المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيبةَ الأب عَمَّا - تفسير الشعراوي - جـ ١١

[الشعراوي]

الفصل: وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيبةَ الأب عَمَّا

وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيبةَ الأب عَمَّا حدث ليوسف من قبل.

وهنا يأتي الحق سبحانه بما قاله أبوهم يعقوب عليه السلام: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ

.} .

ص: 7012

وهنا يُذكِّرهم أبوهم بأنهم لم يُقدِّموا من قبل ما يُطمئِنه على ذلك؛ فقد أضاعوا أخاهم يوسف وقالوا: إن الذئب قد أكله.

وأضاف: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف:‌

‌ 64]

.

وهو قَوْل نتنسَّم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم، وأنه يدعو الحق ليحفظ ابنه.

وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة، وبعد الحوار مع أبيهم.

ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ

.} .

ص: 7012

وهكذا اكتشفوا أن بضائعهم التي حملوها معم في رحلتهم إلى مصر ليقايضوا بها ويدفعوها ثمناً لِمَا أرادوا الحصول عليه من طعام ومَيْرة قد رُدَّتْ إليهم؛ وأعلنوا لأبيهم أنهم لا يرغبون أكثر من ذلك؛ فهم قد حصلوا على المَيْرة التي يتغذَّوْنَ بها هم وأهاليهم.

ولا بُدَّ أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة، ولسوف يحفظونه، ولسوف يعودون ومعهم كيْل زائد فوق بعير، وهذا أمر هَيِّن على عزيز مصر.

ولكن والدهم يعقوب عليه السلام قال ما أورده الحق سبحانه هنا: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ

} .

ص: 7013

ونلحظ هنا رِقَّة قلب يعقوب وقُرْب موافقته على إرسال ابنه «بنيامين» معهم إلى مصر، هذه الرِّقَّة التي بَدَتْ من قبل في قوله:{فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 64] .

وطلب منهم أن يحلفوا بيمين مُوثقة أن يعودوا من رحلتهم إلى

ص: 7013

مصر، ومعهم أخوهم «بنيامين» إذا ما ذهب معهم؛ ما لم يُحِطْ بهم أمر خارج عن الإرادة البشرية، كأن يحاصرهم أعداء يُضيِّعونهم ويُضيِّعون بنيامين معهم؛ وهذا من احتياط النبوة؛ لذلك قال:

{إِلَاّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ

} [يوسف: 66] .

وأقسم أبناء يعقوب على ذلك، وأعطَوْا أباهم اليمين والعهد على رَدِّ بنيامين، وليكون الله شهيداً عليهم.

قال يعقوب:

{الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] .

أي: أنه سبحانه مُطلع ورقيب، فإن خُنْتم فسبحانه المنتقم.

ويُوصِي يعقوب أولاده الأسباط: {وَقَالَ يابني

.} .

ص: 7014

وقد قال يعقوب عليه السلام ذلك الكلام في المرة الثانية لذهابهم إلى مصر، بعد أن عَلِم بحُسْن استقبال يوسف لهم، وأن بضاعتهم رُدَّتْ إليهم، وعلم بذلك أنهم صاروا أصحاب حَظْوة عند عزيز مصر.

ص: 7014

وساعةَ ترى إنساناً له شأن؛ فترقب أن يُعادى، لذلك توجَّس يعقوب خِيفة أن يُدبِّر لهم أحد مكيدة؛ لأنهم أغراب.

ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكانت المدن قديماً لها أبواب؛ تُفتح وتقفل في مواعيد محددة، وحين يدخلون فُرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة.

وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد، ونعلم أن الحسد موجود.

وقد علَّمنا سبحانه أن نستعيد به سبحانه من الحسد؛ لأنه سبحانه قد عَلِم أزلاً أن الحسد أمر فوق طاقة دَفْع البشر له، وهو القائل:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] .

وفي أمر الحسد أنت لا تستطيع أن تستعيذ بواحد مُسَاوٍ لك؛ لأن الحسد يأتي من مجهول غير مُدْرَك، فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة، وإذا كان عصرنا، وهو عصر الارتقاءات المادية قد توصَّل إلى استخدام الإشعاع في تفتيت الأشياء.

إذن: فمن الممكن أن يكون الحسدُ مثل تلك الإشعاعات؛ والتي

ص: 7015

قد يجعلها الله في عيون بعض خلقه، وتكون النظرة مثل السهم النافذ، أو الرصاصة الفتاكة.

والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} [المدثر: 31] .

وإنْ قال قائل: ولماذا يُعطي الحق سبحانه بعضاً من خلقه تلك الخواص؟

أقول: إنه سبحانه يعطي من الإمكانات لبعض من خلقه، فيستخدمونها في غير موضعها، وكلُّ إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة، ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة المُؤْذية، ويمكنك أن تنظر دون حسد إنْ قُلْتَ: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك.

بذلك لا تتحقق الإثارة اللازمة لتأجُّج الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تستعيذ بالله خالق البشر وخالق الأسرار، وتقرأ قول الحق سبحانه:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] .

وأن تقول كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين كان يُعوِّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول: «

ص: 7016

أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامَّة» .

وقال صلى الله عليه وسلم َ: «كان أبوكما إبراهيم يُعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام» .

كما «أنه صلى الله عليه وسلم َ:» كان إذا حَزَبَهُ أمر قام وصلى «

، لأن معنى حَزْب أمر للرسول صلى الله عليه وسلم َ، أو لواحد من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم َ أن هذا الأمر يخرج عن قدرة البشر.

وهنا على الإنسان أن يأوي إلى المُسبِّب، فهو الركن الشديد، بعد أن أخذتَ أنت بالأسباب الممدودة لك من يد الله، وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المُضطر؛ لا ذهاب الكسول عن الأخذ بالأسباب.

والحق سبحانه يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] .

والمضطر هو من استنفد كل أسبابه، ولم يَدْعُ ربه إلا بعد أن

ص: 7017

أخذ بكل الأسباب الممدودة، فلا تطلب من ذات الله قبل أن تأخذ ما قدمه لك بيده سبحانه من أسباب.

وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد يعقوب عليه السلام وقد أوصى أبناءه ألَاّ يدخلوا مصر من باب واحد؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد، وتنبهت قضية الإيمان بما يقتضيه من تسلم لمشيئة الله، فقال:

{وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ. .} [يوسف: 67] .

أي: لست أُغْني عنكم بحذري هذا من قدر الله، فهو مجرد حرص، أما النفع من ذلك الحرص والتدبير فهو من أمر الله، ولذلك قال:

{إِنِ الحكم إِلَاّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} [يوسف: 67] .

فكل الخَلْق أمرهم راجع إلى الله، وعليه يعتمد يعقوب، وعليه يعتمد كل مؤمن.

ونفَّذَ أبناءُ يعقوب ما أمرهم به أبوهم، يقول سبحانه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ

} .

ص: 7018