الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَجْهَلُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ سُوءَ الْعَذابِ ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفا أو حالا نِساءَكُمْ ط عَظِيمٌ هـ والله أعلم.
التفسير:
ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا أَتَذَرُ مُوسى أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك. وقوله وَيَذَرَكَ عطف على لِيُفْسِدُوا، وقوله وَآلِهَتَكَ مفعول معه. والمراد أنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤديا إلى تركه مع آلهته فقط، ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك. قال كثير من المفسرين: إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وسمى نفسه الرب الأعلى. وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناما على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي. وأما المجدي في هذا العالم للخلق والمربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم، وكل ذلك بناء على أنه كان دهريا ينكر وجود الصانع. ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ فكأنه قال: إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده قالَ مُوسى لما وصله ما جرى بين فرعون وملته لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال إِنَّ الْأَرْضَ يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط. وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم، أو المراد أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة. ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر وقالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا
يعنون قتل أبنائهم
قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله سَنُقَتِّلُ إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن. فعند ذلك قال لهم موسى مصرحا بما رمز إليهم من البشارة قبل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر ولا ريب أن في عَسى طمعا وإشفاقا ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف. ثم قال فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديما وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثا فتتعلق الرؤية الأزلية به. عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة. وعلى مائدته رغيف أو رغيفان. فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الاية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وكَيْفَ نصب ب تَعْمَلُونَ لا ب فَيَنْظُرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه. ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي بسني القحط. فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام. قال أبو زيد والفراء: بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنينا فيعرب النون ومنه قول الشاعر:
دعاني من نجد فإن سنينه
…
لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا.
والسنون من الجموع المصححة الشاذة. عن ابن عباس: السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لأهل الأمصار. وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب. قيل: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية. قال القاضي: في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر. وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فلهذا حكى عن فرعون وقومه فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قال ابن عباس: أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أضداد ما ذكرنا
يَطَّيَّرُوا يتشاءموا بموسى ومن معه. وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب إِذا ونكرت السيئة وقرنت ب إِنْ لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال الأزهري: يقال للشؤم طائر وطيرة. وعن ابن عباس: طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير. قال الإمام فخر الدين الرازي:
وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني. ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه. وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله في المدينة فقالوا: غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم، وكما حكي عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزة والسحر قالُوا لنبيهم مَهْما تَأْتِنا بِهِ الآية وفي «مهما» قولان: فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها «ما» المؤكدة الإبهامية ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء. وعن الكسائي أن «مه» بمعنى «اكفف» و «ما» للشرط كأنه قيل: كف ما تأتنا به.
ومحل «مهما» الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به.
ومِنْ آيَةٍ بيان لمهما والضمير في «به» وكذا في «بها» يعود إلى «مهما» لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملا على اللفظ وأنّث أخرى حملا على المعنى. وسموها آية تهكما إذ لو قالوا ذلك اعتقادا لم يردفوها بقولهم لِتَسْحَرَنا بِها وبقولهم فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلا حديدا دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان. قيل: هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض. وقيل: هو الموتان. وقيل:
الطاعون. والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى:
ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك. فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة
من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر. وقيل: خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا. فأقاموا شهرا فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان. وعن أبي عبيدة وقيل: الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وقيل:
البراغيث. وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف. وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاما ممتلئا قملا. وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملا فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا.
فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي. فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما، وكان يجتمع القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما. وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا. وقيل: الدم الرعاف سلطه الله عليهم. وقوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما
روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات.
ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى واستكبروا عن العبادة والطاعة وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مصرين على الذنب والجرم.
ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب. وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان
أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك وهو النبوة ف بِما مصدرية والباء يتعلق ب ادْعُ تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. ووجه آخر وهو أن يكون قسما مجابا ب لَنُؤْمِنَنَّ فيكون متعلقا بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العذاب لا مطلقا ولا في جميع الوقائع بل إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ لا محالة ومعذبون فيه إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لما» أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ وهو البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي كان إغراقهم بسبب التكذيب وَبأنهم كانُوا عَنْها أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافِلِينَ أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها. ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون. وقوله الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام. وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة. قيل: يريد بالكلمة قوله في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص: 5] إلى تمام الآيتين. ومعنى تَمَّتْ مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاما كاملا بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم.
وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج وَدَمَّرْنا أي أهلكنا والدمار والهلاك ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس: يريد المصانع. وقال غيره: يعني العمارات وبناء القصور. ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141] وقيل: وما كانوا يرفعون من
الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره، وهاهنا تمت قصة فرعون والقبط. ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكرا لله
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي فمروا بقوم يَعْكُفُونَ يواظبون عَلى عبادة أَصْنامٍ لَهُمْ قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل. وقيل: كانوا قوما من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة.
وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة. وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا قالَ لهم موسى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد.
وعن علي رضي الله عنه أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، فقال علي: اختلفنا عنه لا فيه. ثم قال: قلتم اجعل لنا إلها ولما تجف أقدامكم
إِنَّ هؤُلاءِ يعني عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ أي مكسر مهلك ما هُمْ فِيهِ من قولهم إناء متبر إذا كان فضاضا والتبار الهلاك. وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال. وفي إيقاع هؤُلاءِ اسما ل إِنَّ وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء البتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً انتصب «غير» على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول: أبغيكم إلها غير الله. وانتصب إِلهاً على المفعول به. قال الواحدي: يقال بغيت فلانا شيئا وبغيته له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم. ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله، فإن الإله ليس شيئا يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام.
والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة، والفائدة في إعادتها هاهنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم. وإنما قيل هاهنا تقتلون دون يُذَبِّحُونَ لتناسب قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ والله أعلم.