الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقوف:
إِلَى الْأَرْضِ ط مِنَ الْآخِرَةِ ط قَلِيلٌ هـ شَيْئاً ط قَدِيرٌ هـ مَعَنا ج لعطف فَأَنْزَلَ على نَصَرَهُ مع عوارض الظروف. السُّفْلى ط إلا لمن قرأ وَكَلِمَةُ بالنصب الْعُلْيا ط حَكِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط تَعْلَمُونَ هـ الشُّقَّةُ ط مَعَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. أَنْفُسَهُمْ ج لواو الابتداء والحال.
لَكاذِبُونَ هـ عَنْكَ ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى. الْكاذِبِينَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ يَتَرَدَّدُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ الْفِتْنَةَ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال لَهُمْ ط بِالظَّالِمِينَ كارِهُونَ هـ وَلا تَفْتِنِّي ط سَقَطُوا ط بِالْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم.
عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياما فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلى الاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة.
وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم كما قلنا في فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] ومعناه تباطأتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل: المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في ما لَكُمْ الإنكار. وقرىء اثَّاقَلْتُمْ على الاستفهام للإنكار أيضا فيكون جواب «إذا» فعلا آخر مدلولا عليه باثاقلتم كنحو ملتم، وذلك أن جواب «إذا» عامل في «إذا» ، والاستفهام لا يعمل فيما قبله. ويجوز على هذه أن يكون «إذا» لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم و «من» في مِنَ الْآخِرَةِ للبدل كقوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ كأنه قيل: قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثا. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنبها وفي مقابلها. إِلَّا قَلِيلٌ ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق
هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الأغلب. ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال إِلَّا تَنْفِرُوا ورتب عليه ثلاث خصال: الأولى قوله يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قيل: هو عذاب الدنيا. عن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن:
الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل: هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل: إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني قوما آخرين خيرا منهم وأطوع. قيل: هم أهل اليمن. عن أبي روق.
وقيل: أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل: يحتمل أن يراد بهم الملائكة. وقال الأصم:
معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قال الحسن: الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دينه بل في كل شيء. وقال آخرون: الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائنا من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا فلا نسخ.
قال الجبائي: في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم.
وقال القاضي: فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ ولم ينص على أن القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله لا تَضُرُّوهُ عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وهذا كالتفسير لما تقدم.
والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألجئوه إلى أن خرج ظرف لنصره، وثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثان للآخر وواحد منهما. وقوله إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إذ أخرجه وإِذْ يَقُولُ بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به هاهنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال
أن قريشا ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] فأمره
الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر عليا أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول: مالك؟
فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقيل: طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه.
استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي العلم
لقوله «ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر»
وفي الدعوة إلى الله لأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان أولا على أبي بكر فآمن، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر. وقوله لا تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقا والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:
128] قال الحسين بن فضيل: من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذابا مبتدعا، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافرا لأنه خالف قول الله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعا لكل ثلاثة في قوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ
[الكهف: 37] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه. ثم إن حزنه لو كان حقا لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ. سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعا لكل ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعلم والتدبير وهاهنا بالصحبة والمرافقة، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله قالَ لَهُ صاحِبُهُ مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله ولا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا قالوا: والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوما.
وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أبا بكر،
ولو كان أبو بكر قاصدا له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] وقول الملائكة لإبراهيم لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ [الذاريات 28] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالا من الغائب، ولأن عليا رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياما، وإنما أختار عليا للنوم على فراشه لأنه كان صغيرا لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا عليا بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو. ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلا لأبي بكر والرسول كان آمنا ساكن القلب بما وعده الله من النصر، ولو كان خائفا لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله لا تَحْزَنْ ولناسب أن يقال: فأنزل الله سكينته
عليه فقال لصاحبه لا تحزن. واعترض بأن قوله وَأَيَّدَهُ عطف على فَأَنْزَلَ فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله وَأَيَّدَهُ معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ والتقدير: إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا من حيث البشرية كقوله وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول، أو يكون فَأَنْزَلَ معطوفا على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة: 26] وقوله وَجَعَلَ يعني يوم بدر وسائر الوقائع كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا وفي توسيط كلمة الفصل- أعني هي- تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم. قال الفراء: لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال:
وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول: أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟
قلت: وفي الرفع أيضا الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب.
ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال المفسرون: أي خفافا في النفور لنشاطكم وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتهم، أو خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو شبانا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو صحاحا ومراضا، والصحيح التعميم، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها. قال الأكثرون: ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما
روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعليّ أن أنفر؟ قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61]
وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول: قال الله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت:
يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه
من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما أسمع الله عذر أحدا فخرج مجاهدا إلى الشام حتى مات.
وقال السدي: جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيما سمينا وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الآية.
وقيل: لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم خلف من النساء والرجال أقواما فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول: لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وفيه إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل. وإنما قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال الزجاج: أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه.
والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والمراد بالقرب سهولة مأخذه وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده. والشقة المسافة الشاقة الشاطة، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة. وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطا لَاتَّبَعُوكَ طمعا في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزا. وبِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا وقوله لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا. قيل: في الآية دلالة على أن قوله انْفِرُوا خطاب
للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرا في التخلف. قال الجبائي: فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي: زائدا عليه فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى. وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادرا في هذا الزمان على أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول: إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال. قال في الكشاف يُهْلِكُونَ بدل من سَيَحْلِفُونَ أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، أو حال من ضمير لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية.
قلت: وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل: لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم.
ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فإن العفو يستدعي سابقة الذنب. وبقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو. قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى. فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ واردا على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا. قال كثير من العلماء:
في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن
يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصيا بل كافرا لقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 47] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقا وإنما منع إلى غاية هي قوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعا في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت
قوله «ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» «1»
وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور. قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [الآية: 62] . قال أبو مسلم: يحتمل أن يريد بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الإذن في الخروج لا في القعود، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عينا للمنافقين على المسلمين، وإذا كان هذا محتملا فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي: هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم.
ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا أي في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
وقيل: إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود.
وعلى هذا يمكن أن يقال: معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائله غير مؤمن بالله تعالى، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين. وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازما
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 21. مسلم في كتاب الأقضية حديث 15. أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. الترمذي في كتاب القضاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3.
أحمد في مسنده (2/ 187)(4/ 198) .
أولا، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقا فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولا وهو اعتقاد المقلد. وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحا عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قال المفسرون: إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً قال ابن عباس: يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. قال العلماء: وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي انطلاقهم فَثَبَّطَهُمْ والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به.
ومعنى الاستدراك أن قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل: ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال: تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهاهنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83] وقوله في سورة الفتح سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ إلى قوله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم. قال معتزلة البصرة: في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة. قالت الأشاعرة: معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء، وزيف بأن العدم لا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلا للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن
على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلا للحاصل؟ وأيضا عدم الشيء المخصوص ليس عدما محضا. أما قوله وَقِيلَ اقْعُدُوا فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة- أسفل من ثنية الوداع- ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا
فيكون استثناء متصلا من أعم العام، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيرا إلا خبالا ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا. وقال سلمان إلا مكرا. وقال الضحاك: إلا غدرا. وقيل: إلا خبثا. وقيل: هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم. قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح.
ولقائل: أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة: الأول: قوله ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الثاني: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال في الكشاف: زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا أخرى ونحوه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [الآية: 21] في النمل لَآتَوْها [الآية: 14] في الأحزاب ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة فقال أكثرهم: هو متعد يقال: وضع البعير إذا عدا، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد: إنه جاء لازما ويقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. ومنه ما
روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر
أي أسرع. قال الواحدي: والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى خِلالَكُمْ أي فيما بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين.
ويَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم. قال الأصمعي: يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد: أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة.
واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم.
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديما وحديثا فقال لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل وقعة تبوك.
قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد. ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائرا حول مصايد المكايد حَتَّى جاءَ الْحَقُّ الذي هو القرآن وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ غلب دينه وشرعه وَهُمْ كارِهُونَ رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. احتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل: لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن