المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ج وَالنَّهارَ ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم - تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان - جـ ٤

[النيسابوري، نظام الدين القمي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع]

- ‌(سورة هود)

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 24]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 49]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 68]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 83]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 102]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 103 الى 123]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة يوسف عليه السلام

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 20]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 35]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 53]

- ‌القراآت

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 68]

- ‌القراآت

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 83]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 101]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة الرعد)

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 11]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 29]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 43]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌ التفسير

- ‌التأويل:

- ‌(سورة إبراهيم عليه السلام

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 17]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 50]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 99]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌ التفسير

- ‌التأويل:

- ‌(سورة النحل)

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 23]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 42]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 60]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 70]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 71 الى 83]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 100]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 128]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة بني إسرائيل

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 21]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 40]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 41 الى 60]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 72]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 89]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 111]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة الكهف)

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 26]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 46]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 59]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة مريم)

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 15]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 40]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 65]

- ‌القراءات:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 98]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌(سورة طه)

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 36]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 37 الى 76]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 114]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 135]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌الفهرس

الفصل: ج وَالنَّهارَ ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم

ج وَالنَّهارَ ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيها على الشكر سَأَلْتُمُوهُ ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام لا تُحْصُوها ط كَفَّارٌ هـ.

‌التفسير:

لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غاية حسرتهم ونهاية خيبتهم. فقال: مَثَلُ الَّذِينَ وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم. وقوله: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم. وقال الفراء: المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا. وإنما جاز حذفه استغناء بذكره ثانيا. وقيل: المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ كقولك «صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون» ويجوز أن يكون أَعْمالُهُمْ بدلا والخبر كَرَمادٍ وحده. والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين، شبهها في حبوطها- لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان- برماد طيرته الريح في يوم عاصف. قال الزجاج: جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازا كقولك «يوم ماطر» . قال الفراء: وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة. وقيل: المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام. ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهرا طويلا. ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به. وقوله: مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ القياس عكسه كما في «البقرة» لأن «على» من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب- أعني العمل الذي ضرب له المثل- هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله:

ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والثواب. ثم كان لسائل أن يسأل: كيف يليق بحكمته إضاعة أفعال المكلفين؟ فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو. ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وقد مر مثله في سورة النساء. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. فإن قيل:

الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فما فائدة قوله: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض؟ قلنا: على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي

ص: 186

تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيها بعزل شخص ونصب غيره مقامه. وللحكيم أن يستدل بقوله: يُذْهِبْكُمْ على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض. والجواب أن الإذهاب هاهنا بمعنى الإعدام، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام هاهنا امتناعه في جميع الصور. وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال: وَبَرَزُوا بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع مثل وَسِيقَ [الزمر: 73] وَنادى [الأعراف: 48] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه «امرأة برزة» إذا كانت تظهر للناس «وبرز فلان على أقرانه» إذا فاقهم. ومعنى برزوهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله. فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه. قال أبو بكر الأصم: قوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ هو المراد من قوله: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ وعلى قواعد الحكماء: النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء وكشف الوطاء وظهرت عليه آثار الملكات والهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحس فذلك هو البروز لله، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال. وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة.

كتب الضعفواء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله: علمواء بني إسرائيل [الشعراء: 197] والضعفاء العوام والأراذل، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا. قال الفراء: أكثر أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس وحارس. وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدرا أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ هل يمكنكم دفع عذاب الله عَنَّا ومن في مِنْ عَذابِ اللَّهِ للتبيين وفي مِنْ شَيْءٍ للتبعيض. والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ. عن ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى. وقال في الكشاف:

لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه كقوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما

ص: 187

يَحْلِفُونَ لَكُمْ

[المجادلة: 18] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل «الأنعام» في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الآية: 23] وجوز أيضا أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان، وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله. وقيل: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، ويؤكد هذا التفسير قوله سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وإعرابه كقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر.

وجوز في الكشاف أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا إلخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر، قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ [يوسف: 52] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص، أو مكان كالمبيت والمضيف. ولما ذكر مناظرة شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن. ومعنى قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة. والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة. وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار.

يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا في النار فيقول: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول» .

ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل «مسجد الجامع» ، أو تأويله وعد اليوم الحق، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال. وفي الآية إضماران: الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم. الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد. ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه، ووجه الثاني أيضا مثل ذلك. ثم ذكر طريق وسوسته اعتذارا منهم فقال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ قال النحويون: هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط.

ص: 188

فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال:«فلا تلوموني ولا أنفسكم» فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا أن عدم إنكار الله تعالى عليه حجة. هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره. قال المحققون:

الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائما له، أو بكونه منافرا له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئا مثل أن الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره. وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسما لطيفا والله سبحانه ركبه تركيبا عجيبا لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهرا نورانيا مجبولا على الشر، والنفس الإنسانية أيضا جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر. وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة. هذا إذا كانت خيرة، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة، والقدماء كانوا يسمون كلا من تلك الأرواح بالطباع التام. وذكر بعض العلماء احتمالا آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاما، وإن كان في باب الشر كان وسوسة.

ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ قال ابن عباس:

يريد بمعينكم ولا منقذكم. قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث.

صرخ فلان إذا استغاث. وقال وواغوثاه، وأصرخته أي أغثته. وعاب النحويون على حمزة

ص: 189

أنه قرأ: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو «عصاي» فما بالها وقبلها ياء. وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره. قوله: إني كفرت بما أشركتموني إن كانت «ما» مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيرا وتصرفا في هذا العالم، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن «ما» في معنى «من» كقوله:«سبحان ما سخركن لنا» فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه. ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة. أما قوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فالأظهر أنه كلام الله، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته. ثم شرع في أحوال السعداء وقال: وَأُدْخِلَ على لفظ الماضي تحقيقا للوقوع، وقوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق ب أُدْخِلَ أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. وقرأ الحسن وَأُدْخِلَ على لفظ المتكلم. قال في الكشاف: فعلى هذا يتعلق قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم. وقد تقدم معنى قوله: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ في أول سورة يونس. ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلا. قال في الكشاف كَلِمَةً طَيِّبَةً نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو تفسير لقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلا. ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة.

وقال صاحب حل العقد: أظن أن الوجه أن يجعل قوله: كَلِمَةً عطف بيان، وقوله:

كَشَجَرَةٍ مفعول ثان. عن ابن عباس: الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. والشجرة الطيبة شجرة في الجنة. وعن ابن عمر: هي النخلة. وقيل: الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وقيل: لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن.

أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكل والرائحة وطيب

ص: 190

الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها. والثانية: أَصْلُها ثابِتٌ راسخ آمن من الانقطاع.

ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله. والثالثة وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ. ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات. قال في الكشاف: فرعها أعلاها ورأسها، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس. الصفة الرابعة تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أي تعطي ثمرها كل وقت وقّته الله لأثمارها. وعن ابن عباس: الحين ستة أشهر لأن من حملها إلى صرامها ستة أشهر. وقال مجاهد وابن زيد: سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة. وقال الزجاج:

الحين الوقت طال أم قصر. والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلا ونهارا صيفا وشتاء بِإِذْنِ رَبِّها بتيسير خالقها وتكوينه. قال المحققون: معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئا من الحاس. أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به. ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد. وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله، ومنشؤها القوة النظرية، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموما وخصوصا. وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] وسمعه للحكمة الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] ونطقه بالصدق والصواب وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً [الأحزاب: 70] . وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء. وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات. وإذا صار جوهر النفس كاملا بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملا لغيره وذلك قوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ.

وفي قوله: بِإِذْنِ رَبِّها إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب أن يكون على المفيض لا على الفيض، وعلى المنعم لا على النعمة. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان. وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفس كلمة طيبة كما قال في حق عيسى بِكَلِمَةٍ

ص: 191

مِنَ اللَّهِ

[آل عمران: 39] . وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما. فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك. ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها ما لَها مِنْ قَرارٍ أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال:

ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. قلت: وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين، وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار، تراها أبدا تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران.

ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال. هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبور لم يتلعثموا، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا. عن ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها. وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك. والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار. وإنما فسرت الآخرة هاهنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة.

فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت. وقيل: معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة بسبب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة. ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بقوله: يُثَبِّتُ أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول. ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ

ص: 192

من التثبيت والإضلال. ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة.

ثم عجب من ظالمي مكة بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي شكر نعمته كُفْراً أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفرا أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر. وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقا في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي الهلاك. وقوله جَهَنَّمَ عطف بيان وَبِئْسَ الْقَرارُ أي المقر مصدر سمى به. قوله:

لِيُضِلُّوا من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية. وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. قُلْ تَمَتَّعُوا أمر وعيد وتهديد. قال جار الله: فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة. والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وإنما سمى عيش الكفار تمتعا لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب. ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال:

هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل: هم منتصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديدا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ المقول محذوف لأن جواب «قل» يدل عليه التقدير: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام. وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو «قل» عوض منه، ولو قيل:«يقيموا الصلاة وينفقوا» ابتداء بحذف اللام لم يجز. والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله. ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [الآية:

254] لا ينافي إثباتها في قوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان والعمل الصالح.

ص: 193

ولما ختم أحوال المعاد عاد إلى المبدإ فقال: اللَّهُ وهو مبتدأ خبره الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وقد مر في أول «البقرة» . والمراد من السماء جهة العلو. وقيل: نفس السماء، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظرا عليه. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ كقوله في أواسط البقرة وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الآية: 164] وقد مر. ومعنى بِأَمْرِهِ بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا. ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله:

«كن» . وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس. وقوله: دائِبَيْنِ نصب على الحال. والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما، وهكذا معنى التسخير في قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه. ولما فصل طرفا من النعم أجمل الباقية منها بقوله: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ

أي بعض جميع ما سألتموه. ومن قرأ بالتنوين ف «ما» إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال. ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها. قال الواحدي: النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع. ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة ووقف على منافعها، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده. وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب. وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة.

قال الحكيم: إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها.

أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية

ص: 194