الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل. الآخرون سيئة علم التأنيث.
الوقوف:
مَخْذُولًا هـ إِحْساناً، ط كَرِيماً هـ صَغِيراً، ط فِي نُفُوسِكُمْ ط غَفُوراً هـ تَبْذِيراً هـ الشَّياطِينِ ط كَفُوراً، مَيْسُوراً هـ مَحْسُوراً هـ وَيَقْدِرُ، ط بَصِيراً هـ إِمْلاقٍ ط وَإِيَّاكُمْ ط كَبِيراً هـ فاحِشَةً ط سَبِيلًا هـ إِلَّا بِالْحَقِّ ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادرا خارجا عن النهي. فِي الْقَتْلِ ط مَنْصُوراً هـ أَشُدَّهُ ز بِالْعَهْدِ ج على تقدير فإن. مَسْؤُلًا هـ الْمُسْتَقِيمِ ط تَأْوِيلًا هـ بِهِ عِلْمٌ ط مَسْؤُلًا هـ مَرَحاً ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام طُولًا هـ مَكْرُوهاً هـ الْحِكْمَةِ ط مَدْحُوراً هـ إِناثاً ط عَظِيماً.
التفسير:
لما أجمل أعمال البر في قوله: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين، ويحسن أن يقال: إن الخطاب للإنسان كأنه قيل: يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله: وَقَضى رَبُّكَ فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده. وانتصب قوله: فَتَقْعُدَ على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير: لا يكن منك جعل فقعود. وفيه وجوه منها. أن المراد به المكث يقال: ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائما أو جالسا. ومنها أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة. ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعدا عن الطلب. ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم:«شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة» بمعنى صارت. ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقي بلا ناصر ومعين. وأيضا الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان.
ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال:
وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما وحكم حكما قطعا أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبدوا
ف «أن» ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا. وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية «ووصى ربك» وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء: وَقَضى رَبُّكَ ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع. وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن. أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ولا يجوز أن يتعلق الباء في بِالْوالِدَيْنِ بالإحسان على ما ذهب إليه الواحد، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تاليا لعبادة الله. يحكى أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري: ماذا نكتب على قبرك؟ قال: اكتبوا عليه:
هذا ما جناه أبي علي
…
وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي
…
سبقت وصدّت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
…
ترمى بهم في موبقات الآجل
وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن هنا قيل:«خير الآباء من علمك» . وقال العقلاء: وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر، ولهذا نكر إِحْساناً أي أحسنوا إليهما إحسانا عظيما كاملا جزاء على وفور إحسانهما إليك، على أن البادئ بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه.
ثم فصل طرفا من الإحسان المأمور به فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتبا عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم. وقال النحويون: إن الشرط أشبه
النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه. من قرأ الفعل على التوحيد فقوله: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين، وكلاهما عطف على البدل فهو بدل مثله. ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفا على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة. أَوْ كِلاهُما مفرد لفظا مثنى معنى، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع. وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب «مررت بكلي الرجلين» بكسر الياء كقوله طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 41] قال في الكشاف: معنى عِنْدَكَ هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه. وفي أُفٍّ لغات: ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه.
وأف بكسرتين بلا تنوين. وأ في ممالا كبشرى، وأف كخذ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال: أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال. وفي تفسيرها وجوه: قال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول: أف أف. وقال الأصمعي:
الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار. يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وقيل: معنى «أف» القلة من الأفيف وهو الشيء القليل، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر. وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم، قال الزجاج: معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر.
قال بعض الأصوليين: منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية. ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلان نقيرا ولا قطميرا يدل في العرف على أنه لا يملك شيئا أصلا. وقال الأكثرون منهم: إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات، وإما أن يتساويا
كقوله صلى الله عليه وسلم:
«من أعتق نصيبا من عبد حرم عليه الباقي»
فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان. وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا آخر عدوا له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته. فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: وَلا تَنْهَرْهُما والنهر والنهي أخوان يقال: نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره. وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا مشتملا على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام. وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له: «يا أبتاه» «يا أماه» دون أن يسميهما باسمهما. وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء، تقديم لحق الله على حق الأبوين. قالوا: ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة:
نحلني أبو بكر كذا، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين:
الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. والثاني أن الطائر أذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان: الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك: «حاتم الجود» فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول. والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا كقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها. فأثبت للشمال يدا ثم وضع زمام الريح في يد الشمال. وقوله: مِنَ الرَّحْمَةِ في «من» معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ. وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه. والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد. قال بعض المفسرين: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:
113] وقيل: مخصوصة لأن التخصيص أولى من النسخ، وقيل: لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة
لهما بعد حصول الإيمان. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة رَبِّ ارْحَمْهُما وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: 56] . وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد. وكما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: 203] فهم يذكرون في أدبار الصلاة. قلت: ويشبه أن يدعو لهما أيضا كلما ذكرهما أو ذكر شيئا من إنعامهما. وسئل أيضا عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» «1»
وروى سعيد بن المسيب أن البارّ لا يموت ميتة سوء.
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما.
وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي.
واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله، فبكى صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك. مرتين.
وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال: لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر. قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين. قال:
إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جازيتها.
وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب بها.
ثم قال سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها وفَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً اللام للعهد كما روي عن سعيد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته
عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره. ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المالين. والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله: وَقَضى رَبُّكَ وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسرا أن ينفق عليهم بقدر الحاجة. وعند الشافعي: لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء.
وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في «البقرة» وفي «التوبة» . ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم. كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله. قال ابن مسعود: التبذير إنفاق المال في غير حقه.
وعن مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلا: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله.
ثم علم أدبا حسنا في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء.
والقول الميسور الرد بالطريق الأحسن. وقيل: اللين السهل. قال الكسائي: يسرت أيسر له القول أي لينته. وقيل: القول المعروف كقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ [البقرة: 263] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف. وقيل: ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة. قال جار الله قوله: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا ابتغاء رحمة من الله تَرْجُوها بسبب رحمتك عليهم، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فردهم ردا جميلا، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له. فالفقد سبب الابتغاء فأطلق
المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلا: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عند الناس بالبخل مَحْسُوراً بالإسراف أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيرا ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة.
وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. فذهب إلى أمه فقالت له:
قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية.
وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل فنزلت.
ثم إنه تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تابع لمشيئة الخالق الرازق فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ وبمصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد.
ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وأيضا لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على
البنات فهو سعي في تخريب العالم. والأول ضد التعظيم لأمر الله والثاني ضد الشفقة على خلق الله، ومن رغب عن محبة الولد فكأنه رغب عن جزئه قال:
ولد المرء منه جزء وما حا
…
ل امرئ يودع الثرى منه جزءا
وكانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة. وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد، فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا فلهذا قال: أَوْلادَكُمْ وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل، وكثيرا ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ. ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وهذا آكد من أن يقال «لا تزنوا» ثم علل النهي بقوله: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي خصلة متزايدة في القبح وَساءَ سَبِيلًا سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسن ولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائدة إليها في أنفسها، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوبا إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي للزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة، ولا يتم السكون والازدواج.
ويتواثب كل رجل على كل امرأة أراد بحسب شهوته ومقتضى طبعه، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم. وأيضا ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره. وأيضا الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة. فاقتصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار. وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتا لأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وهو وهم، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما
قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً [النساء: 22] . وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو.
ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر. ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر، والأصل في المضار الحرمة، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال: إِلَّا بِالْحَقِّ وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي تسلطا على استيفاء القصاص. فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوما، وظاهر
قوله عليه السلام «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» «1» .
يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعا على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. ويحتمل أن يقال قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً. كلام مستأنف، والحديث بتمامه تفسير لقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ فلا يلزم التفريع المذكور. ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191] هذا وقد أبدى الفقهاء أسبابا أخر منها: أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة، وكذا اللائط. ومنها الساحر إذا قال: قتلت فلانا بسحري.
وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا: الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر. ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطانا. ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فقيل: إنه قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل. وقيل: معنى قوله: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ [البقرة: 178] الآية. فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل
(1) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11. الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده (1/ 61)(6/ 181) .
وأن يكتفي بالعفو وأخذ الدية، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص. وعن الشافعي أن التنوين في قوله: مَظْلُوماً للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية. وأيضا ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة: 178] خاص والخاص مقدم على العام. من قرأ فلا تسرف بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية. وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل، أما الضمير في قوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه، أو نصره بمعونة السلطان والمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله، وفي الآخرة بإعطاء الثواب. وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادئ وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ وهي تثميره وإنماؤه. وروى مجاهد عن ابن عباس: إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر «الأنعام» وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناكحات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده. إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد: لم نكثت تبكيتا للناكث كقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: 8] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون. وقيل:
كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعدل، وقيل رومي أو سرياني ذلِكَ الإيفاء والوزن المعدل خَيْرٌ من التطفيف وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا عاقبة من آل إذا رجع. أما في الدنيا فلانة إذا اشتهر بالاحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه
وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات، وأما في الآخرة فظاهر. وقال الحكيم:
إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شديد والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه. ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال: وَلا تَقْفُ أي لا تتبع من قولك «قفوت فلانا» أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب. والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل: نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:
148] وعن محمد بن الحنيفة: المراد شهادة الزور. ومثله عن ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقيل: أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب. وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. وقال قتادة: معناه لا تقل سمعت ورأيت وعلمت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم.
وقيل: القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومنه
الحديث: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» «1»
أي يتوب. وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد.
احتج نفاة القياس بالآية زعما منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم. وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن، وإنه لا يفيد إلا الظن. سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به، وزيف بأنه لا دليل قاطعا على وجوب العمل بالظن الغالب لأن ذلك الدليل ليس عقليا بالاتفاق، ولا نقليا لأنه إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه- وهو هذه الآية- تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز. وكذا الاجتهاد في القبلة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكذا الفصد
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 82) .
والحجامة وسائر المعالجات، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمنا لتحل ذبيحته، أو الوارث لحصول التوارث، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين. وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة.
وقال صلى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر.
والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن. فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر، ثم علل النهي بقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله: والعيش بعد أولئك الأيام. كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال في الكشاف: عَنْهُ في موضع الرفع بالفاعلية مثل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:
7] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال: إنه فاعل مَسْؤُلًا المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل: يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل: إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل «أتاني ركضا» ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تثقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، أو تمييز، أو مفعول له، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال، فلا يليق به أن يتكبر.
وبوجه آخر كأنه قيل له: إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك، فلا تفعل فعل المقتدر القوي. وقيل: إنه مثل ومعناه: كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولا فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإنسان من بلوغ إرادته.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئا فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ سَيِّئُهُ على التأنيث فقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى
المنهيات خاصة. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى ما نهى عنه في قوله: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وإنما قال: سيئة على التأنيث مع قوله: مَكْرُوهاً على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة: الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده. وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهيا عنها، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لا بأس بالتكرار لأجل التأكيد ذلِكَ الذي ذكر من قوله: لا تَجْعَلْ إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموما مخذولا وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملوما مدحورا وأنها حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء هاهنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال: الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلّا إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة.
ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال: أَفَأَصْفاكُمْ أي أفخصكم رَبُّكُمْ على وجه الخلوص والصفاء بِالْبَنِينَ الذين هم أفضل الأولاد وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ أولادا إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا