المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا فَصَلَتِ … } . - تفسير الشعراوي - جـ ١١

[الشعراوي]

الفصل: ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا فَصَلَتِ … } .

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا فَصَلَتِ

} .

ص: 7068

و «فصلت» تدل على شيء كان مُلْتصقاً بشيء آخر وانفصل عنه، وفَصِلت العِيرُ. أي: خرجتْ من المدينة وتجاوزتْها؛ لتسير في رحلتها، والمقصود خروج القافلة من حدود مصر قاصدةً مكان يعقوب عليه السلام.

وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء:

{إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:‌

‌ 94]

.

والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول يعقوب من أقربائه لم يُصدِّقوا قوله، فأضاف:

{لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] .

أي: لولا اتهامكم لي بالخَرف، لأن التفنيد هو الخرف.

ص: 7068

ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صُورَ المرائي والأصوات، توجد لها آثار في الجو، رغم ما يُخيَّل للإنسان أنها تلاشتْ.

ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أيِّ جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين، ممَّا يدلُّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلال يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.

وكذلك الأصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون: لا شيءَ يضيع في الكون، بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.

والرائحة أيضاً لا تضيع، بدليل أن الكلب يشُمُّ الريح من على مسافات بعيدة، ويميز الآن المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدرَّبة في المطارات وعلى الحدود؛ لتكشف أيَّ محاولة لتهريب المخدرات.

وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادراً على التقاط الرائحة من بين آلاف الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر؛ يبحث الآن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلام؛ استطاع يعقوبُ بقدرة الله أن يَشُمَّ رائحة يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.

ص: 7069

ولسائل أن يقول: ولماذا ارتبط تنسُّم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العِير من مصر، وتواجدها على الطريق إلى موطن يعقوب؟

نقول: لأن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها من الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب على كل الروائح؛ ويختلف الأمر في الخلاء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبَّة الرائحة دون أن يعترضها شيء.

وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع؛ مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] .

وكل ما يصدر منك مُسجَّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه، وتكون على نفسك حسيباً.

ويردُّ مَنْ بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف: {قَالُواْ تالله

} .

ص: 7070

وكأنهم قد مَلُّوا حديثه عن يوسف؛ وأعرضوا عن كلامه قائلين له: إلى متى ستظل على ضلالك، وهم لا يعنُون الضلال بمعنى الخروج عن المنهج، ولكنهم يعنُونَ الضلال بمعنى الجزئيات التي لا علاقة لها بالتديُّن من محبة شديدة ليوسف، وتعلُّق به، والتمنِّي لعودته، وكثرة الحديث عنه، وتوقُّع لقائه، وهم الذين ظَنُّوا أن يوسف قد مات.

ص: 7070

ويأتي البشير ليعقوب، يقول الحق سبحانه:{فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير. .} .

ص: 7071

وحين حضر البشير، وهو كما تقول الروايات كبير الأخوة؛ ويُقال أيضاً: إنه يهوذا؛ وهو مَنْ رفض أن يغادر مصر إلا بعد أن يأذن له والده، أو يأتي حَلٌّ من السماء لمشكلة بقاء بنيامين في مصر، بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة، طبقاً لما أراده يوسف ليستبقي شقيقه معه.

ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذاً لأمر يوسف عليه السلام.

وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفَرِح يعقوب فرحاً شديداً؛ لأنه في أيام حزنه على يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدَّثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال حياً؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.

ص: 7071

وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من الله أن إلقاء القميص على وجه أبيه يردُّ إليه بصره، بإذن من الحق سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس على الحالة الصحية، وهكذا تجلَّتْ انتصارات الحقِّ والنبوة.

وقال يعقوب عليه السلام:

{أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] .

ولم يَقُلْ ذلك إذلالاً لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع قد أيَّد الكلام الذي قاله لهم:{يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلَاّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] .

فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لأن العقول تأخذ مُدْركات الأشياء على قَدْرها، وهناك أشياء فوق مُدْركات العقول.

وحين يُحدِّثكم معصوم عن ما فوق مُدْركات عقولكم إياكم أن تُكذِّبوه؛ سواء فهمتم ما حدَّثكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عَمَّا فوق مُدْركات العقول.

ص: 7072