الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا: إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزم أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار. وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر. وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوراة والمعجزات. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبيا قبل موسى بن عمران. فقال ابن عباس: كذب عدو الله. واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران، فلو كان المراد هاهنا شخصا آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور. حجة الأقلين- وإليه ذهب جمهور اليهود- أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة. وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها.
أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو أخو يوشع وكان مصاحبا لموسى في السفر. وعن الحسن: إنه أراد عبده ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» .
قال أهل السير: إن موسى لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله فقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له: قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقي إلى أيام موسى.
ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني.
قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر.
قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ
حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال: وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال: يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر.
قلت: وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا.
ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله: لا أَبْرَحُ بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله: حَتَّى أَبْلُغَ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية. فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن حَتَّى أَبْلُغَ هو الخبر، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه- وهو ياء المتكلم- مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضا أن يكون لا أبرح، بمعنى لا أزول من برح المكان، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله: الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الآية: 164] . وقيل: أراد طنجة، وقيل إفريقية. ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم، وهذا مع غرابته مستبشع جدا لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكانا يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أسير زمانا طويلا. قال جار الله: الحقب بالضم ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك.
وقيل: إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى: لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما قال جمهور المفسرين: الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر. ولا بد للبين من فائدة، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولا. والإضافة بمعنى «في» أي مجمعا في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى
أولى منه بكلام موسى، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك.
ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم «جد جده» . وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير، فإن كان صوابا فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان نَسِيا حُوتَهُما لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكن الخضر قيل: إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت. وقيل: إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء.
وقيل: انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر. ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده.
وقيل: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيها لموسى عليه السلام، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده. وانتصاب قوله: سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلا سريا وهو بيت في الأرض، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر.
وقيل: السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ مقام «سرب» فَلَمَّا جاوَزا أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة قال موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يؤكل بالغداة لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا وجوعا. قال المفسرون: قوله مِنْ سَفَرِنا هذا إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك. قال الفتى متعجبا أَرَأَيْتَ ومفعوله محذوف لدلالة قوله:
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليه كأنه قال: أرأيت ما دهاني ووقع لي. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ قيل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ وأَنْ أَذْكُرَهُ بدل الاشتمال من الهاء في أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره قال الكعبي: لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر. قال القاضي: المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر، لأن ذلك لا يصلح أن يكون
إلا من قبل الله تعالى.
قال أهل البرهان: لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلا فاتخذ بالفاء، ولما حيل بينهما ثانيا بجملة معترضة هي قوله: وَما أَنْسانِيهُ زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ بالواو. وانتصاب عَجَباً كما مر في سَرَباً.
قال صلى الله عليه وسلم: «كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا»
قالَ موسى ذلِكَ يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ما كنا نبغي أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا على طريقهما المسلوك قَصَصاً مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعا، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيا لأنه تعالى وصفه بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا: وصفه بقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب. وأيضا آخر القصة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي.
وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي.
والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذ ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضا على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي: روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده، وبتقدير كونه معاصرا له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأن موسى أظهر التواضع له حين قال وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مع أنه كان مبعوثا إلى كافة بني إسرائيل، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها.
قال العلماء: إن موسى راعى مع الخضر في قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ أنواعا من الأدب منها: أنه جعل نفسه تبعا له مطلقا، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا «لا إله إلا الله» لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها. ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية. ومنها أنه قال: على أن تعلمني مما علمت وفيه إقرار على أستاذه بالعلم، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب منه أن يجعله مساويا له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله لأكله، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل: أنا عبد من علمني حرفا. ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال:
على أن تعلمني فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال رُشْداً وهو يصلح أن يكون مفعولا ك تعلمني وعُلِّمْتَ أي علما ذا رشد أرشد به في ديني، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أمورا هي في الظاهر منكرة، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعا قلما يتمالك أن يصبر عليها. وخُبْراً تمييز أي لم يحط به خبرك، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل الصبر، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذبا. وكذا قوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر البتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا قالَ له موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي أي ستجدني غير عاص لَكَ أَمْراً ويجوز أن يكون قوله: وَلا أَعْصِي جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة: في قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ بطريق الشك والصبر
مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه. قالت المعتزلة: إنما ذكره بطريق الأدب. وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل.
قالت الأصوليون: في قوله: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب، لأن تارك الأمر عاص. بهذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] قال المحققون: في قوله الخضر تغليظ وتجهيل، وفي قول موسى تحمل وتواضع، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعا وإرشادا إلى الخير، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة. ثم قال: فإن اتبعتني فلا تسألني شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدئ بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه فَانْطَلَقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا: هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال:
أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء. وقيل: خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول:
أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت شيئا عظيما. يقال: أمر الأمر إذا عظم.
ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر أمر. احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب. وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضا وتوبيخا ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا مؤاخذة على الناسي. و «ما» موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني. وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسيا في الحقيقة ولكنه أو هم بقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض. وجوز أيضا أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي ولا تغشني مِنْ أَمْرِي عُسْراً وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة.
وإنما قال في هذه القصة خَرَقَها بغير «فاء» لأنه جعله جزاء للشرط، وفي قصة الغلام جعل فَقَتَلَهُ من جملة الشرط معطوفا عليه بفاء التعقيب، لأن القتل يعقب لقاء
الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام» وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق. وليس في القرآن أنهما كيف لقياه، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان، أو كان منفردا، وهل كان مسلما أو كان كافرا، وهل كان بالغا أو كان صغيرا واسم الغلام بالصغير أليق، إلا أن بِغَيْرِ نَفْسٍ بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصا. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة. وقال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت. ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده. قيل: النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة. وقيل: النكر أشد لأن ذلك كان خرقا تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه. وأيضا الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر. والنكر ما تنكره العقول فهو شر، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل: فتل عنقه. وقيل:
ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكين. ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وإنما زاد هاهنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى. وقيل: أكد التقرير الثاني بقوله لَكَ كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني. وقيل: بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا قالَ موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه الكرة أو المسألة فَلا تُصاحِبْنِي نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك»
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية. وقيل: الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء.
اسْتَطْعَما أَهْلَها وكان حق الإيجاز أن يقال: «استطعماهم» فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله:
ليت الغراب غداة ينعب بيننا
…
كان الغراب مقطع الأوداج
وأيضا لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة
والبشاعة والاستطالة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما يقال: أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما.
قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه. وأيضا الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه. وقال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته. ولقائل أن يقول: لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار. ولمجيب أن يقول: إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع. قال أهل الاعتبار: شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق.
ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي «فأتوا أن يضيفوهما» فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه.
يقال: قضضته فانقض، ويحتمل أن يكون «افعل» من النقض كاحمرّ من الحمرة، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول. واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيها للجماد بالأحياء نظيره وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:
154] قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] . ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة قالَ لصاحبه لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لطلبت على عملك جعلا حتى نستدفع به الضرورة. واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح قالَ الخضر مشيرا إلى الفراق المتصور في قوله: فَلا تُصاحِبْنِي أو مشيرا إلى السؤال والاعتراض هذا فِراقُ بَيْنِي الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني وَبَيْنِكَ وحكى القفال أن البين هاهنا بمعنى الوصل.
ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قيل: كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ وهو مسمى بجلندي والوراء هاهنا بمعنى الأمام
وقد مر في قوله: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17] وقيل: أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي غير معيبة غَصْباً ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق، وإن كان تصرفا في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعا زائدا لم يكن به بأس. ولعل مثل هذا التصرف كان جائزا في تلك الشريعة. أو لعله كان من مخصوصات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جار الله: قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به. وأيضا خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك «زيد ظني مقيم» في أنه يتعلق بالطرفين وَأَمَّا الْغُلامُ فقد قيل: إنه كان بالغا قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. يقال: رهقة أي غشيه وأرهقه إياه. وقيل: إنه كان صبيا إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغا صدرت عنه هذه المفاسد، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي. وقيل: أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغيانا عليهما وكفرا بنعمتهما بعقوقه، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. وجوزوا أن يكون قوله: فَخَشِينا من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره. والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفسا زاكية. والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين. يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. ويروى أنها ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما أبدلهما أبنا مؤمنا. وقيل: اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين.
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ. قيل: اسمهما أصرم وصريم. وقوله: فِي الْمَدِينَةِ بعد قوله: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما. أما الكنز فقيل: هو المال لقوله: وَيَسْتَخْرِجا ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال. وقيل: صحف فيها علم لقوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح. وعورض بقول قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا. وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا. وجمع بعضهم بين الأمرين فقال: كان لوحا من ذهب مكتوبا