الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير وَاذكر يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه. وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر، أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لأن العتاب إنما بطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل:
إذا ذهب العتاب فليس ود
…
ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال في الكشاف: أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل.
ومعنى «ثم» أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم المشركون الْعَذابَ بعينهم وثقل عليهم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أنت عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ وهي الأصنام أو الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي. قاله الحسن. قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصبهاني:
مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علما ضروريا أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يقول ما لا فائدة فيه، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع. وقيل: إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجبا من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافا بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ
أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فإن قيل: إن المشركين أشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام؟
فالجواب أن المراد من قولهم: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة. قال جار الله: إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ كما يقول الشيطان إني كفرت بما أشركتموني من قبل [إبراهيم: 22] . وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ عن
الكلبي: استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة من الشركاء والأنداد. وقال آخرون: الضمير للذين ظلموا. وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا وَضَلَّ أي غاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن لله شريكا أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قيل: معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم زِدْناهُمْ عَذاباً لأجل الإضلال. فَوْقَ الْعَذابِ الذي استحقوه للضلال. وأيضا عذاب الاستنان
«من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها» .
ومن المفسرين من فصل تلك الزيادة فعن ابن عباس: هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار. وقيل: حيات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار.
ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القويم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجرا على أجر. ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين: إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته، والأخرى أن الشهيد يكون وقتئذ في الأمة لا مفارقا إياهم. وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن:
الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. ولهذا ذكر لفظة «في» ووصف الشهيد بكونه من أنفسهم. ثم شرف نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي على أمتك. ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] .
قال الإمام فخر الدين الرازي: الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيلعم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة. ولقائل أن يقول: الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيدا عليهم. ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حصل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي بيانا له والتاء للمبالغة ونظيره من المصادر «التلقاء» ولم يأت غيرهما وقد مر في «الأعراف» . قال الفقهاء: إنما كان القرآن بيان جميع
الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وورد فيه: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] وجاء فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] .
وقال آخرون: إن علم أصول الدين كلها في القرآن. وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد به نص القرآن فإذن القرآن واف ببيان جميع الأحكام، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: 30] إلى قوله: وَأَبْشِرُوا [فصلت: 30] والله أعلم بمراده.
ولما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقا لذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الآية،
عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال: ما أسلمت أوّلا إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتقرر الإسلام في قلبي. فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال: بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال:
يا محمد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الآية. قال عثمان: فمن وقته استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن. وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها. قال المفسرون: العدل هو أداء الفرائض. وعن ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله وَالْإِحْسانِ هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعا وعرفا وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر. وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة. قال جار الله: حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها. واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة: أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز، والعدل هو قول:«لا إله إلا الله» . كما نقل عن ابن عباس، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب. ثم إن الأشعري يقول: القول بنفي الصفات عنه سبحانه
تعطيل، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها. وبوجه آخر: نفي الصفات تعطيل، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه، والعدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة.
وأيضا القول بأن العبد لا قدرة له أصلا جبر محض، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه. وأيضا القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان.
والمعتزلي يقول: العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مرارا. وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوما من نفاة التكليف يقولون: لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي. وقال: قوم من الهند وطائفة من المانوية: يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها، ولذلك قال: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143]، وقال: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان: 67] ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] . والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء: الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عاريا فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه. فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم، والوسط العدل هو الختان. هذا ما قيل. وعندي أن الحكمة في الختان بعد العبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل. ومن الكلمات المشهورة قولهم:«بالعدل قامت السموات والأرضون» ومعناه أن مقادير العناصر لو لم
تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لاستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلا منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه. فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل.
وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا
قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه»
فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر. ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعا: الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة أو النهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلا لذلك، وأخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية، وأوسطها الغضبية، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة. قال الكعبي: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد- والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد- أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال. فمعنى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر.
ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] .
وقال الأصم: المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع. وقيل: هو
اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله: إِذا عاهَدْتُمْ وقول من قال: العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أي بعد توثيقها باسم الله تكرارا. وأكد ووكد لغتان فصيحتان. قال الزجاج:
الأصل الواو والهمزة بدل. وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم «لا والله» و «بلى والله» . وأيضا الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر» «1» .
وقد مر بحث الأيمان في «البقرة» وفي «المائدة» في قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [الآية: 225] الآية. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا ورقيبا لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فيجازيكم بحسب ذلك خيرا وشرا. وفيه ترغيب وترهيب. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها. قال الزجاج: انتصب أَنْكاثاً على المصدر لأن معنى نقضت نكثت. وزيف بأن أَنْكاثاً ليس مصدرا وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله. وقال الواحدي: هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعا وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعا وأجزاء فكذا هاهنا أي جعلت غزلها أنكاثا. قلت: ويحتمل أن يكون حالا مؤكدة. قال ابن قتيبة: هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ثم جعلته أنكاثا. فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة، ولا حاجة في التشبيه إلى أن يكون للمشبه به وجود في الخارج. وقيل: المراد امرأة معينة من قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. قال جار الله: تَتَّخِذُونَ حال ودَخَلًا مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا بينكم أي مفسدة ودغلا. وقال الواحدي: أي غشا وخيانة. وقال الجوهري: أي مكرا وخديعة. وقال غيره: الدخل ما أدخل في الشيء على فساد. وقوله: أَنْ تَكُونَ أي لأن تكون أُمَّةٌ يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عددا ومالا مِنْ أُمَّةٍ هي جماعة المؤمنين. قال مجاهد: كانوا
(1) رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 11- 13. الترمذي في كتاب النذور باب: 6. النسائي في كتاب الأيمان باب: 15، 16. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب:7. الدارمي في كتاب النذور باب: 9. الموطأ في كتاب النذور باب: 11. أحمد في مسنده (4/ 256، 378) .
يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي بما يأمركم وينهاكم. وقد تقدم ذكر الأمر والنهي. وقال جار الله: الضمير لقوله: أَنْ تَكُونَ لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم.
ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء. ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ حيث تدعون أنكم على الحق والمؤمنون على الباطل فتنقضون عهودهم. ثم بين أنه سبحانه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه بحكم الإلهية يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ والمعتزلة حملوا المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثا. أجابت الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل.
روى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. فقال: يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانيا فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة.
قال المفسرون:
لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهو نقض بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا التخصيص قوله: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قال جار الله:
وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة. وهذا مثل يضرب لمن وقع في بلاء بعد عافية، ولا ريب أن من نقض عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله: وَتَذُوقُوا السُّوءَ في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ بصدودكم أو بصدكم غيركم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن المرتد قد يقتدي به غيره. وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم. قال جار الله:
كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال: وَلا تَشْتَرُوا الآية. ثم ذكر دليلا قاطعا على أن ما عند الله خير فقال: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ وفيه دليل على أن نعيم الجنة باق لأهلها لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان: إنه منقطع والآية حجة عليه وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا على ما التزموه من شرائع الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] . ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تأكيدا وإزالة لوهم التخصيص، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم.
ثم جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح منتجا للثواب حيث قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء. واختلف في الحياة الطيبة فقيل: هي في الجنة. عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6] . بيّن أن هذا الكدح- وهو التعب في العمل- باق إلى أن يصل إلى ربه، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال. وقال السدي: إن هذه الحياة في القبر. والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل: هو الرزق الحلال. وقيل: عبادة الله مع أكل الحلال. وقيل: القناعة أو رزق يوم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا» «1» .
قال المحققون: وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسرا فذاك، وإن كان معسرا فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه. وأما الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبدا ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها. وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللهم اجعلنا من أهلها. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] يدل على أن العمل الخير مطلقا يفيد أثرا مطلقا فلا منافاة بينهما. ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
(1)
رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب: 8. أحمد في مسنده (5/ 77) بلفظ «قوتا» بلد «كفافا» .