الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
هذه الآيات الكريمة من تتمة ما قبلها مؤكدة له ومقررة لما تتضمنه وهو إثبات التوحيد ونفى الشرك، وهو رأس الإسلام وركنه المتين، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه فى القرآن، نفيا وإثباتا ليتأكد فى النفوس، ويثبت فى القلوب، وبه تخلع جذور الوثنية، ويحل محلها نور الوحدانية.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الدعاء هو النداء لدفع الضر وجلب النفع الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه إما بذاته وإما بحمله الربّ الخالق على ذلك: أي إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد أمثالكم فى كونهم مخلوقين لله خاضعين لإرادته وقدرته، وإذا كانوا أمثالكم كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم مالا يستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم وإنما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق، والذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها.
(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فى زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية من نفع أو ضر فادعوهم فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون.
ثم ارتقى سبحانه فى الرد عليهم وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم، بل أحط منهم منزلة ودونهم رتبة، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال:
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟) أي إن هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر فى هذه الحياة، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ولا آذان يسمعون بها أقوالكم ويعرفون بها مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم فى الصفات والقوى التي أودعها الله فى الخلق، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة.
وإنكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول ويقول بعضكم لبعض:
فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى، ثم ترفعون مادونه ودونكم إلى مقام الألوهية مع انحطاطه عن درجة المثلية.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال:
(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين تحتقرون نعم الله عليهم: نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، ثم تعاونوا على كيدى جميعا وأوقعوا الضر بى سريعا فلا تنظرون أي لا تؤخرونى ساعة من نهار.
والحكمة فى مطالبتهم بهذا، أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان ولا يجدى معها دليل، ومن ثم طالبهم بأمر عملى ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصدّ دعوة الداعين إلى الكفر بها وإثبات العجز لها وإنكار مالها من سلطان غيبى وتدبير كامن، فإن كان لها حقا سلطان فى أنفسها أو من عند الله فهذا إبّان ظهوره، وإلا فمتى يظهر ليساعد أبطال عبادتها وينصر عابديها ومعظّمى شأنها، ومن الجلى أن القوم كانوا ينكرون البعث فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو فى هذه الحياة.
ثم زاد الأمر بيانا وبالغ فى حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر وهو بمكة حين نزول هذه السورة فقال:
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي إن متولى أمرى وناصرى هو الله الذي نزّل علىّ الكتاب المؤيد لوحدانيته ووجوب عبادته ودعائه عند الشدائد والملمات، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد، وسلمت من الأوهام والخرافات، والأعمال التي تصلح بها شئون الأفراد والجماعات، فينصرهم على ذوى الخزعبلات والأوهام، وفاسدى العقائد والأحلام تصديقا لقوله:«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» .
ثم أكد ما سلف بقوله.
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي وإن من تدعونهم لنصركم وجلب النفع لكم ودفع الضر عنكم عاجزون، فلاهم بالمستطيعين نصركم ولا نصر أنفسهم على من يحقّر شأنهم أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب أو حلى، فقد كسّر إبراهيم صلوات الله عليه الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولا أن ينتقموا منه لها.
وقد روى عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة- أنهما كانا يعدوان فى الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.
وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيد قومه- صنم يعبده فكانا يجيئان فى الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيغه أيضا،