الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قفى على ذلك بضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها قادرا على بيانها والجدل بها لكنه لم يؤت العمل مع العلم بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا.
(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه، فصار من الضالين المفسدين.
والخلاصة- إنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب فى الآخرة والأولى.
وفى الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها.
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات والعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان لفعلنا، بأن نخلق له الهداية خلقا ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا.
(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء مما آتيناه من آياتنا.
وقد قضت سنة الله فى الإنسان أن يجعله مختارا فى عمله المستعد له بحسب فطرته، ليكون جزاؤه كفاء ما قدمت يداه من خير أو شر، وأن يمتحنه بما خلق فى هذه الأرض من زينة ومتعة كما قال:«إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ثم يوّلى كل امرئ منهم وجهة هو مولّيها فيختار منها ناحية بحسب استعداده وميله الفطري كما قال: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» كما مضت سنته أيضا بأن جعل ميل الإنسان مع شهواته فى جميع أعماله دون رعاية للفائدة يضله عن السبيل الموصلة إلى السعادة الأخروية وينحرف به إلى سبل الغواية المردية فى التّهلكة كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام: «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وقال مخاطبا خاتم أنبيائه: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟» .
وخلاصة ذلك- إن من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد فى سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضّة على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة كما
جاء فى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئا وسرعان ما ينسلخ منها.
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي إن هذا الرجل كالكلب فى صفته هذه وهى أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك فى أسوإ حال، فهو فى همّ دائب وشغل شاغل فى جمع عرض الدنيا وزخرفها، يعنى بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيى، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة فى الدنيا زاد طمعا فيها كما قال الأول:
فما قضى أحد منها لبانته
…
ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل البالغ الحد فى الغرابة مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة ويحط من أقدارهم ويحول بينهم وبين ما يتمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم وهى: حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات، إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد فما أشبه حالهم بحال من أوتى الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
…
وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فاقصص أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الآيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر فى المخلص مما هم فيه، والنظر فى الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة.
وفى الآية إيماء إلى تعظيم ضرب شأن تلك الأمثال فى الإقناع وكونها أقوى أثرا
من سوق الحجج والأدلة دون أن تكون هى من بينها- كما أن فيها رمزا إلى تعظيم شأن التفكر وأنه مبدأ العلم والسبيل للوصول إلى الحق، ومن ثم حث الله عليه فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله:«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وقوله «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
(ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبحت صفة أولئك القوم فى الصفات، وساء مثلهم فى الأمثال بإعراضهم عن التفكر فى الآيات والنظر إليها نظر عداوة وبغضاء، وهم بعملهم هذا إنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
ولم يعيّن الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه ولا جاء فى السنة الصحيحة شىء من ذلك، فلا حاجة لنا فى العظة إلى بيانه.
ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة فى شأنه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو أنه هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفى لفظ: نزلت فى صاحبكم أمية بن أبي الصلت،
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال قال: أمية بن أبي الصلت:
ألا رسول لنا منا يخبّرنا
…
ما بعد غايتنا من رأس نجرانا
قال: ثم خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أمية بالبحرين ثمانى سنين، ثم قدم فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جماعة من أصحابه فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى فرغ منها فوثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية قال أشهد إنه على الحق، قالوا فهل تتبعه؟ قال حتى أنظر فى أمره، فخرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ورجع،