الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاءَ اللَّهُ
ط أَجَلٌ ط وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ آمَنْتُمْ بِهِ ط، تَسْتَعْجِلُونَ هـ الْخُلْدِ ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد تَكْسِبُونَ هـ أَحَقٌّ هُوَ ط بِمُعْجِزِينَ هـ لَافْتَدَتْ بِهِ ط الْعَذابَ ج ط للعطف على أَسَرُّوا دون رَأَوُا يُظْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ فَلْيَفْرَحُوا ط يَجْمَعُونَ هـ وَحَلالًا ط تَفْتَرُونَ هـ الْقِيامَةِ ط لا يَشْكُرُونَ هـ.
التفسير:
إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون. قال أهل المعاني: المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف النظر. فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملا على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم. ثم قال: أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده. وهذا الحصر إنما يفهم من قوله: أَفَأَنْتَ. والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق. ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية. فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها. وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه. وإنما قال: وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب. والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأن وقوع فريق القهر ضروري، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة. ثم ذكر وعيد الكفار فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي واذكر يوم يحشرهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث إِلَّا ساعَةً وقوله يَتَعارَفُونَ إما حال أخرى أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد. ويجوز أن يكون قوله:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ متعلقا ب يَتَعارَفُونَ والمراد باللبث. قيل: لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في الحشر، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها. وأما التعارف فقد قيل: يعرّف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل: يعرف كل واحد أهل معرفته. والجمع بين ذلك وبين قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت اضللتني يوم كذا، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة. وإنما حذف «جميعا» في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا [الأنعام: 122] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله:
جَمِيعاً ليشمل الفريقين صريحا والله أعلم. قوله: قَدْ خَسِرَ استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم. وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. ثم أكد خسرانهم بقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ وجوابه محذوف. وقوله: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا. ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ «ثم» لتبعيد الرتبة في قوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله. ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ويحتمل أن يقال: المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد على
أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ وشهد لهم أو عليهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ والمراد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا لنزوله وقدحا في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذ. وأيضا قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لفظ الجمع موافق لقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من مرض أو فقر وَلا نَفْعاً من صحة أو غنى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قال العلماء: إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب. ثم بين أن أحدا لا يموت إلا بالقضاء، وأن لعذاب كل طائفة أمدا محدودا لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال. فقال ولكل أمة أجل الآية. وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء هاهنا في الجزاء، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتبا على قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:
34] فلم يحسن الجمع بين الفاءين. ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أي في حين الغفلة والراحة. أَوْ نَهاراً حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف ماذا يَسْتَعْجِلُ أي شيء يستعجل مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ وإنما لم يقل «ماذا يستعجلون منه» دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلا عن أن يستعجله. و «من» للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل: أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل: الضمير في «منه» لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. و «ماذا» الجملة مفعول أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة ب أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون اعتراضا وجواب الشرط ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على «ثم» كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلْآنَ آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ على جهة التكذيب والإنكار
وقوله ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المضمر قبل آلْآنَ والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عار عن المنفعة، والعاقل لا يطلب مثل ذلك. وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة. ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد؟ أجبتم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة. وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الآية: 134] .
ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال:
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه. وقيل: المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل: أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم البتة. وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم. ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد. فقد يكون هذا القدر مقنعا إذا لم يكن الخصم ألد. ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب.
والغرض التنبيه على أن أحدا لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى. ثم زاد في التأكيد بقوله:
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ الآية. وقد مر مثله في «آل عمران» و «المائدة» . وقوله: ظَلَمَتْ صفة لنفس. أما قوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ فقد قيل: الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذ لضعفهم وليس هناك تجلد. والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخا ولا بكاء، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ قيل: أي بين المؤمنين والكافرين. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، وقيل: بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. وقيل: بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في
ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشترك كلهم في العذاب.
ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة. وقيل: في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه. وقيل: إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلا إقناعيا أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه، فلكونه قادرا على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه، ولكونه منزها عن النقائص والآفات يكون بريئا عن الخلف في الوعد والإيعاد. وفي تصدير الكلام بكلمة «ألا» تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين: البستان للأمير، والدار للوزير، والغلام لزيد والجارية لعمرو، ولا يعلمون أن كلها عوار وودائع.
ولا بد يوما أن ترد الودائع واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها: إظهار المعجزة على يده مطابقا لدعواه، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى إلى تمام الآيتين. والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله:
قل يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. فوصف القرآن بصفات أربع: الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلا عما يضره. الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة. الثالثة حصول الهدى بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت. الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم. وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة
والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة.
ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال في الكشاف: أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه. والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا. وعلى هذا يكون قُلْ اعتراضا. ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضا به.
وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل. ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعا إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع- وهي أقوى اللذات- إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية. وأيضا إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضا اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلا إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارح في مقدماتها ولواحقها لكفى.
ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري:
إن حزنا في ساعة الموت ضعا
…
ف سرور في ساعة الميلاد
فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا