الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
الميقات: الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج، اخلفني: أي كن خليفتى، وجلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى وجلّاه فتجلى: إذا انكشف ووضح بعد خفاء فى نفسه أو على مجتليه وطالبه، والدكّ: الدق، والخرّ والخرور: السقوط من علو، والانكباب على الأرض كما قال «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً» وصعقا أي صاعقا صائحا مغشيا عليه، وأفاق: أي رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان. والاصطفاء:
اختيار صفوة الشيء أي خالصه الذي لا شائبة فيه، بقوة أي بجد وعزيمة وحزم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما أنعم به على بنى إسرائيل من النجاة من العبودية ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات والأحكام- ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام ممتنّا عليهم بما حصل لهم من الهداية بتكليم موسى وإعطائه التوراة، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقرّبهم من ربهم من الأحكام
وقد روى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة.
الإيضاح
(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة، قيل هى شهر ذى القعدة وأتم الثلاثين ليلة بعشر ليال فتم الموعد بذلك
أربعين ليلة صعد جبل سيناء فى أوله وهبط فى آخره، وروى عن أبي العالية أنه قال فى بيان زمان الموعد: يعنى ذا القعدة وعشرا من ذى الحجة فمكث على الطور ليلة وأنزل عليه التوراة فى الألواح فقرّبه الرب نجيّا، وكلمه وسمع صريف القلم.
وجاء فى التوراة من سفر الخروج (وقال الرب لموسى: اصعد إلىّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم اجلسوا هاهنا، وهوذا هارون وحور معكم، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفى اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بنى إسرائيل، ودخل موسى فى وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى فى الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة) .
وفى الفصل الرابع والثلاثين ما نصه (وقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات، قطعت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر) .
(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقال موسى حين أراد الذهاب لميقات ربه لأخيه هرون وكان الأكبر منه سنا:
كن خليفتى فى قومى وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، وكانت الرياسة فيهم لموسى وكان هرون وزيره ونصيره بسؤاله لربه «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم، ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد فى الأرض، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم فى أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتى الكلام والرؤية فقال: رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لى من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك.
(قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له: إنك لا ترانى الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلىّ فى الدنيا.
ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا فى الكون لا يقوى على رؤيته كما
جاء فى حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه»
فقال:
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا فى مكانه فسوف ترانى إذ هو مشارك لك فى مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل فى قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شىء- فاعلم أنك لن ترانى أيضا وأنت مشارك له فى كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية فى ضعف استعدادها وقبولها للفناء.
وروى عن ابن عباس أنه قال: حين قال موسى لربه تبارك وتعالى: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» قال له يا موسى إنك «لَنْ تَرانِي» يقول: ليس ترانى، لا يكون ذلك أبدا، يا موسى إنه لن يرانى أحد فيحيا، قال موسى: رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلىّ من ألا أراك ثم أحيا، فقال الله يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى «فَسَوْفَ تَرانِي» أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء، وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فما بالك لو كان له.
روى أنه ساخ: أي غاص فى الأرض: أي أنه رجّ بالتجلى رجا، بست به حجارته بسا، وساخ فى الأرض كله أو بعضه فى أثناء ذلك حين صار ربوة دكاء وكان كالرمل المتلبد.
(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي فلما أفاق من غشيه قال سبحانك: أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغى فى شأنك مما سألت.
وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى فتاب ورجع عما طلب.
قال مجاهد: «تُبْتُ إِلَيْكَ» أن أسألك الرؤية: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي من بنى إسرائيل، وفى رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد.
والخلاصة- إن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته التي منها كلامه، ولكن الله تبارك وتعالى قال له:«لَنْ تَرانِي» ولكى يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أن المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهى، حينئذ نزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال:
(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي اصطفيتك بتكليمى لك بلا توسط ملك وإن كان من وراء حجاب، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام.
(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهى التوراة وكن من جماعة الشاكرين لنعمتى عليك وعلى قومك، بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها، وأداء حقوق نعمى جميعها عليك، تنل المزيد من فضلى:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» .
وقد تقدم أن قلنا إن الوحى إلى الرسل أنواع ثلاثة بينهما الله بقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» .
والخلاصة- إن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح فى القرآن الكريم فى آيات عدة لا تعارض بينها، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» وقوله «لَنْ تَرانِي» وهما أصرح فى النفي من دلالة قوله تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» على الإثبات فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير فى القرآن وكلام العرب كقوله «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» وقوله:«ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» وفى الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروى عن أكثر من عشرين صحابيا، ولم يرد فى معارضتها شىء أصرح من
حديث عائشة عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفّ شعرى مما قلت، أىّ أنت من:«ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، وفى رواية فقد أعظم الفرية ثم قرأت: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ- وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ»
قال مسروق: وكنت متكئا فجلست وقلت: ألم يقل الله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى» فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
ومن هذا تعلم أن عائشة تنفى دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالحديث المرفوع، وتنفى جواز الرؤية مطلقا أو فى هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى:«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» وقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وهذا الاستدلال ليس نصا فى النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة فى الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
والمثبتون للرؤية يقولون: إن استنباط عائشة إنما هو لنفى الرؤية فى الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر فى الآخرة على شئونهم فى الدنيا، لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى فى الأمور المادية كالأكل والشرب، والمأكول والمشروب، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره فى مقره أو جوّه، قال ابن عباس: ليس فى الدنيا شىء مما فى الجنة إلا الأسماء.
وجمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم فى الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقى إليه البشر فى دار الكرامة، وأنها أحق ما يصدق عليه
قوله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
وهى المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف.
وبعد أن أخبر سبحانه فى الآيات السالفة أنه منع موسى رؤيته فى الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه أخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال:
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ التي تؤثّر فى القلوب ترغيبا وترهيبا
وتفصيلا لأصول الشرائع وهى أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام والراجح أن هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالى. أما سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن.
وقد اختلفوا فى عدد الألواح، فمن مقل قال إنها اثنان، ومن مكثر قال إنها عشرة أو سبعة.
وجاء فى التوراة فى شأن الألواح فى سفر الخروج: «قال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هنا فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلّمهم الكلمات العشر» وجاء فيها أيضا: «ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة فى يده.
لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين، واللوحان هما صفة الله والكتاب كتابة الله منقوشة على اللوحين» وجاء فيها:«وقال الرب لموسى أكتب لك هذا الكلام لأنى بحسبه عقدت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر» ومن هذا تعلم أن ما كتبه المفسرون عن الإسرائيليات مخالفا لذلك فهو باطل، أراد به واضعوه الكذب والافتراء، فيجب علينا أن نمحص تلك الروايات ونحققها من كتبهم.
(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وكتبنا له فى الألواح ما ذكر وقلنا له: هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها، فخذها بقوة وجدّ وعزم، ذاك أنك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة وأخلاق جديدة مخالفة فى جوهرها وصفاتها لما كان عليه من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه، وما كان عليه من الشرك والوثنية التي ألفها وراضت نفسه لقبولها، فأنّي للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد ويرأب ذلك الصدع إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم فى أوامره ونواهيه؟.
(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة
والأحكام المفصلة فى الألواح التي هى منتهى الكمال والحسن كالإخلاص لله فى العبادة.
إذ يتحلى العقل وتتزكى النفس، مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل لأنها ذرائع للشرك وسبب للوصول إليه.
(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم، ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق.
قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمرى وخرج عن طاعتى كيف يصبر إلى الهلاك والدمار.
قال ابن جرير: وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخالفه:
سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمرى- على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه خالف أمره.
وفى الآية عبرة لمن يقرؤها ويتدبر أمرها من وجوه:
(1)
إن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجدّ لتنفيذ ما بها من الإصلاح وتكوين لأمة تكوينا جديدا، ومظهر ذلك الرسول المبلغ لها والداعي إليها والمنفذ لها بقوله وعمله فهو الأسوة والقدوة، وهذه سنة الله فى كل انقلاب، وتجديد اجتماعي وسياسى وإن لم يكن بهدى الله، فما بالك بالدين وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن، وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم لا بالتبرك بالمصاحف والتغني بالقرآن فى المحافل، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية، وسعدوا به فى دنياهم وسيكونون كذلك فى آخرتهم، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه وتركوا هدايته فشقوا فى دنياهم وآخرتهم كما قال «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .