الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك فى ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبّرون فى السر من وسائل الإيقاع بك، فإنّ فى ذلك القصص على المؤمنين والكافرين فى عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك.
(لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث: إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتى، وإما الإخراج والنفي من الوطن.
وقد روى أن أبا طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال:
يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى، قال من حدّثك بهذا؟ قال ربى، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصى؟ بل هو يستوصى بي فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.
وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلّغه للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن إجماع الرأى عليه والشروع فى تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب.
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي إن دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم والله محبط ما دبروا، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين، لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه.
وفى الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة فى معاملته صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.
وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة، وبها ظهر الإسلام وخذل الشرك
روى من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق فى سيرته قال: إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس فى صورة شيخ جليل، فلما رأواه قالوا من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منى رأى ونصح، قالوا أجل فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا فى شأن هذا الرجل فو الله ليوشكنّ أن يؤاتيكم فى أمركم بأمره، فقال قائل: احبسوه فى وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأى والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا فى غير هذا الرأى، فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره فى غيركم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعنّ إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأى لا أرى غيره قالوا وما هذا؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه فى القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بنى هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأى، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت
فى مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك فى الخروج وأمره وصحبه بالهجرة. وافترض عليهم القتال فأنزل «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» الآيتين فكان أول ما أنزل فى الحرب وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين.
ولما قص الله مكرهم فى ذات محمد قص علينا مكرهم فى دين محمد فقال:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون: لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلى علينا، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بنى عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل.
ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها فى الكذب فقالوا:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هى من خبر الغيب الدالّ على أنه وحي من الله.
وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة وأن محمدا هو الذي افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى:«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدّوا العرب عن القرآن وقد كذبهم الله فيه فما استطاعوا له إثباتا.