الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع العطف الْأَوَّلِينَ هـ كُلُّهُ لِلَّهِ ط بَصِيرٌ هـ مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ.
التفسير:
لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه.
وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم وإسفنديار، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين، ولو شئت لقلت مثل قوله، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة.
ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية. وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله هُوَ الْحَقَّ بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. ومعنى حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع آخر من جنس العذاب الأليم. ومراده نفي كونه حقا فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة. قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيما لشأن النبي وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال قتادة والسدي: المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. وقيل: اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك: قتل أهل المحلة فلانا وإنما قتله واحد منهم أو اثنان. وقيل: وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده. وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار. أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة. ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. قيل: لحقهم هذا العذاب
المتوعد به يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة بدليل قوله وَهُمْ يَصُدُّونَ أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية. والأوّلون قالوا: إن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ. وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلا عن مشرك وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم. ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء «فعال» كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر. والتصدية التصفيق «تفعلة» من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام، أو من صدّ يصدّ مضاعفا أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة. قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا. وقيل: هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل: تصويت يشبه صوت المكّاء بالتشديد وهو طائر معروف. عن ابن عمر:
كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم. وفيه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له. وقال مجاهد ومقاتل: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك: زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة. ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله فَذُوقُوا الْعَذابَ عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب. وكلهم من
قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير وابن أبزى:
نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش- والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة- وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا- قاله في الكشاف. وقال محمد بن إسحق عن رجاله: لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أن غرضهم فى الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال فَسَيُنْفِقُونَها أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالا لقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ومعنى «ثمك» في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الكافرون منهم ولم يقل «ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون» لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم. ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ أي الفريق الخبيث من الكفار مِنَ الفريق الطَّيِّبِ وهم المؤمنون وَيَجْعَلَ الفريق الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام. يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض أُولئِكَ الفريق الخبيث هُمُ الْخاسِرُونَ وقيل: الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ [التوبة: 35] وعلى هذا فاللام في قوله لِيَمِيزَ اللَّهُ يتعلق بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً قاله في الكشاف. ولا يبعد عندي أن يتعلق ب يُحْشَرُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا. ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى