الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رعبا من الاطلاع عليهم حصل القطع بأنهم ليسوا أصحاب الكهف والرقيم، ولو صح ما حكينا عن معاوية حين غزا الروم حصل ظن غالب بأنهم منهم والله تعالى أعلم.
التأويل:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ والعبد الحقيقي من يكون حرا عن الكونين وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ
يقول: «أمتي أمتي»
يوم يقول كل نبي «نفسي نفسي» ، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقا وقيد لسائر الأنبياء كما قال: عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: 2]، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص:
17] ، ولأنه كان خلقه القرآن قيل: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي لقلبه عِوَجاً لا يستقيم فيه القرآن، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم:
10] بلا واسطة جبرائيل، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] أَجْراً حَسَناً. هو التمتع من حسن الله وجماله. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عريانا فنهى عنه بقوله: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائما لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تركها ومخالفة هوى نفسه طلبا لله ومرضاته. ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله:
أَمْ حَسِبْتَ ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالا منهم، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفا من لقاء دقيانوس وفرارا منه، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقا إلى لقائي وفرارا إليّ، وإنهم طلبوا النجاة من شر. والخروج من الغار بالسلامة بقولهم رَبَّنا آتِنا الآية. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي. فَضَرَبْنا على آذان باطنهم وحواسهم الأخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألواح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوار الإلهية ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أحييناهم بنا لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة. أَحْصى أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة وَزِدْناهُمْ هُدىً فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم ثُمَّ بَعَثْناهُمْ حتى صار الإيمان إيقانا والغيب عيانا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الدنيا والهوى. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ قال الشيخ المحقق نجم الدين
المعروف: بداية هذا أخبار من أصناف ألطافه بأضيافه، وفيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم
لقول صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول: حزبا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي»
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم. قلت: يحتمل أن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات- وهو حالة السكر وغلبات الوجد- لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ مما يشغلهم عن الله وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متصرفين في أمور الدنيا وَهُمْ رُقُودٌ عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس، أو تحسبهم أيقاظا مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون. وفي قوله:
وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال. قيل: في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلاثمائة وتسع سنين، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتين الزهر وثمرة الجبال وفي قوله: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها. ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذا النوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأن أيام الوصال قصيرة، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لأنه كان حاضرا معكم وأنتم غيب عنكم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلاثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» .
فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني أَزْكى طَعاماً لما رجعوا إلى العالم الجسماني، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك
(1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) .