المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله - تفسير الشعراوي - جـ ١١

[الشعراوي]

الفصل: يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله

يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط، ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابَّة تدُّب في الأرض ولها حرية وحركة، والناصية هي مقدّم الرأس، وبها خصلة من الشعر.

وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدُّه منها.

والحق سبحانه وتعالى يقول:

{يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] .

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه:

{كَلَاّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية} [العلق: 15] .

إذن: فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلِّطوا مجموعة ثعابين، وأعداداً من الكلاب المتوحشة مثلاً على سيدنا هود عليه السلام.

لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم:

{مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:‌

‌ 56]

.

ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر الآية:

{رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]، وفي عَجزُ الآية قال:{إِنَّ رَبِّي} [هود: 56]، والسبب في قوله:{رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أنهم كانوا قادحين في مسألة ربوبية الحق سبحانه.

ص: 6510

لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أما في عجز الآية فقال:

{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] .

أي: أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأتِ هنا بشيء يخصُّ أربابهم؛ لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه.

والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}

ص: 6511

الفعل «تولَّوا» أصله: «تتولَّوا» ، وفي اللغة: إذا ابتدأ فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة.

وهكذا يكون المعنى:

إن تتولَّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عُذر لكم عندي؛ لأن الحق سبحانه لا يعذِّب قوماً وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم.

ص: 6511

أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبِّين له: فإن تولَّوا فقل لهم: {أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} [هود: 57] .

والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء لقوم، إما أن يكونوا عادلين؛ فلا يقفوا من المناهج ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد.

وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] .

والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعداً طيِّباً:

{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] .

إذن: فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا يتبعه، بل يتبع الشهوات.

وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:

{هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .

وهنا يقول الحق سبحانه:

{وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} [هود: 57] .

ص: 6512

لأن المنهج الذي نزل على الخَلْق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو سبحانه خَلَق أولاً بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفاً من الأوصاف، ولن يسلبه أحد وصفاً من الأوصاف.

ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفراً، وللمتمردين على المنهج بالمعصية:

أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول:«لن أمرض» ؟ ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت؟

إذن: فما دُمْتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام الله القهرية فيك؟

إنك لن تستطيع؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن تستطيع أن تأمر قلبك بعدم التوقف.

لذلك قال هود عليه السلام:

{وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57] .

فالله سبحانه رقيب؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه.

وبعض الفلاسفة قالوا: إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس والقوانين، ثم تركها تقوم بعملها.

ص: 6513

ولهؤلاء نقول: لا؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه:

{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] .

وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لأنه سبحانه مُنزَّه عن الغَفْلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ}

ص: 6514

وساعة تسمع {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ؛ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ:

ولذلك يقول الحق سبحانه:

{إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 12] .

إذن: فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه.

ص: 6514

وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون؛ أوحى الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً:

{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلَا تَخَافِي وَلَا تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] .

وكيف تفعل أمٌّ ذلك.

إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها؛ والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت محقَّق، لكن أم موسى استقبلت الوحي؛ ولم تتردد؛ مما يدل على أنها تُناقش الأمر بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه؛ إلهام لا ينازعه شَكٌّ أو شيطان.

وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر:

{فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] .

وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي؛ لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ الضد.

في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه:

ص: 6515

{حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] .

وحدث الطوفان؛ ليغرق الكافرين.

وهنا يقول الحق سبحانه:

{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 58] .

يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقَّق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى.

فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله؛ فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟

إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده؛ مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين.

ص: 6516

وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه يُنجي المؤمن؛ ويعذِّب الكافر؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.

يقول المتنبي:

تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا

وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ

وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً

لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ

وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس؛ يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكن إن تركت شيئاً أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل مختلف.

والحق سبحانه يقول هنا:

{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 58] .

فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام؛ لأن هذه هي الرحمة.

والرحمة كما نعلم هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء.

ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .

ص: 6517

ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين:

النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول سبحانه:

{نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] .

والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا.

أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.

وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.

ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلاً بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج.

يقول الحق سبحانه:

{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] .

وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ.

ص: 6518