الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى صلوات الله عليه، وإيقاظ المؤمنين ألا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم، فإن بنى إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما من الله تعالى به عليهم من النعم.
الإيضاح
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي إنهم تجاوزوه بعناية الله وتأييده، فكأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم، فأتوا عقب تجاوزهم إياه ودخولهم فى بلاد العرب من البحر الأسيوى على قوم يعبدون أصناما لهم: فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا فى مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها.
وسر هذا الطلب أنهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، إذ أن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم.
ولم يذكر القرآن شيئا يعيّن شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل.
والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر روى عن قتادة أنهم من عرب لخم، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس.
وقد جاء آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج (وكان الرب يسير أمامهم نهارا فى عمود من غمام ليهديهم الطريق، وليلا فى عمود من نار ليضىء لهم ليسيروا نهارا وليلا، ولم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب) .
ثم جاء فى الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتباع فرعون ومن معه لبنى إسرائيل (فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بنى إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من
أمامهم فوقف وراءهم؟ ودخل بين عسكر المصريين، وعسكر بنى إسرائيل، فكان من هنا غماما مظلما، وكان من هناك ينير الليل، فلم يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل.
ولا شك أن هذا الطلب دليل على الضعف البشرى فى كل زمان ومكان، فلا عجب أن روى عن بعض حديثى العهد من الصحابة بالإسلام مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام لما كان للوثنية فى قلوبهم من التأثير.
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط فقال (الله أكبر) هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم» .
وللمسلمين عبرة فى هذا فإن لهم الآن ذوات أنواط فى بلاد كثيرة كشجرة الحنفي بمصر، وقد اجتثت أخيرا وشجرة (ست المنضورة) ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها ويقبّلونها ويتمرغون بأعتابها ويتمسحون بها خاشعين ضارعين راجين شفاء الأدواء والانتقام من الأعداء وحبل العقيم ورد الضالة وغير ذلك من النفع، وكشف الضر، وهذا مخالف لنصوص كتاب الله وسنة رسوله، إذ هذا عبادة وإن كانوا لا يسمونها بذلك، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية (إلا بالتسمية) إذ حقيقة العبادة كل قول أو عمل يوجه إلى معظّم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده.
وقد أجابهم موسى عن طلبهم بقوله:
(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي إنكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين- فالله قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.
وبعد أن بيّن لهم جهلهم وسفههم، بيّن لهم فساد ما طلبوه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال:
(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضىّ على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق فى هذه الديار، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله ذى الجلال، فإنما بقاء الباطل فى ترك الحق له وبعده عنه.
وفى هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وقد حقق الله ما قال:
(قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي قال لهم موسى: أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السموات والأرض، وقد فضلكم على العالمين بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه؟.
والخلاصة- إن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال لأنه باطل فى نفسه، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح البتة سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين أو أخسها كالأصنام ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة فى هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب، وهم فرعون وقومه- برسالة موسى وهرون منهم وتجديد ملة إبراهيم فيهم وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره.
ثم ذكر سبحانه منته على بنى إسرائيل فقال:
(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي واذكروا إذ أنجيناكم بإرسال موسى وبما