الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على فعل. أَنَّها إِذا جاءَتْ بالكسر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح. لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب: ابن عامر وحمزة.
الباقون: على الغيبة.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط صاحِبَةٌ ط كُلِّ شَيْءٍ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف عَلَيْهِمْ ط رَبِّكُمْ ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة إِلَّا هُوَ ط لأن قوله خالِقُ بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف فَاعْبُدُوهُ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف وَكِيلٌ هـ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفا خبيرا. الْخَبِيرُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب فَلِنَفْسِهِ ط كذلك مع الواو. فَعَلَيْها ط بِحَفِيظٍ هـ يَعْلَمُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة إِلَّا هُوَ ط للعطف مع العارض الْمُشْرِكِينَ هـ ما أَشْرَكُوا ط حَفِيظاً ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى بِوَكِيلٍ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَعْمَلُونَ هـ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ط وَما يُشْعِرُكُمْ ط لمن قرأ أَنَّها بكسر الألف. لا يُؤْمِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ.
التفسير:
لما نبه إجمالا بقوله بغير علم على الدليل الدال على إبطال قول من خرق له بنين وبنات، فصل ذلك بقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمراد هو بديع السموات، ويجوز أن يكون بَدِيعُ مبتدأ والجملة بعده خبره. وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولدا له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعا لهما وهذا باطل بالاتفاق، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضا محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على الله محال وأشار الى هذا بقوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وأيضا الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة، أما الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل، وإلى هذا أشار بقوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وأيضا هذا الولد لا يكون أزليا وإلا كان واجبا لذاته غنيا عن غيره فبقي أن يكون حادثا فنقول: إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلا وأبدا كما قال وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالا أو نفعا أو لذة لتعلقت
إرادته بإيجاده في الأزل دفعا لذلك الاحتياج والنقصان، فيكون الولد أزليا على تقدير كونه حادثا هذا خلف، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد، فلهذا صرح بالنتيجة فقال ذلِكُمُ اللَّهُ فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره. وإنما قال هاهنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وفي «المؤمن» بالعكس لأنه وقع هاهنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم. ثم قال فَاعْبُدُوهُ وهو مسبب عن مضمون الجملة المتقدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقا بالعبادة وَهُوَ مع تلك الصفات عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظه ويرزقه ويراقبه. قال في التفسير الكبير: إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق، ثم زيف طريق من أثبت له شريكا وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها: أن الدليل قد دل على وجود صانع، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب. ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية. ومنها أنا لو فرضنا إلها ثانيا فكان إما أن يكون الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أو لا. وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم.
قالت الأشاعرة: عموم قوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة: إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. وأيضا احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق. أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم. وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن. وأما الفرق بين قوله وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ
وقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء.
وأيضا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: 3] فوجب كون الرؤية نقصا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
46] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] أي لملحقون وقوله تعالى حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: 90] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول:
الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي. أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا
للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] فإنه لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالما بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى.
وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع.
(في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية) : منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى
عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها. ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. ومنها قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [الكهف:
110] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية، ومنها قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 11] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء، ومنها قوله كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء. ومنها قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ومنها قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] فيكون المؤمنون غير محجوبين. ومنها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان. ومنها قوله وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الدهر:
20] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام. وأما الأخبار فكثيرة منها:
الحديث المشهور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» «1»
والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي. ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية. أما قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات، راء للمرئيات، مطلع على ماهياتها، عليم بعوارضها وذاتياتها. ثم قال وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها. أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم. أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية. أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. فَمَنْ أَبْصَرَ الحق وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر
(1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 16، 26. كتاب تفسير سورة 50 باب 2. كتاب الرقاق باب 52. أبو داود في كتاب السنة باب 19. الترمذي في كتاب الجنة باب 16. أحمد في مسنده (3/ 16، 17، 27) .
وإياها نفع. وَمَنْ عَمِيَ عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر. قالت المعتزلة: فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين: الفعل والترك. وعورض بالعلم والداعي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. ثم حكى شبه المنكرين بقوله وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقرير البليغ نُصَرِّفُ الْآياتِ نأتي بها متواترة حالا بعد حال وَلِيَقُولُوا عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت من الدرس، ومن قرأ دارست أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة. وأما قراءة ابن عامر دَرَسْتَ فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية، قالت العلماء:
التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة، ومنه قيل للثوب الخلق «دريس» ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران: أحدهما قوله وليقولوا دارست والثاني قوله وَلِنُبَيِّنَهُ أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في لِنُبَيِّنَهُ للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو: ضربته زيدا أي ضربت الضرب زيدا. وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا: معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا على كفر، ونبينه لبعض فيزدادوا إيمانا على إيمان كقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي: إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير: نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو المراد لام العاقبة، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة. وأيضا إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجما فنجما هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم، وأيضا حمل اللام على لام العاقبة مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس
أقواما واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنا وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على أنه سبحانه لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين. ثم ختم الآية بقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال. وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا مذهب الأشاعرة فيه ظاهر. وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له: اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلئ فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل. ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، وذلك أنه بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظا ولا وكيلا عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار. ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول. وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء. قال ابن عباس: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت.
وقال السدي: لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا
وسيدنا، وأن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال أبو طالب:
قد أنصفك قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب:
قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قالت العلماء: إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشيطان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله. وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكرا وجب الاحتراز عنه، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسول وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم. وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب. وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا وعداء إذا ظلم ظلما يتجاوز القدر. قال الزجاج عَدْواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدوا وقرىء عَدْواً بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء. ومعنى بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به وكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية، وزيفه الكعبي بقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] [العنكبوت: 38] وبقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما
لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى كَذلِكَ زَيَّنَّا بعد قوله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا والعلم بذلك ضروري، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيمانا وعلما وحقا وصدقا، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيمانا والجهل علما. قال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينة قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام. قال الواحدي:
إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين.
عن محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن صالحا كانت له ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم وأنزل الله الآيات إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج: معناه بالغوا في الأيمان. والمراد بقوله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ما روينا من جعل الصفا ذهبا. وقيل: هي الأشياء المذكورة في قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الإسراء: 90] الآيات. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي
إيمانهم أم لا كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهام والجملة خبره، ثم من قرأ أَنَّها بكسر الهمزة على الابتداء- وهي القراءة الجيدة- فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وأما قراءة الفتح فقال سيبويه: سألت الخليل عن ذلك فقال: لا تحسن لأنها تصير عذرا للكفار، لأن معنى قول القائل: ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل. فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا لهم في طلبها، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها: قال الخليل: «أن» بمعنى «لعل» تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيأ أي لعلك. ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وثانيها «أن» تجعل «لا» صلة كما في قوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله: وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون. وأما من قرأ لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار. قال القاضي والجبائي: في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه. وأيضا لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر. وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف، فلو أثبت اللطف به لزم الدور، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره. ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات. والتقليب تحريك الشيء عن وجهه،
وكان صلى الله عليه وسلم وآله يقول «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» «1»
والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس. وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه، والحاصل
(1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 2. أحمد في مسنده (4/ 182) ، (6/ 91) .