المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام، - تفسير الشعراوي - جـ ١١

[الشعراوي]

الفصل: وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام،

وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام، فجاء بلقطة استواء السفينة على الجودي.

ويقال: إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال: إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر.

ويقول الحق سبحانه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ}

ص: 6478

والبلع هو مرور الشيء من الحَلْق ليسقط في الجوف، وساعة أن يأتي في القرآن أمر من الله تعالى مثل:

{وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} [هود:‌

‌ 44]

.

فافهم أن القائل هو من تَنْصَاع له الأرض.

ولم يَقُل الله سبحانه: «قال الله يا أرض ابلعي ماءك» ؛ لأن هناك أصلاً متعيّناً وإنْ لم يقُله، والحق سبحانه يريد أن ينمِّي فينا غريزة وفطنة الإيمان؛ لأن أحداً غير الله تعالى ليس بقادر على أن يأمر الأرض بأن تبلع الماء.

ص: 6478

ويكون أمره سبحانه للسماء: {وياسمآء أَقْلِعِي} أي: أن توقف المطر.

وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصبَّ، وأعطى الأمر للمصرف أن يسحب الماء.

ونحن نلاحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحيِّ تطفح إن كان هناك ما يسدُّ تصريف الماء؛ لأن أرض المدن حالياً صارت من الأسفلت الذي لا يمتص المياه؛ ولذلك نجد الجهات المختصة تجنِّد طاقاتها لإصلاح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى لا تتعطل حركة الحياة.

وأقول هنا: إن حُسن استخدام الماء من حُسن الإيمان؛ لأني ألحظ أن الناس حين يتوضأون فهم يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيراً عن حاجتهم للوضوء الشرعي، فيجب ألا نرتكب إثم ترك الماء النقيِّ ليضيع دون جدوى.

وعلى الناس أن يدَّخروا الماء، ولا يُسيئوا استغلاله؛ لأن الماء حين يتوفَّر فهو يُحيي الأموات، ونحن نحتاج الماء لاستزراع الصحاري، ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات الصرف الصحيِّ.

باختصار؛ نحن نحتاج إلى حُسن استقبال نِعَمِ الله تعالى وحُسن التصرُّف فيها؛ لننعم بها، ونسعد بخيرها.

وقول الحق سبحانه:

{وياسمآء أَقْلِعِي} [هود: 44] .

أي: اتركي المطر. . ومن ذلك أخذنا كلمة «قِلْع» الذي يوضع فوق السفن الشراعية الصغيرة، وهو الشِّراع.

ص: 6479

ويُقال: «أقلعت المركب» أي: تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على الشاطىء.

ويقول الحق سبحانه:

{وَغِيضَ المآء} [هود: 44] .

وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول؛ لنعلم أن الله تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض.

ومادة «غاض» تُستعمل لازمةً، وتُستعمل متعديةً.

ثم يقول سبحانه:

{واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] .

أي: استقرت السفينة على جبل الجودي.

ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:

{وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [هود: 44] .

وهو بعدٌ نهائيٌّ إلى يوم القيامة.

وتتحرك عاطفة الأبوة في نوح عليه السلام، ويظهرها قول الحق سبحانه:{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي}

ص: 6480

وعاطفة الأبوة عاطفة محمودة، والحق سبحانه يشحن بها قلب الأب على قَدْر حاجة البنوة، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودة، لما تحمُّل أيُّ أبٍ أو أيُّ أمٍّ متاعب تربية الأبناء.

وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتِّباع نجد المثل في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين قال فيه الحق سبحانه:

{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] .

أي: أن أداء إبراهيم عليه السلام للتكاليف كان على وجه التمام، مثلما أراد أن يرفع القواعد من البيت، فرفعها فوق قامته بالاحتيال، فاحضر حجراً ووقف عليه ليُعلي جدار الكعبة.

وقال له الله تعالى:

{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] .

لأنك مأمون على منهج الله وقادر على أن تنفِّذه بدقة، فقال إبراهيم عليه السلام:

{وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .

فقال الحق سبحانه:

ص: 6481

{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .

من هذا نعلم أن النبوَّة ليس لها بنوَّة، بل النبوَّة لها أتباع.

ويتضح ذلك أيضاً في قول إبراهيم عليه السلام بعد أن استقرَّ في ذهنه قول الحق سبحانه:

{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .

قال إبراهيم لربه سبحانه طلباً للرزق لمكة وأهلها:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126] .

هكذا طلب إبراهيم عليه السلام الرزق للمؤمنين، لكن الحق سبحانه يبيِّن له أنه نقل المسألة إلى غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية هي للمؤمن فقط؛ لذلك قال الحق سبحانه:

{وَمَن كَفَرَ} [البقرة: 126] .

أي: أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية.

ونريد أن نقول إنَّ عاطفة الأبوة والأمومة إنما تتناسب مع حاجة الابن تناسباً عكسيّا، فإن كان الابن قوّياً فعاطفة الأبوة والأمومة تقلُّ.

ومثال ذلك: أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر الأبوين ويتكفَّل بهما، بينما الابن الآخر فقير لا يقدر على رعاية الأبوين.

ص: 6482

وسنلحظ أن قلب الأب والأم يكون مع الفقير، لا مع الغَنيِّ، فعاطفة الأبوة والأمومة تكون مع الضعيف والمريض والغائب، وكلما كان الابن في حاجة؛ كانت العاطفة معه.

وفي نداء نوح عليه السلام لربه سبحانه نلحظ أن نوحاً كان يملك المبرِّر طلباً لنجاة الابن؛ لأن الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين وكذلك أهله، فأراد نوح عليه السلام أن يطلب النجاة لابنه من أهله، فقال:

{رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] .

إذن: فنوح عليه السلام يملك حق الدعاء؛ لأنه يطلب تحقيق وعد الله تعالى بأن يحمل أهله معه للنجاة.

وحين يقول نوح: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} هو إقرار بأن الله سبحانه لا يخطىء؛ لأن الابن قد غرق، بل لا بد أن ذلك الغرق كان لحكمة.

ويقول الحق سبحانه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}

ص: 6483