الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدرته عليك إذا أنت غفلت عن ذلك، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه.
ثم ختم سبحانه هذه الآيات بما يؤكد به الأمر والنهى السابقين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي إن ملائكة الرحمن المقرّبين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله، وعن اتخاذ الندّ والشريك كما يفعل الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأندادا يحبونهم كحبه، وله وحده يصلون ويسجدون، فلا يشركون معه أحدا، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافّين به أسوة حسنة له فى صلاته وسجوده وسائر عبادته.
وقد شرع الله لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها، إرغاما لمن أبي ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين، ومثلها آيات أخرى ستأتى فى مواضعها،
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول فى سجوده لذلك: «اللهم لك سجد سوادى، وبك آمن فؤادى، اللهم ارزقني علما ينفعنى، وعملا يرفعنى» .
وفى الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذكر،
وقد روى أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الذكر الخفي»
فأين هذا مما يفعله جهلة زماننا الذين يجأرون فى ذكرهم بأصوات منكرة يستقبحها الدين والعقل والعرف، ولا علاج لمثل هذا إلا حملة نكراء من رجال الدين عليهم حتى يتفهموا ما طلبه الدين وما رمى إليه من التضرع إليه تعالى خفية ودون الجهر بالقول. وصل الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد
يمكن إجمال القول فى الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلى:
(1)
التوحيد: وهو يتضمن دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه
فى العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» .
وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .
وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.
(2)
الوحى والكتب، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم للإنذار به، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.
(3)
الرسالة والرسل، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال:
«يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة- ومجىء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم- وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر فى قصص نوح وهود وصالح وشعيب.
(4)
عالم الآخرة: ويتضمن ذلك البعث والإعادة فى الآخرة كما قال: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة، واعتراف أهل النار فى الآخرة بصدق الرسل، وصفة أهل النار، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة.
(5)
أصول التشريع: ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها فى الآخرة، وتحريم التقليد فيه، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه
فى خلقه والأمر بالعدل فى الأحكام والأعمال كما قال «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة فى قوله «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» إلخ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية فى قوله «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» .
(6)
آيات الله وسننه فى الكون- ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره- وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض- خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل- وتفضيل الإنسان على من فى الأرض جميعا- خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة الله وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك- خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات- ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره- وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره- عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون- منّة الله على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم- آيات الله تعالى ونعمه على بنى إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دينهم ودنياهم.
(7)
سننه تعالى فى الاجتماع والعمران البشرى- ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة- ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى- وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى فى العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» وأن لله فى إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة
على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هى لله، ولله سنن فى سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين- وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد فى الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شىء.
وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة فى هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوى السيادة عليها فى القوى المادية جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بنى إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم.
وقد كان ينبغى للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.