الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن هوداً عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشقُّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدِّم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجراً، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالاً مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة تَرْك ما تَعوَّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة.
وما دُمْتُ لن آخذ منكم أجراً، إذن: فلا مشقة أكلِّفكم بها، كما أنني في غِنًى عن ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الذي فطرني أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود:
51]
.
أي: أنَّ أجري على مَنْ خَلَقني مُعَدّا لهذه الرسالة؛ لأن الفطرة تعني التكوين الأساسي للإنسان.
والحق سبحانه قد أعدَّ هوداً عليه السلام ليكون رسولاً، ونحن نعلم أيضاً أن الأجر يكون عادة مقابلاً للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتاً، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتُسمَّى هذه العملية بيعاً وشراءً.
أما إذا استأجر الإنسان بيتاً فهو يدفع إيجاراً مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلام:
{لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] .
يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجراً كبيراً مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلاً لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة!
ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة:
{لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] .
إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فسيدنا إبراهيم لم يَقُلْها بسبب أبيه، وسيدنا موسى لم يقلها؛ لأن فرعون قال له:
{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] .
إذن: كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجَمَّة، وهي المنهج الرِّسالي الذي جاء به هود عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطباً قومه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ}
وهكذا نعلم أن الاستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب، فنقول يارب اغفر لنا.
وساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف الحق لك هو تكليف حق.
وما دام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا يرتكب ذنوباً جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي.
وعلى الإنسان أن يتذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر الله تعالى؛ فلا تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم.
والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن يصحِّح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقَّون عنه «افعل» و «لا تفعل» .
وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه «قوم عاد» ، والدعوة إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدِّي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة.
والذين يخافون من دخول الإسلام في حركة الحياة، يريدون منَّا أن نقصر الدين على الطقوس، ونقول لهم: إن الإسلام حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها، وحارب حضارتين عريقتين؛ حضارة الفرس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب.
وهؤلاء كانوا أمماً لها حضارات قديمة وقوية، وثقافات وقوانين، ومع ذلك جاء قوم من البدو الأمِّيين؛ يقود عقيدتهم رجلٌ أمِّيٌّ أرسله الله سبحانه وتعالى؛ فيطيح بكل هؤلاء؛ نظماً وثقافات وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقل.
يريد هؤلاء إذن أن يقوقعوا الإسلام في الأركان الخمسة فقط؛ ليعزلوه عن حركة الحياة.
ونقول لهم: لا، لا يمكنكم أن تقصروا العبادات على الأركان الخمسة فقط؛ لأن العبادة معناها أن يوجد عابد لمعبود حقٍّ، وأن يطيع العابد أوامر المعبود؛ وتتمثَّل أوامر المعبود في «افعل» و «لا تفعل» ؛ وما لم يَردْ فيه «افعل» و «لا تفعل» ؛ فهو مباح؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ وبفعله أو عدم فعله لا يفسد الكون.
إذن: فالعبادة هي كل أمر صادر من الله تعالى؛ فلا تعزلوها في الطقوس؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أبلغنا؛ وأوضح لنا أن أركان الإسلام الخمس هي التي بني عليها الإسلام؛ وليست هي كل الإسلام.
إذن: فالإسلام بناء يقوم على أركان؛ لذلك لا يمكن أن نحصر الإسلام في أركانه فقط؛ فالإسلام هو كل حركة في الحياة، ولا بد
أن تنتظم حركات البشر تبعاً لمنهج الله، لتنتظم الحياة كما انتظم الكون من حولنا.
فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة، وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب العبادات في تقسيم الفقهاء، وأغفلوا أن باب المعاملات هو من العبادة أيضاً، واستقامة الناس في المعاملات تؤدي إلى انتظام حياة الناس.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
{وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} [هود: 52] .
والاستغفار لا يكون إلا عن ذنوب سبقت؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه السلام لقومه؛ إذن: فالاستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول الذي جاء من قبله، أو هي الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة.
ثم يدعوهم بقوله: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 52] .
والتوبة تقتضي العزم على ألا تُنشئوا ذنوباً جديدة.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] .
ولقائل أن يقول: وما صلة الاستغفار بهذه المسألة الكونية؟
ونقول: إن للكون مالكاً لكلِّ ما فيه؛ جماده ونباته وحيوانه؛ وهو سبحانه قادر، ولا يقدر كائن أن يعصي له أمراً؛ وهو القادر أن يخرج الأشياء عن طبيعتها؛ فإذا جاءت غيمة وتحسب أنها ممطرة؛ قد يأمرها الحق سبحانه فلا تمطر.
مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم:
إذن: فلا تأخذ الأسباب على أنها رتابة؛ إنما ربُّ الأسباب يملكها؛ فإن شاء فعل ما يشاء.
وإذا ما عبدتَ الله تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة؛ فأنت تُقبل على عمارة الأرض؛ وتوفِّر لنفسك القُوْتَ باستنباطه من الأسباب التي طمرها الله سبحانه وتعالى في الأرض.
والقوت كما نعلم من جنس الأرض؛ لذلك لا بد أن نزرع الأرض؛ وتَمُدَّ البذور جذورها الضارعة المسبِّحة الساجدة لله تعالى؛ فيُمطر الحقُّ سبحانه السماءَ؛ فتأخذ البذور حاجتها من الماء المتسرِّب إليها عبر الأرض؛ ونأخذ نحن أيضاً حاجتنا من هذا الماء.
والسماء هي كل ما عَلاكَ فأظلَّكَ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر، وكل الأشياء دونها.
وانظروا قول الحق سبحانه:
أي: من كان يظن أن الله تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما علاه ويعلِّق نفسه فيه؛ ولسوف يموت، وغيظه لن يرحل عنه.
{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} [هود: 52] .
والمدرار: هو الذي يُدِرُّ بتتابع لا ضرر فيه؛ لأن المطر قد يهطل بطغيان ضارٍّ، كما فتح الله سبحانه أبواب السماء بماء منهمر.
إذن: المدرار هو المطر الذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم َ يقول حين ينزل المطر: «اللهم حوالينا ولا علينا» .
ومتى أرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً؛ فالأرض تخضرُّ؛ وتعمر الدنيا؛ ونزداد قوة إلى قوتنا.
أما مَنْ يتولَّى؛ فهو يُجرم في حقِّ نفسه؛ لأن إجرام العبد إنما يعود على نفسه؛ لا تظنّ أن إجرام أَيِّ عبدٍ بالمعصية يؤذي غيره.
والحق سبحانه يقول:
{ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] .
ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالردِّ الذي قاله قوم عاد: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ}
وهم هنا ينكرون أن هوداً قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ.
والبيِّنة كما نعلم هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هوداً هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت برداً وسلاماً عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام:
أي: إن كنتم أهلاً للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان.
وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحداً لن يستطيعَ إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله. . ما حدث هذا أبداً.
إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم َ.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل عليهم جميعاً السلام قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفىء.
فمثلاً شفى عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص بإذن ربه فمَنْ رآه آمن به، ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى عليه السلام ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ قبل قيام الساعة أن يقول: محمد رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم َ جاء رسولاً عامّا؛ ولا رسول من بعده؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له:
وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد:
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ}
[العنكبوت: 51] .
ومع ذلك كذَّبوا.
وأضاف قوم عاد:
{وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] .
هم إذن قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام «آلهة» ؛ لأن الإله مَنْ يُنزل منهجاً يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئاً؛ ولم تُبلغهم منهجاً.
إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟
لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، ويسمِّى ذلك ديناً.
وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم:
{وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] .
يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] .
أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه:
{وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] .
وإنْ عدَّيتها بحرف «الباء» مثل قول الحق سبحانه:
{مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62] .
فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية.
وإن عدَّيتها بحرف «اللام» ؛ مثل قول الحق سبحانه: