الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار: إن ينتهوا عماهم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله، يغفر لهم الله ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب، فلا يعاقبهم على شىء من ذلك فى الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال: فلما جعل الله الإيمان فى قلبى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت يدى، قال مالك؟ قلت أردت أن أشترط. قال ماذا تشترط؟ قلت أن يغفر لى قال أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» .
(وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة فى أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، من نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال:«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» .
ثم بين ما سلف من قوله: فقد مضت سنة الأولين، ورغب المؤمنين فى قتالهم فقال:
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة فى الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش فى مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم فى دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقيّة وخوفا.
وخلاصة ذلك- قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا فى عقائدهم لا يكره أحد أحدا
على ترك عقيدته إكراها ولا يؤذى ويعذب لأجلها كما قال تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم.
وروى عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك- والمعنى عليه- قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
ويؤيد الرأى الأول أنه جاء رجلان فى فتنة ابن الزبير إلى عبد الله بن عمر فقالا:
إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعنى أن الله حرم علىّ دم أخى المسلم. قالا ولم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن الله يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر الله ومعونته لكم وهو متولى أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.
وما غلب المسلمون فى العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله- إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله فى الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فما حرم الله عليهم من الإسراف فى شهواتهم.
وعلى العكس من ذلك اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن الله فى العمران فرجحت كفّتهم، ولله الأمر.
وما مكّن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد فى الآداب ومساوى الأخلاق والعادات والانغماس فى الشهوات واتباع سلطان البدع والخرافات- فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.
ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم فى اتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا فى الاستعداد المادي والحربي للنصر فى الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم فى الأرض:«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.
وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، والحمد لله أولا وآخرا.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.