المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} - تفسير الشعراوي - جـ ١١

[الشعراوي]

الفصل: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}

ومادة «غَنِيَ» . . «غِنىً» ، أو «غَنَاءً» كلها متساوية؛ لأن الغَنَاء هو الوجود؛ وجود شيء يُغَنِي عن شيء، فالغِنَى هو وجود مال يغنيك عن غيرك، والغناء هو ما نسمعه من المُغَنِّين، والأغنية التي يعجب الإنسان من كلماتها ولحنها، فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلام على كثرة ما سمع أو قرأ، والغَناء هو للإقامة.

والحق سبحانه يقول:

{حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] .

أي: كأنها لم توجد من قبل.

وهنا يقول الحق سبحانه:

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود:‌

‌ 68]

.

ص: 6545

أي: لم يقيموا فيها، لأنها صارت حصيداً.

ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] ، وهذه هي حيثية العذاب الذي نزل بهم.

وعادة ما تتعدى كلمة «كفر» بالباء، ويقال: كفروا بربهم، ولكن الحق سبحانه يقول هنا:

{أَلَا إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] .

والفارق كبير بين المعنيين، فمعنى {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} أي: ستروا وجوده، فلا وجود له، ولكن معنى «كفروا بربهم» هو اعتراف بالله الموجود، لكنهم لم يؤمنوا به.

وقول الحق سبحانه: {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} يرد على الملاحدة الذين لا يقرون بوجود الله، لأن ذنب إنكار وجود الله ليس بعده ذنب، ولا يوجد ما هو أكثر منه في الذنوب.

لذلك يقول الحق سبحانه:

{أَلَا بُعْداً لِّثَمُودَ} [هود: 68] .

أي: أنهم: يستحقون ما وقع عليهم من إهلاك وطرد من رحمة الله، ولن يعطف عليهم أحد لضخامة ذنبهم.

ويأتي الحق سبحانه في الآية التالية بقصة جديدة من قصص الأنبياء، وهي جزء من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول سبحانه:

ص: 6546

وكلمة «رسل» جمع «رسول» ، والرسول هو المرسَل من جهة إلى جهة، وأي إنسان تبعثه إلى جهة ما؛ اسمه رسول، ولكن المعنى الشرعي للرسول: أن يكون مُرسَلاً من الله.

ويقول الحق سبحانه:

{الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [الحج: 75] .

واصطفاء الملائكة كرسل لتيسير التلقِّي عن الخالق سبحانه؛ لأن القوة التي تتلقى عن الخالق سبحانه وتعالى لا بد أن تكون قوة عالية، والإنسان منا لا يقدر على أن يتلقى مباشرة عن الحق سبحانه.

لذلك يأتي لنا الله جَلَّ عُلَاه بالرسل، فيصطفي من الملائكة المخصوصين القادرين على التلقي لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة.

ص: 6547

وهكذا نعلم أن الملائكة ليست كلها قادرة على التلقي من الله تعالى، ولا كل البشر بقادرين على التلقي عن الله أو عن الملائكة.

وهذه الحلقات في الإبلاغ أرادها الحق سبحانه، لتؤهل للضعيف أن يأخذ من الأقوى؛ والبشر يلجأون إلى ذلك في حياتهم.

وسبق أن ضربت المثل، بأننا أثناء الليل نطفىء نور المنزل، لكننا نترك ضوءاً خافتاً يوضح لنا ملامح البيت، فإن قمنا ليلاً من النوم؛ لا نصطدم بمتاع البيت، فيتحطم ما نصطدم به إن كان أضعف منا، أو نُصَاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا.

والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي.

وكذلك يفعل الله سبحانه وتعالى، فيأتي بمصطفى من الملائكة، يتلقى عن الحق سبحانه ويبلغ المَلَكُ من هؤلاء الرسولَ المصطفى من البشر.

والحق سبحانه هو القائل:

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] .

وهنا يقول الحق سبحانه:

ص: 6548

{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} [هود: 69] .

والبشرى هي الإخبار بشيء يسرُّ قبل أوان وقوعه، وهي عكس الإنذار الذي يعني الإخبار بشيء محزن قبل أوانه.

وقبل أن يوضح الرسل لإبراهيم عليه السلام البشارة التي جاءوا من أجلها، يعلمنا الحق سبحانه المقدمات اللازمة للدخول إلى الأماكن، فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن نسلِّم على أهل هذا المكان، والحق سبحانه القائل:

{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] .

ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملائكة من قبل إبلاغ البشرى:

{قَالُواْ سَلَاماً} [هود: 69] .

وجاء سبحانه بردِّ إبراهيم عليه السلام:

{قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] .

ونحن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب، والرد بالسلام جاء بالرفع، وقولهم:{سَلَاماً} دل على فعل يوضح التجدد، والرد جاء بكلمة {سَلَامٌ} بالرفع؛ ليدل على الثبات والإصرار.

والحق سبحانه هو القائل:

{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ}

[النساء: 86] .

هكذا استقبل إبراهيم عليه السلام رسل الحق سبحانه.

ثم يقول الحق سبحانه:

ص: 6549

{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .

والعجل هو ولد البقر.

وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في أكثر من موضع من مواضع القرآن، لا بقصد التكرار، ولكن لأن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها دلائلها وأسرارها، فإذا جُمِعَتْ اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلام في شمول متكامل.

وعلى سبيل المثال: يقول الحق سبحانه:

{وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] .

وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لإبراهيم، فيقول سبحانه:

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 7679] .

ص: 6550

إن هذه الآيات تبين وظيفة الحواس إدراكاً، ووظيفة الوجدان انفعالاً، ووظيفة الاختيار توحيداً وإذعاناً بيقين.

ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلام فخاطب عمه باحترام لمكانته التي تساوي منزلة الأب.

يقول الحق سبحانه:

{واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأبت لَا تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: 4145] .

فهذه الآية تبين رفق الداعي مع جمال العرض.

فأصرَّ العَمُّ على الشرك، فقال إبراهيم عليه السلام:

{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] .

وبعد ذلك يتبرأ منه لإصراره على الكفر.

ثم هناك لقطة من يُحاجِج إبراهيم في ربه:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] .

وكانت تلك سفسطة في القول ناتجة عن عجز في التعبير، فليس

ص: 6551

إصدار حكم بالقتل على إنسان، ثم العفو عنه، هو إحياء وإماتة، فأخذه إبراهيم عليه السلام إلى منطقة لا يجرؤ عليها أحد، وقال:

{فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] .

وهذه الآية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل، ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين المقارنة بين فكرة الكفر، وفكرة الإيمان، فيقول سبحانه:

{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}

[الشعراء: 6974] .

وفي هذه الآية أمثلة تحمل جواب الإسكات.

ثم يقول الحق سبحانه، على لسان إبراهيم عليه السلام:

{الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 7882] .

يقول رب العزة سبحانه في سورة الأنبياء:

{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: 5156] .

ص: 6552

هذه هي التربية اليقينية التي أرادها الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام ليعلمنا كيف يكون الإيمان؟

وكان قوم إبراهيم يعبدون آلهة غير الله، لكن إبراهيم عليه السلام توصَّل إلى عبادة مَنْ خَلَقه وخَلَق الكون، وهو الصانع الذي يضع قانون صيانة ما يصنع سبحانه وتعالى:

ولذلك نلاحظ قوله:

{الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] .

فلم يقل: «الذي خلقني يهديني» لأن هذه دعوى؛ ستُدَّعى، وسيضع الناس قوانين لأنفسهم، فبيَّن الحق سبحانه أن الذي خَلَق هو الذي يَهْدِي.

وجاء الحق سبحانه بكلمة «هو» لحصر الأمر حتى لا يشارك الخلق خالقهم فيه، لكن الأمر الذي لم يُدَّعَ، لم يأت فيه بكلمة «هو» كقوله:

{والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] .

فما لا شركة فيه عند الخَلْق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير، ولكن في الأمر الآخر يأتي بتأكيد الضمير كقوله:

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .

فقد قال: «إن الطبيب هو الذي يشفيني» ، ولكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الله سبحانه هو الذي يضع العلم، وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء.

ص: 6553

ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام:

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] .

إذن: فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني الإيمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة إبراهيم عليه السلام، وإذا جُمِعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد أن يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ القصص، فذلك لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم َ:

{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .

لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ يتعرض لكثير من الأحداث فيذكِّره الله سبحانه بما حدث للرسل عليهم السلام ويأتي باللقطات الإيمانية ليثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم َ.

وهنا يقول الحق سبحانه:

{قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .

وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:

{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] .

وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه هذا الموقف:

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ} [الذاريات: 28] .

ص: 6554

أي: أحس في نفسه الخوف، وهذا من أمر المواجيد؛ لأن كل فعل من الأفعال له مقدمات تبدأ بالإدراك، ثم النزوع، ثم الفعل؛ فحين رآهم إبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه خيفة، ثم نزع إلى فعل هو السلام.

والشرع لا يتدخل في الإدراك أو المواجيد، ولكنه يتدخل في النزوع، إلا في أمر واحد من مدركات الإنسان، وهو إدراك الجمال في المرأة.

لذلك أمر الشرع بغض البصر؛ حتى لا يدرك الإنسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه، ولأن إدراك حُسْن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري؛ لأن الغرائز لا تفصل النزوع عن الوجدان والإدراك.

وهنا بيَّن الحق مواجيد إبراهيم عليه السلام حين قال:

{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفْ} [هود: 70] .

وجاء بالمعنى النزوعي حين قال:

{قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] .

وهو حين التأكيد والتثبيت.

وقال الحق سبحانه:

{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .

وهو: العجل السمين المشوي على الحجارة؛ لأن الشواء كما نعلم قد يكون على اللهب أو على الفحم، أو على الحجارة.

ص: 6555

ومثل ذلك يحدث في البلاد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدّاً، ويحمُّونه على النار، ثم يشوون عليه اللحم، وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلات بين اللحم والحجر؛ لأن هناك تفاعلات تحدث من الحديد أو من الفحم؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء.

أو أن كلمة: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .

أي: ينزل منه الدهن بعد الشواء.

وقول الحق سبحانه:

{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .

لأن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلام هي محبة الضيوف وإكرامهم.

ومن عادة الكرام أن يُعجِّلوا بإكرام الضيف، وتقديم الطعام له، والكريم هو من يفعل ذلك؛ لأنه لا يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام، فإن كان الضيف جائعاً؛ أكل، وإن كان شبعان فهو يعلن ذلك.

ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلام بالعجل المشوي: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ}

ص: 6556