشرف على الموت، ولم يجد من المؤمنين، أشهد من غير المؤمنين على وصيته، فإذا أديا الشهادة، وارتاب ورثة الميت في شهادتهما حلف
الشاهدان بعد صلاة العصر على أنهما صادقان فيما شهدا به. فإن اطّلع على خيانة من هذين الشاهدين، فليقم اثنان من ورثة الميت الموصي، ويقسمان بالله على كذبهما، وهذا الحكم أقرب إلى أن يؤتى بالشهادة على وجهها، خوفا من الله، أو خوفا من العار.
سبب نزول هاتين الآيتين أنّ تميم بن أوس الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة، وكانا حينئذ نصرانيين، ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا، فلما قدموا الشام مرض بديل، فكتب كتابا فيه جميع ما معه، وطرحه في متاعه، ولم يخبرهما بذلك، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات، ففتشاه، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب، فأخفياه، ودفعا المتاع إلى أهله، فأصابوا فيه الكتاب، فطلبوا منهما الإناء، فقالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء، وأمرنا أن ندفعه إليكم، ففعلنا، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، واستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يأخذا شيئا مما دفع إليهما، ولا كتما، فحلفا على ذلك، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما، ثم إنّ الإناء وجد بمكة، فقال من بيده الإناء: اشتريته من تميم وعدي، وقيل لما طالت المدة أظهراه، فبلغ ذلك بني سهم فطلبوه منهما، فقالا: كما اشتريناه من بديل. فقالوا: ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئا؟ فقلتما: لا. قالا: ما كان لنا بينة فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله عز وجل: فَإِنْ عُثِرَ
الآية، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخانا فدفع الإناء إليهما «1» ، وفي الآية سؤالات:
أ- يؤخذ من ظاهر الآية أنّ غير المسلم تجوز شهادته على المسلم.
اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ والآيات الأخرى تدلّ بعمومها على عدم صحة شهادة غير المسلمين. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] وغير المسلمين ليسوا بعدول. ولمكان هذا السؤال اختلف العلماء في الجواب عنه، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم، ويبين فساد هذا الجواب أنّ الله خاطب المؤمنين عامّة في أول الآية. فإذا قال: مِنْكُمْ أو مِنْ غَيْرِكُمْ كان الظاهر من المؤمنين أو من غير المؤمنين.
وذهب آخرون إلى أنّ هذه الآية قد نسخت وبطل حكمها، ويبعد هذا الجواب
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 240) ، كتاب التفسير باب ومن سورة المائدة حديث رقم (3059) .
أن دعوى النسخ لا تقبل إلا بحجة، وليس مع القائلين بالنسخ إلا مجرّد الدعوى، كيف وقد عمل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده.
روي أنه شهد رجلان من أهل دقوقا على وصية مسلم فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر ما اشترينا به ثمنا ولا كتمنا شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، ثم قال: إن هذه القضية ما قضي بها من زمان رسول الله إلى اليوم.
وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إنه لا منسوخ في المائدة.
وروي أيضا: المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها.
وذهب آخرون إلى أن المراد من الشهادة أيمان الأوصياء للورثة، فما في الآية ليس شهادة، بل هو وصية، ويذهب إلى أنّ الأيمان قد سميت شهادة في القرآن وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: 6] .
وهذا الجواب أيضا بعيد عن ظاهر الآية لأنه قال: اثْنانِ، واليمين لا تختص بالاثنين، وقال: ذَوا عَدْلٍ واليمين لا يشترط فيها ذلك، وقال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [النساء: 101] هو ليس شرطا أيضا في اليمين.
وأحسن الأجوبة عن ذلك ما ذهب إليه علماء الحديث، وقاله الإمام أحمد: من أنه أجيزت شهادة الكفار في السفر للضرورة، قال صالح بن أحمد قال أبي: لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في مواضع: في السفر الذي قال الله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فأجازها أبو موسى الأشعري.
وقد روي عن ابن عباس أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من أهل الكتاب، وهذا موضع ضرورة لأنّه في سفر، ولا نجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت في هذا المعنى وهو مذهب شريح، وقول سعيد بن المسيب، وحكاه عن ابن عباس.
وبقي في المسألة بحث، وهو أتجوز شهادتهم عند أحمد في كل ضرورة أم لا تجوز إلا في ضرورة السفر؟ قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع هو ضرورة يقتضي هذا التعبير قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا، ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه.
هذا في شهادة الكفار على المسلمين، وأما شهادة بعضهم على بعض فذهب كثير من العلماء إلى منعها، واحتجوا بظواهر من القرآن مثل قوله: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وقوله:
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] .
وذهب آخرون إلى جوازها، وأجابوا عن هذه الآيات بأنّ هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين، فإنّ السياق كله في ذلك، فإن الله تعالى قال: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ
مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
إلى قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فلا تعرض في شيء من ذلك لحكم أهل الكتاب البتة.
واحتجوا بقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] فأخبر أنّ منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فكونه أمينا على قرابته وأهل ملته أولى، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض. وهي أعلى رتبة من الشهادة وغاية الشهادة أن تشبّه بها، فإذا كان له أن يزوّج ابنته وأخته، ويلي مال ولده: فقبول شهادته عليه أولى وأحرى.
واحتجوا أيضا بما
روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون»
وبما
ثبت في «الصحيح» «1» : مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي وقد حمم فقال: «ما شأن هذا» ؟ فقالوا: زنى، فقال:«ما تجدون في كتابكم» إلخ.
فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما، وهذا هو الفقه. فإنّ أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم الجنايات، ويتعدّى بعضهم على بعض، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاء المسلمين، فإذا لم يحكموا بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ضاعت حقوقهم، وأدّى ذلك إلى الظلم والفساد، فالحاجة ماسّة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض، وقد يكون بينهم الصادق الذي يتحرّى الصدق في أخباره، فيطمئن القاضي إلى قبول قوله.
وإذا كان القصد من الشهادة الحكم بينهم بالعدل، ورفع التظالم، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه: فكل شهادة منهم أوقعت في نفس القاضي ظنّا بصدقها وجب العمل بها للعدل والحق.
ب- إنّ هذه الآية تجيز شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم، وهذا يخالف ما علم من الشريعة من أنّ
«البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» «2»
وما علم من الشريعة هو محض العدل، لأنه
«لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم» «3»
أما جواب الجمهور عن هذا فمعروف وهو أن هذه الآية منسوخ حكمها.
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1327) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (28/ 1700) . [.....]
(2)
و (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1336) ، 30- كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه حديث رقم (1/ 1711) .
وأما على ما ارتضيناه من أنه لا نسخ فيها فالجواب هو ما يأتي: إنّ اليمين جعلت في جانب المدّعى عليه بقوة جانبه، بأن الأصل يشهد له، فإذا قوي جانب المدّعي بشاهد حلف معه فاليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة. وهنا قد قوي جانب المدعي بالعثور على أنهما استحقا إثما، فلا جرم كانت اليمين في جانبهم، فليس هذا مخالفا للأصول، وإنما هو متفق معها، فقوة جانبهم بالعثور على الخيانة، كقوة جانب المدعي بالشاهد، وقوة جانبه بنكول خصمه عن اليمين، وقوة جانبه باللوث، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين وغير ذلك.
ج- هذه الآية تقتضي بتحليف الشاهد، والشاهد لا يحلف وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] والجواب أنّ هذه الشهادة بدل عن شهادة المسلم للضرورة، فطلب الاحتياط فيها.
على أنّ بعض السلف ذهب إلى تحليف الشاهد المسلم إذا ارتاب فيه الحاكم، وقد حلّف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.