الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَوْقَكُمُ الطُّورَ»
ذكر هنا أنهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بنى آدم جميعا وهم فى صلب آدم وأشركوا بالله وقالوا: عزير ابن الله.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي واذكر أيها الرسول للناس كافة ما أخذه الله من ميثاق الفطرة على البشر عامة، إذ استخرج من بنى آدم ذريتهم بطنا إثر بطن، وخلقهم على فطرة الإسلام بما أودع فى قلوبهم من غريزة الإيمان اليقيني بأن كل فعل لا بد له من فاعل وأن فوق كل العوالم القائمة على سنة الأسباب والمسببات سلطانا أعلى على جميع الكائنات هو المستحق للعبادة وحده، وأشهد كل واحد من هؤلاء الذرية الحادثة جيلا بعد جيل على نفسه بما أودعه فى غريزته واستعداده قائلا لهم قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة، فالكلام من قبيل التمثيل، وله نظائر فى القرآن الكريم وأساليب العرب كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء:«فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» وقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقول بعض العرب: قال الجدار للوتد لم تشقّنى؟ قال سل من يدّقنى، فإن الذي ورائي، ما خلّانى ورائي: أي ورأيى.
وقال ابن كثير فى تفسير الآية: يخبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى:«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»
وفى الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة»
وفى رواية:
؟
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» اهـ.
وقال ابن القيم فى كتاب الروح فى سياق البحث فى خلق الأرواح قبل الأجساد ما خلاصته: إن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم، فميّز شقيّهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم، والآثار متظاهرة به مرفوعة، وإن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته كما تدل على ذلك الآية.
قال أبو إسحق: جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير. وقال ابن الأنبارى: مذهب أهل الحديث وكبراء العلم فى هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم فى صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له، فاعترفوا بذلك وفعلوا، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل بالبعير لما سجد، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت اهـ.
وقال الحسن بن يحيى الجرجاني: إنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها فى نفسه وفى العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشّرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحد منهم بالطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركّب فيهم من القدرة، وآتاهم من الأدلة، وبيّن سبحانه ما هو عامل فى البالغين الذين أدركوا الأمر والنهى، وحجب عنا علم ما قدره فى عير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور فى حكمه، وحكيم لا تفاوت فى صنعه، وقادر لا يسئل
عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين اهـ.
ثم بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال:
(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي إنا فعلنا هذا منعا لاعتذاركم يوم القيامة، بأن تقولوا إذا أشركتم إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبّه، ومآل هذا أنه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل لأنهم نهّوا بنصب الأدلة وجعلوا مستعدّين لتحقيق الحق وإبعاد الشرك عن قلوبهم.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي أو تقولوا فى ذلك اليوم: إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنّوه من قبل زماننا وكنا جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم ولم نهتد إلى التوحيد، أفتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين، فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم؟.
والخلاصة- إن الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد، إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا يركن إليه ولا ينبغى لعاقل أن يلجأ إليه، كما أن الاعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة- نفّصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم فى التبصر فيها والتدبر فى أمرها، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم.
وفى الآية إيماء إلى أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة فى الشرك بالله تعالى ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة وتدرك ضررها العقول الحصيفة، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو تفصيل العبادات وعالم الغيب وما سيكون فى اليوم الآخر من أحوال العاصين وشئون النبيين والصديقين من عقاب وثواب وكنه ذلك على الحقيقة