الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم، والمتين: القوى الشديد، والجنة (بالكسر) نوع من الجنون. والإنذار: التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته، والملكوت: الملك العظيم، وملكوت السموات والأرض: مجموع العالم، والحديث: كلام الله وهو القرآن، والطغيان تجاوز الحد فى الباطل والشر من الكفر والفجور والظلم: والعمه. التردد فى الحيرة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين. الجن والإنس وأبان أهمّ أسباب ذلك، وهى أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، قفّى على ذلك ببيان وصف أمة الإجابة وثنّى، بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلّث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، ثم أرشد إلى التفكر الموصّل إلى الفقه فى الأمور ومعرفة الحقائق، وإلى النظر الهادي إلى الحجة، والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول، ثم ختمها ببيان عدم الطمع فى هداية من قضت سنة الله بضلاله وتركه يعمه فى طغيانه.
الإيضاح
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبعض ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة، يهدون بالحق ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون فى الحكومات التي تجرى بينهم ولا يجورون، فسبيلهم واحدة، لأن الحق واحد لا يتعدد، وهؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج فى قوله تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذه أمتى، بالحق يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون» .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها. وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) .
وأخرج أبو الشيخ عن على بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة، يقول الله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هى التي تنجو من هذه الأمة اهـ.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي والذين كذبوا بآيات الله سندعهم يسترسلون فى غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله فى المنازعة بين الحق والباطل وأن الحق يدفع الباطل، وما ينفع الناس يتغلّب على ما يضرهم كما قال تعالى بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال:«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
وقد صدق الله وعده، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، اغترارا بكثرتهم وثروتهم لا يعتدّون به ولا بغيره ممن آمن به أوّلا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء، فما زالوا يتدرّجون فى عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم فى غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا تغلّبهم عليه آخر معركة أحد حتى قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر- إلى أن كان الفتح الأعظم: فتح مكة فأظهر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى.
وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما حملت إليه كنوز كسرى: اللهم إنى أعوذ بك أن أكون مستدرجا فأنى سمعتك تقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) .
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين فى العمر وأمدّ لهم فى أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سننى فى نظام الاجتماع البشرى
كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم ونصرا لهم كما قال تعالى: «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وروى الشيخان من حديث أبي موسى: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» .
وخلاصة ذلك- إن سنة الله قد مضت فى الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل فى ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ظلمه فى الدنيا يأخذ الحكام له أو بوقوعه فى المصايب والمهالك، وله فى الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟) أي أكذبوا الرسول ولم يتفكروا فى حاله من بدء نشأته وفى حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم؟
إنهم إن تفكروا فى ذلك مليا أو شكوا أن يعرفوا الحق، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة، وقد حكى الكتاب الكريم عنهم أنهم رموه بالجنون كقوله فى كفار مكة:«أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله: «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» وقوله: «وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ»
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال:
ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا: يا بنى فلان، يا بنى فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون: بات يهوّت (يصيح) حتى أصبح. فأنزل الله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا
ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» .
وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون، لأنهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم، ولأنهم ادعوا مالم يعهد له نظير عندهم، فقد حكى الله عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا:«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» وقال فى شأنهم:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ» وقال حكاية عن فرعون فى موسى عليه السلام: «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلّغ عن الله، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم فى الدنيا بجمع الكلمة وصلاح حال الفرد والمجتمع والسيادة على من سواكم وصلاحكم فى الآخرة بلقاء ربكم وأنتم فى جنات النعيم.
والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بِصاحِبِهِمْ) لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا فى سيرته ليعلموا أنه ليس من دأبه الكذب ولا هو مما عهد عنه كما شهد بذلك بعض زعمائهم فقال، إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس، أفيكذب على الله؟ ومن ثم قال تعالى فى أولئك الزعماء:«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .
ولو تأمل مشركو مكة فى نشأته صلى الله عليه وسلم وما جرّبوا من أمانته وصدقه إلى أن اكتهل ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح فى حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأى ذلك النبي الأمى الناشئ بين الأميين، وأن ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على
ما يدّعى لا يصدر ممن لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه فى روعه ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أكذّبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال فى هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفى كل ما خلق الله، وإن دق وصغر، إنهم لو تأملوا فى كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا، ولا ترك الناس سدى.
إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد.
وفى كل شىء له آية
…
تدل على أنه واحد
إنهم لو نظروا فى شىء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك لو نظروا فى توقع قرب أجلهم، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم، لا حتاطوا لأنفسهم، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم فى الدنيا وخير لهم فى الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع فى إيمانه بغيره.
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي إن الله قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا وأكملهم عقلا، وأجملهم أخلاقا، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول فهو الذي