الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثير وأبو عمرو لعلي آتيكم بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد عَلَى النَّارِ هُدىً ممالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير ابراهيم وابن حماد إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بفتح الهمزة وياء المتكلم: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد.
بكسر الهمزة وفتح الياء: نافع الباقون: بكسر الهمزة وسكون الياء طُوىً منونا حيث كان: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وإنا اخترناك على الجمع: حمزة والمفضل لِذِكْرِي إني لِيَ أَمْرِي عَيْنِي رَأْسِي
(إني) بفتح الياءات: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. (لي فيها) بالفتح: حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير أَخِي اشْدُدْ بفتح الياء موصولة: ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو وَاشْدُدْ بفتح الهمزة وَأَشْرِكْهُ بضمها على التكلم: ابن عامر والباقون بضم الأول وفتح الثاني على الأمر سُؤْلَكَ بالواو: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الآخرون بالهمزة.
الوقوف:
طه هـ كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف لِتَشْقى هـ للاستثناء يَخْشى هـ لا بناء على أن تَنْزِيلًا بدل تَذْكِرَةً الْعُلى هـ الرَّحْمنُ مبتدأ اسْتَوى هـ الثَّرى هـ وَأَخْفى هـ إِلَّا هُوَ ط الْحُسْنى هـ حَدِيثُ مُوسى هـ لئلا يوهم أن «إذ» ظرف للإتيان هُدىً هـ يا مُوسى هـ نَعْلَيْكَ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول طُوىً هـ ط إلا لمن قرأ إنا اخترناك يُوحى هـ فَاعْبُدْنِي هـ لا للعطف لِذِكْرِي هـ تَسْعى هـ فَتَرْدى هـ يا مُوسى هـ عَصايَ ج لا مكان أن يجعل أَتَوَكَّؤُا مستأنفا أو حالا والعامل أضمر أو أشير بناء على أن «هي» بمعنى «هذه» .
أُخْرى هـ يا مُوسى هـ تَسْعى هـ وَلا تَخَفْ ق لحق السين الْأُولى هـ آيَةً أُخْرى هـ لا لتعلق اللام. الْكُبْرى هـ ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل طَغى هـ صَدْرِي هـ أَمْرِي هـ لا لِسانِي هـ لا قَوْلِي ص لطول الكلام أَهْلِي هـ لا أَخِي هـ لا وقف لمن قرأ اشْدُدْ بفتح الهمزة جوابا للدعاء ومن فتح الياء فله الوصل ومن قرأ اشْدُدْ بضم الهمزة فله الجواز لا تساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف أَزْرِي هـ لا أَمْرِي هـ لا لتعلق «كي» كَثِيراً هـ بَصِيراً يا مُوسى هـ.
التفسير:
في طه قولان للمفسرين: أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها، والذي زادوه هاهنا أمور منها: قول الثعلبي: الطاء شجرة طوبى، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار. ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم. وقيل: أراد يا طاهرا من الذنوب ويا هاديا الى علام
الغيوب. ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي. قيل: الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه: يا أيها البدر. القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل. مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي. ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية. وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية.
وقال عكرمة بلسان الحبشة. وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمرا بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا،
ويؤكده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى اسمعدّت قدماه- أي تورمتا- فقال له جبرائيل: أرفق على نفسك فإن لها عليك حقا ونزلت طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى
أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة.
وعند الأكثرين معنى لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا.
والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل «أشقى من رائض مهر وأتعب» . وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة. قال جار الله: إن جعلت طه تعديد الأسماء الحروف فقوله ما أَنْزَلْنا ابتداء الكلام، وإن جعلته اسما للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر- وهو القرآن- مقام الضمير الرابط، وإن جعلته قسما فما يتلوه جواب وكل واحد من لِتَشْقى وتَذْكِرَةً علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلا لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط. ولا يجوز أن يكون تَذْكِرَةً بدلا من محل لِتَشْقى لاختلاف الجنسين، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه «إلا» بمعنى «لكن» . وفي قوله لِتَشْقى وإِلَّا تَذْكِرَةً وجه آخر وهو أنه ما أنزلنا عليك القرآن لتتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال: ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك. فانتصب تَذْكِرَةً على أنه حال أو مفعول له، وإذا كانت حالا جاز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها، وإذا كانت مفعولا لأجله لم يجز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر. ويجوز أن ينتصب تَنْزِيلًا بمضمر أي نزل تنزيلا أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، أو على المدح والاختصاص، أو ب يَخْشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله عز وجل أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به. ومعنى كون القرآن تذكرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظهم به وببيانه. مِمَّنْ خَلَقَ متعلق ب تَنْزِيلًا فيكون الظرف لغوا أو بكائنا صفة له فيكون
مستقرا. وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلا منا أمور منها: الافتنان في الكلام على عادتهم. ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة. ومنها التفخيم بالإسناد أولا إلى ضمير المتكلم المطاع في أَنْزَلْناهُ ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد. وقيل: أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات.
والْعُلى جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة. ومنه قول الحكماء: عقول الرجال تحت لسان أقلامهم. وارتفع الرَّحْمنُ على المدح على تقدير هو الرحمن، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق. والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعا في «الأنعام» في قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] وفي الأعراف في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ [الآية: 54] فلا حاجة إلى الإعادة. ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ الآية. عن محمد بن كعب: أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين. وعن السدي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.
وقيل: الثور أو الحوت. والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها، ولا ريب أن الكل لله سبحانه. ثم بيّن كمال علمه بقوله وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ما أخطرته ببالك، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره. وقيل: أخفى فعل ماض أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو. قلت: هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف: وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط. وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك. فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: 205] وإما أن يكون تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدي غيره به. ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح- ظاهرة كانت أو باطنة- وترغيبه في الطاعات- ظاهرة وباطنة- وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسير قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة، فلنقتصر الآن على ذلك. ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره. واعلم أن
مراتب التوحيد أربع: الإقرار باللسان، ثم الاعتقاد بالقلب، ثم تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد.
والأول بدون الثاني نفاق، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات.
ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته «لا إله إلا الله» حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك
ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» «1»
والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون، وآخره الفناء في الله والبقاء به.
قال النحويون: لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله. وقال أهل العرفان:
معناه لا إله في الإمكان إلا الله. روي أن موسى بن عمران قال: يا رب علمني شيئا أذكرك به. فقال: قل لا إله إلا الله. فقال: كل عبادك يقول. فقال: قل لا إله إلا الله. قال: إنما أردت شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن «لا إله إلا الله» . والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة، وعن أسمائه الحسنى قد مر في «الأعراف» في قوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] . واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغير الإنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارة يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] وتارة يتسفل إلى أن يقال له ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض الزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره. إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظبا على الإحسان كما قيل:
يا حسن الوجه توق الخنا
…
لا تخلطن الزين بالشين
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 147. أبو داود في كتاب اللباس باب: 16. الترمذي في كتاب الفتن باب: 17. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب:
9.
الدارمي في كتاب المقدمة باب: 8. أحمد في مسنده (1/ 282، 399) .
فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين. ذكر أن صيادا اصطاد سمكة وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت: إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها. إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين.
عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال: يا رب أيّ خلق أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطبا من ذكري. قال: أيّ خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس علما إلى علمه. قال:
وأيّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال: وأيّ خلقك أعظم جرما؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له. إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا.
وعن الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم الجمع من أهل الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس. ثم يقال: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي. إلهي فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك. وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتا له وتقوية وتسلية.
قال الكلبي: معنى وَهَلْ أَتاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له.
ويقول المرء لصاحبه: هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه. وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المتقدم. «وإذ» ظرف للحديث لأنه حدث، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى نارا كان كيت وكيت. قال أهل السير: استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده، فرأى نارا من يسار الطريق من بعيد. قال السدي: ظن أنها من نيران الرعاة. وقال الآخرون: إنه رآها في شجرة. واختلفوا أيضا في أن الذي رآه كان نارا أم لا. قالوا: والصحيح أنه كان نارا ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. ويمكن أن يقال: إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب. قيل: النار أربعة أقسام: نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً [يس:
80] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام. وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم، وحرقة ونور وهي نار الدنيا، ولا حرقة ولا نور
وهي نار الأشجار. فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد. ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع. وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم فقد آنَسْتُ ناراً أي أبصرت إبصارا لا شبهة فيه أو إبصارا يؤنس به. والتركيب يدل على الظهور، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به. قال جار الله: لما وجد الإيناس وكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة «إن» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلا لَعَلِّي آتِيكُمْ قال المحققون: فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب البتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل «إني آتيكم» لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح. والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما. وهُدىً على حذف المضاف أي ذوي هدى، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. والظاهر أنه أراد قوما يهدونني الطريق. وعن مجاهد وقتادة: قوما ينفعونني بهداهم في أبواب الدين، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغل. ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثان لأجد، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياما وقعودا فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين.
فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار. قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة. وقال وهب: ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا مُوسى من قرأ إِنِّي بالفتح فتقديره نودي بأني، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى. وتكرير الضمير في «أنيّ» أَنَا رَبُّكَ لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة.
روي أنه لما نودي يا موسى قال: من المتكلم؟ فقال الله عز وجل:
إني أنا ربك. فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت
أذنا.
وقيل: لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجرة فيكون معجزا. وأيضا إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار ولا النار تضر بالخضرة، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله. وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علما ضروريا بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لا ستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوما بالاستدلال، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف. قال القاضي: إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلا. قال:
وهذا أولى لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه. وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره. وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت. والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام. وقالوا: إنه تعالى خلق ذلك النداء في جسم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك. وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار، والمرتب على المحدث. ومثله استدلال المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثا.
أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأمورا من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث.
وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون: لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل: عظم البقعة عن وطئها إلا حافيا يؤيده قوله إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ. ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق. وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: خلعت فخلعنا. قال: فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذرا.
يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
قال الجوهري طُوىً بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم. فمن صرفه جعله اسم واد ومكان، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة. وقال بعضهم: طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى
أي طوى مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين، ويحتمل أن يراد نودي نداءين. وقيل: طوى مصدر كهدى ومعناه العلى. وعن ابن عباس أنه مر بذلك الوادي ليلا فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طيا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة. قيل: فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله. وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله فَاسْتَمِعْ نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال: جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه. لِما يُوحى أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب فَاسْتَمِعْ أو ب اخْتَرْتُكَ ثم قال إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ورتب عليه فَاعْبُدْنِي ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء: إن الله معناه المستحق للعبادة. قال الأصوليون:
تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها. وأيضا قال وَأَقِمِ الصَّلاةَ ولم يبين هيئاتها. أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله بها شعيبا وغيره من الأنبياء، فكان الخطاب متوجها إلى ذلك، وزيف بأن حمل الخطاب متوجها على التأسيس أولى قال: قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر. ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل، فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية. ولقائل أن يقول: سلمنا أن المبين أكثر فائدة للمخاطب، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخا وإن كان أصله باقيا.
وفي قوله لِذِكْرِي وجوه. لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل. والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان. وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول. وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا؟. ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها: أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي، أو أراد لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار. عن مجاهد: والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية، وفي الثاني مجاز. أو نقول: في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي. ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق.
ومنها أن اللام للوقت كقولك «جئتك لوقت كذا» أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة.
ومنها أن يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها
كقوله صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» »
فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب، أو الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة فالياء فاعل. قال الشافعي: من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جاز. ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها. وقال أبو حنيفة: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقا فلا تبطل. حجة الشافعي ما
روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها،
ولو كان وقت الانتباه متعينا للصلاة لما فعل كذلك. نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك. حجة أبي حنيفة قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
وقوله صلى الله عليه وسلم فليصلها «إذا ذكرها»
وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها بعد. قال: فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها.
وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاني عرفة ومزدلفة. فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب. ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ.
سؤال: «كاد» نفيه إثبات وإثباته نفي. فقوله أَكادُ أُخْفِيها يكون معناه لا أخفيها وهو باطل لقوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] ولأن قوله. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفا وقت القيامة وكذا وقت الموت اشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية.
(1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب: 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309. الترمذي في كتاب الصلاة باب: 16، 17. النسائي في كتاب المواقيت باب: 52- 54. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب: 10، 11. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 25. أحمد في مسنده (3/ 31، 44) .
والجواب لا نسلم أن «كاد» إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط، والباقي موكول إلى القرينة.
ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال: أكاد لا أقول هي آتية لفرط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال: أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك. فقال قطرب: هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا: كتمته من نفسي. وقيل: «كاد» من الله واجب وأراد أنا أخفيها من الخلق كقوله عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الاسراء: 51] أي هو قريب قاله الحسن. وعن أبي مسلم أن «أكاد» بمعنى أريد كقوله كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 21] ومنه قولهم «لا أفعل ذلك ولا أكاد» أي لا أريد أن أفعله. وقيل: أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها. وقال أبو الفتح الموصلي: الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره. وقوله لِتُجْزى متعلق ب أُخْفِيها كما قلنا أو ب آتِيَةٌ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة. واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال بِما تَسْعى أي بسعيها. فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد، ولو لم يكن الثواب مستحقا على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها. ومعنى الفاء في فَلا يَصُدَّنَّكَ أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه. وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في عَنْها للصلاة.
والعرب تذكر شيئين ثم ترمي بضميرهما إلى السامع اعتمادا على أنه يرد كلا منهما إلى ما هو له، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا. وأما الخطاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه. وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة، والنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب. والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب كأنه قيل: كن في الدنيا صلبا حتى لا يطمع في إغوائك الكافر. والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا. وفيه
حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى. وهاهنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه. وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلا على أن القبائح إنما تصدر عن العباد. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. قال أهل التحقيق: قوله أوّلا لموسى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى التخلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإلى علم الوسط وهو قوله فَاعْبُدْنِي وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية. وقوله لِذِكْرِي وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. وأيضا إنه افتتح الخطاب بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وهو غاية اللطف، وختم الكلام بقوله فَلا يَصُدَّنَّكَ إلى آخره وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف. قوله وَما تِلْكَ مبتدأ وخبر وبِيَمِينِكَ حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام. وجوّز الكوفيون أن يكون تِلْكَ اسما موصولا صلته بِيَمِينِكَ أي ما التي بيمينك. قيل: لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب.
أسئلة: ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئا شريفا كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول: خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى: هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعبانا عظيما كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة. وقال أهل الخطابة: إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجا باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا. وأيضا إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسئول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل والحياء فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعا للإيحاش وجلبا للاستئناس. وأيضا لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيها على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد. آخر: خاطب موسى بلا واسطة وخاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل، فيلزم أن
يكون موسى أفضل. وجوابه المنع بدليل فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: 10] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سرا وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه.
وأيضا حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم المصلي يناجي ربه، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وأيضا إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقا بالعصا ومنافعها، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] بل كان فانيا عن الأغيار باقيا بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذ على
قوله «أنت كما أثنيت على نفسك» «1» .
وهاهنا نكت منها: أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما- وهو الجماد- حيوانا والآخر- وهو الكثيف- نورانيا لطيفا. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا. ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حيا فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حيا! ومنها أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله هِيَ عَصايَ إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض. وقيل: هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها. وقيل: خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين. ومعنى أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أغتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق. وَأَهُشُّ بِها أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله.
والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه «رجل هش المكسر» أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح «وهش الخبز» يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته. قال المحققون: إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلا مع أمته حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] فورد في حقه حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين [الأنفال: 64] أي حسبك وحسب من اتبعك. وأيضا إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثم بمصالح رعيته
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب: 148. النسائي في كتاب قيام الليل باب: 51. الترمذي في كتاب الدعوات باب: 75، 112. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب: 3. الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث 31. أحمد في مسنده (1/ 96، 118) .
بقوله وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33]
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
فلا جرم يقول موسى يوم القيامة «نفسي نفسي»
ومحمد يقول «أمتي أمتي» .
ثم قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء.
وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال أُخْرى لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى.
ومن آياتنا الكبرى قالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا:
انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام. قلت: هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بعد وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه.
قال أهل النكت: إن موسى لما قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها وقالَ أَلْقِها يا مُوسى وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فأمر بتركهما تنبيها على أن السالك مادام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي:
الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده فذاك قولنا، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده. ويمكن أن
يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا. قوله فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [الأعراف: 107] وفي موضع آخر فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ وفي آخر كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم. وأما الثعبان- وهو العظيم من الحيات- والجان- وهو الدقيق منها- فبينهما تناف في الظاهر لا في التحقيق، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعبانا آخر الأمر. أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة. والعجب أن موسى قال أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئا له بأن كانت أعظم معجزاته. وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات. وأيضا لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في «الأعراف» أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين لحييها أربعون ذراعا، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر، ولو أنه بلغ حينئذ مقام فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] لم يفر عن شيء. أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده.
فقد روي أنه لما قال له ربه: لا تَخَفْ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها،
قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري: ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة. وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها.
قلت: يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال جار الله: السيرة من السير كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصا، أو يكون أعاد منقولا بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانيا. ونصب سِيرَتَهَا بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكا عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يقال: لكل
ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما. والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما. فقيل: المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله تَخْرُجْ وعن ابن عباس: معناه إلى صدرك. وضعف بأنه لا يطابقه قوله تَخْرُجْ قلت: لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة. والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه. ومعنى بَيْضاءَ أنها تنور كشعاع الشمس. قال في الكشاف: من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول: ابيضت من غير سوء. قلت: لعله أراد أن «من» للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء. وبَيْضاءَ وآيَةً حالان معا أو متداخلتان. واحتمل أن ينتصب اية بمضمر يدل عليه الكلام نحو «خذ ودونك» . وقوله لِنُرِيَكَ إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك مِنْ آياتِنَا فلعنا ما فعلنا.
ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي أَلْقِها واضْمُمْ لنريك قال الحسن:
اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى. وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا. ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر من الكل، وكفاك بالقرآن شاهدا على ذلك. ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ وخصه بالذكر لأن قومه تبع له. ثم بين العلة في ذلك فقال إِنَّهُ طَغى
وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى: استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولا لينا لا يغتر بلباس الدنيا، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له: أجب ربك فيما أمرك
فعنده قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال علماء المعاني: أنهم أولا بقوله رَبِّ اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي فعلم أن ثمة مشروحا وميسرا. ثم بين فرفع
الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال. ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: 13] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي. وقيل: أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة. واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في «البقرة» في تفسير قوله سبحانه وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الآية: 186] .
ولنذكر هاهنا نكتا شريفة: الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملا ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل، وذلك كما يقال: إنه سبحانه لا يعلم عددا مفصلا لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود. وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فقال: الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا- حال العدم وحال الجمادية- ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المقعد في الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال: القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك. فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان أفضل المخلوقات، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على نقاش، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته.
الثانية: إنه تعالى خاطبه أولا بالتوحيد إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وثانيا بالعبادة فَاعْبُدْنِي وثالثا بمعرفة المعاد إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ورابعا بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وخامسا بعرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وسادسا بإرساله إلى أعظم الناس كفرا وكانت هذه التكاليف الشاقة سببا لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وهاهنا دقيقة هي أن شرح الصدر مقدمة لسطوح الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع مقدّمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله فَاسْتَمِعْ نسج موسى على ذلك المنوال فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصودا من الكائنات ومخاطبا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] أوتي النتيجة فقيل له وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ووصف بقوله وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب:
46] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور، والسراج المنير هو المعطي للنور.
فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى: اللهم اجعلني من أمة محمد.
الثالثة: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وثانيها الرسول قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] وثالثها الكتاب وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [التوبة: 32] وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وثامنها البينات إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] وتاسعها الأنبياء نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانيا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات
الرحمن عليه. وسابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك. وتاسعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبها بهم في الانقياد لحكم رب العالمين. وعاشرا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح.
الرابعة: شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالزند زند المجاهدة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع وادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] والحراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات: 40] والكبريت الإنابة وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] والمسرجة الصبر وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] والفتيلة الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [ابراهيم: 7] والدهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.
الخامسة: هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها: الشمس يحجبها الغيم، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] وثانيها الشمس تغيب ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: 17] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] الليل للعاشقين ستير يا ليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى. وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [ابراهيم: 24] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي «أشهد أن لا إله إلا الله» إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي «أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لم يصل نور إلى عالم الجوارح. وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق
«جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» .
وسابعها الشمس
تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض، والمعرفة زينة لأهل السماء. وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع. وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق. والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
السادسة: الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] والمعرفة سراج استوقده للبقاء يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [ابراهيم: 27] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 9] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا: الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك. وأيضا الإنسان إذا استوقد سراجا فإنه لا يزال يتعهده ويمده، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات:
7] أفلا يمده وهو معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وأيضا إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا المجوس إذا أوقدوا نارا لا يجوزون إطفاءها، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
السابعة: أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122]
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له»
فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب. وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبدا. فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبدا؟ وثالثها الطهارة أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: 3] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم
يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك، والأول قد يحصل وقد لا يحصل إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وكذا الثاني يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] وأما هداية القلب فلا تزول البتة لأن الهادي لا يزول وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مستقيم [القصص: 56] وخامسها الكتابة أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضا إن بشرا الحافي أكرم قرطاسا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك. وأيضا إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 4] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا. فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح: لا تخف ولا تحزن كما قال تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] وسابعها المحبة والزينة كما قال وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 6] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران: 103] وفيه أن محمدا حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضورا سلام «علينا وعلى عباد الله الصالحين» فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] .
وتاسعها الطمأنينة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 21] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه، والمتناهي لا يقابل غير المتناهي. فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة: 127] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:
10] قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً [المائدة: 13] إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف:
57] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النحل: 108] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي.
الثامنة: في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة
بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، ولا رهبة بأن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجها بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. أو نقول: إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله فَاعْبُدْنِي فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أو نقول: معدن النور هو القلب، والاشتغال بما سوى الله- من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار- هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
التاسعة: لنضرب مثلا لذلك فنقول: البدن بالكلية كالمملكة، والصدر كالقلعة، والفؤاد كالصفة، والقلب كالسرير، والروح كالملك، والعقل كالوزير، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة، والغضب كالا سفهيد الذي يشتغل بالضرب، والتأديب والحواس كالجواسيس، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما
قال «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»
فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا
قال صلى الله عليه وسلم «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه» «1»
وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه
(1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 78. أبو داود في كتاب الجهاد باب: 1. أحمد في مسنده (6/ 58، 112) .
هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا، وله سور وهو الرغبة في الآخرة. فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه. ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
النكتة العاشرة: في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب. الصدر مقر الإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 6] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] واللب مقام التوحيد إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 9] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي ويقوا بلب الوجود الحقيقي. ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى، فحينئذ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس. وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى. فلا جرم أعطى المقصود فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] أجيب بقوله لَنْ تَرانِي. واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب. ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم، فلهذا قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم
وهاهنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة لِي في قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي دون أن يقول «رب اشرح صدّري» علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة «نفسي نفسي» وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما لم
ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له
«السلام عليك أيها النبي» فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
فلا جرم يقول يوم القيامة
«أمتي أمتي»
وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وبين نبي يخاطب أولا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] . ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال.
أما قوله سبحانه وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 3، 4] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقا للإنسان إذا علمه البيان. وفي لسان الشاعر وهو زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
…
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
وعن علي كرم الله وجهه: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة.
وقالت العقلاء: المرء بأصغريه. المرء مخبوء تحت لسانه. وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق. ومن التعريفات المشهورة: إن الإنسان هو الحيوان الناطق، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب، وقوله وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي رمز الى تسهيل ذلك التحصيل، وقوله وَاحْلُلْ طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلا فاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخطب الجسيم والمنصب العظيم.
وحسبك يا فتى شرفا وفخرا
…
سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها:
قوله صلى الله عليه وسلم «الصمت حكمة وقليل فاعله»
وقولهم: مقتل الرجل بين فكيه. وفي نوابغ الكلم: يا بني ق فاك لا تقرع قفاك. ومنها أن الكلام خمسة أقسام: فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساو للنفع واجب الترك احترازا من السفه والعبث، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه. ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل، بخلاف سائر الأعضاء. فالعين لا تصل إلا إلى الألوان والسطوح، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام،
وكذا باقي الجوارح. أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المئونة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان.
والإنصاف ان الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما
قاله النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم»
قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء: الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم «مال ناطق أو صامت» . والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. أما العقدة فقيل: إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال: هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة. وقيل: بالياقوت والجمر. فأحضرا بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف. فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحرقته وأثرت فيه إطفاء لثائرة غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور.
ويروى أن يده احترقت أيضا وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال: الي أيّ رب تدعوني؟ قال:
إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها.
وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة. وقيل: لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله «يا أبت» .
وما الحكمة في طلب حل العقدة؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا قال يَفْقَهُوا قَوْلِي وقيل: لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه. وقيل: إظهارا للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزا له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزا في حقه. وهل زالت تلك العقدة بالكلية؟ فعن الحسن نعم لقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] أي يقارب أن لا يبين.
وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورثها من عمه موسى.
وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة
على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة. وقال أهل التحقيق: وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34] فلما كان ذلك حقا ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله. ومن مطالب موسى قوله وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ قال أهل الاشتقاق: الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنة، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي ظهري لأنه محل القوة. قال الجوهري: آزرت فلانا أي عاونته، والعامة تقول: وازرته. وعلى هذا فيكون القياس أزيرا بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل «فعيل على «مفاعل» لاتحاد معنييهما في نحو «عشير» و «جليس» و «صديق» وغيرها. وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر والاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء
وقد استحسنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن نوى خيرا أعانه عليه، وإن أراد شرا كفه» «1»
وكان أنوشروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير. وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخرا وشرفا وذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده. وقيل: إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين. والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: 14] وخوطب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبوبكر وعمر» «2»
ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقا بأخيه هارون فأراد أن
(1) رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب: 4.
(2)
رواه الترمذي في كتاب المناقب باب: 16
.