المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورةُ الفَجر آياتها:30 - تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدِّمة

- ‌المسألة الأولى: مفهوم التفسير:

- ‌المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه:

- ‌المسألة الثالثة: طبقاتُ السَّلف في التفسير:

- ‌المسألة الرابعة: تفسير السلف للمُفردات:

- ‌سُورةُ النَّبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورةُ الإنفِطار

- ‌سورةُ المطِّففين

- ‌سورةُ الإنشِقاق

- ‌سورةُ البُروج

- ‌سورةُ الطَّارِق

- ‌سورةُ الأعلَى

- ‌سورةُ الغَاشية

- ‌سورةُ الفَجر

- ‌سورةُ البَلَد

- ‌سورةُ الشَّمس

- ‌سورةُ اللَّيل

- ‌سورةُ الضُّحى

- ‌سورةُ الشَّرح

- ‌سورةُ الِّتين

- ‌سورةُ العَلَق

- ‌سورةُ القَدر

- ‌سورةُ البِّينة

- ‌سورةُ الزَلْزَلة

- ‌سورةُ العادِيات

- ‌سورةُ القَارِعة

- ‌سورةُ التكاثُر

- ‌سورةُ العَصْر

- ‌سورةُ الهُمَزَة

- ‌سورةُ الفِيل

- ‌سورةُ قُريش

- ‌سورةُ الماعون

- ‌سورةُ الكَوْثَر

- ‌سورةُ الكافِرون

- ‌سورةُ النَّصر

- ‌سورةُ المَسَد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

- ‌فهرس

- ‌أولاً: فهرس اختلاف التنوع:

- ‌القسمُ الأول: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى معنًى واحد:

- ‌القسمُ الثاني: الاختلافُ الذي يرجع إلى أكثرِ من معنى

- ‌ثانياً: أسبابُ الاختلاف:

- ‌1 - الاختلافُ بسبب التواطؤ:

- ‌2 - الاختلافُ بسبب ذكرِ وصفٍ لموصوفٍ محذوف:

- ‌3 - الاختلافُ بسبب الاشتراكِ اللُّغوي:

- ‌4 - الاختلافُ بسبب الحذف:

- ‌5 - الاختلافُ بسبب مفسّر الضمير:

- ‌6 - الحملُ على المعنى اللغوي، والحملُ على المعنى الشرعي:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح:

- ‌1 - الترجيحُ بالأغلب، أو المشهور من لغة العرب:

- ‌2 - الترجيحُ بقول الجُمهور (وقد يسميه عليه الطبري: إجماع الحجة):

- ‌3 - الترجيحُ بدلالة السنَّة النبوية:

- ‌4 - الترجيحُ بدلالة السِّياق:

- ‌5 - الترجيحُ بأصل ترتيبِ الكلام، وعدمِ الحُكم بالتقديم والتأخيرِ إلا لعلَّةٍ توجبُ ذلك:

- ‌6 - الترجيحُ برَسْمِ المصحف:

- ‌7 - الترجيحُ بعَوْدِ اسم الإشارة المُفرَدِ إلى أقربِ مذكورٍ، كالضمير:

- ‌8 - الترجيحُ باتِّساق الضمائر، وعَوْدِها على المذكور الأوَّل:

- ‌رابعاً: اختلافُ المعاني بسبب اختلاف القراءة:

- ‌ فهرسُ الفوائد العلمية:

الفصل: ‌ ‌سورةُ الفَجر آياتها:30

‌سورةُ الفَجر

آياتها:30

ص: 135

سورة الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

ص: 136

سورةُ الفَجر

1 -

قولُه تعالى: {وَالْفَجْرِ} : يقسِمُ ربُّنا بالفجرِ الذي هو أوَّلُ النهَار (1).

2 -

قولُه تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} : ويقسمُ ربُّنا بليالٍ عِدَّتها عشرٌ، وهي ليالي عشرٍ من ذي الحِجَّة (2).

(1) وردَ خلافٌ بين السَّلَفِ في هذا القَسَمِ على أقوال:

الأول: فجرُ الصُّبح، وهو قول عكرمة من طريق عاصم الأحول، وذكره ابن كثير عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي.

الثاني: النَّهار، ورد عن ابن عباس من طريق أبي نصر.

الثالث: صلاة الفجر، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي.

والمشهورُ من اللفظِ أنه يُطلَقُ على أول النهار، وقد يكون ذكر صلاة الفجر مُراداً به ذكر أفضلِ عملٍ يتضمنه الفجر، لا تفسير معنى الفجر، والله أعلم. وأما الرواية عن ابن عباس من طريق أبي نصر فهي غريبة، ويحتملُ أنه قابلَ القَسَم بالليل بالقسمِ بالنهار على سبيل التوسُّع في إطلاق اللفظ لا على التفسير بالمطابق، والله أعلم.

(2)

وردَ تفسيرها بهذا عن ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى والعوفي وأبي نصر، وابن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، ومسروق من طريق أبي إسحاق، وعكرمة من طريق عاصم الأحول، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.

قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك عندنا: أنها عشرُ ذي الحجة؛ لإجماع الحجَّة من أهلِ التأويل عليه، وأنَّ عبدَ الله بن أبي زياد القطواني، حدثني قال: ثني زيد بن حباب، قال أخبرني عياش بن عقبة، قال: ثني جبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، قال: عشرُ الأضحى» .

ص: 137

3 -

قولُه تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} : ويقسمُ ربُّنا بما هو شَفْعٌ، وما هو وَتْرٌ؛ كالعاشر من ذي الحِجَّة: يوم النَّحر، والتاسعِ من ذي الحِجَّة: يوم عَرَفَة (1).

4 -

قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} : ويقسمُ ربُّنا باللَّيلِ إذا ذهبَ وسَار (2).

5 -

قولُه تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ} : يقولُ تعالى: هل فيما أقسمتُ به من هذه الأمورِ مَقْنَعٌ لصاحبِ عقل (3)؟، والمعنى: إنَّ هذه

(1) وقعَ خلافٌ في المراد بالشفع والوتر عند السلف على أقوال، منها:

الأول: الشفعُ يوم النحر، والوترُ يوم عَرَفَة، وهو قول ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى وعكرمة، وعكرمة من طريق عبيد الله وعاصم الأحول وسعيد الثوري وقتادة، والضحاك من طريق أبي سنان وعبيد.

الثاني: الشفع: الخَلْق، والوتر: الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وابن جريج وأبي يحيى وجابر، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد.

الثالث: الصلاةُ المكتوبةُ منها شفعٌ ومنها وتر، وهو قول عمران بن حصين من طريق قتادة، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر.

وقيل غير ذلك، قال الطبري:«والصوابُ من القول أن يقال: إن الله تعالى ذِكْرُهُ أقسمَ بالشفع والوتر، ولم يخصِّص نوعاً من الشفع ولا من الوتر دونَ نوعٍ بخبرٍ ولا عقل، وكل شفع ووتر فهو مما أقسمَ به مما قال أهل التأويل أنه داخِلٌ في قَسَمِهِ هذا، لعموم قَسَمِهِ بذلك» .

(2)

كذا ورد عن عبد الله بن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، وابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق أبي يحيى، وأبي العالية من طريق الربيع بن أنس، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد، وقال عكرمة:«ليلة جمع» ؛ يعني: ليلة مزدلفة، وهذا يُحمَل على التمثيلِ بليلةٍ شريفةٍ، وإلا فالخبرُ عامٌ في كل ليلة، وليس فيه ما يدلَّ على التخصيص، ولذا حملَها الجمهور على العموم، والله أعلم.

(3)

كذا فسَّر السلف ذلك: ابن عباس من طريق أبي ظبيان والعوفي وعلي بن أبي طلحة وأبي نصر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى وهلال بن خباب، والحسن من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.

ص: 138

الأقسامَ فيها مُكْتَفَى لمن له عقلٌ يتدبَّرُ به ويتفكَّر، فيعقِلُ عن ربه أوامرَه ونواهيه.

وجوابُ القَسَمِ محذوف، وتقديرُه لتُجازُنَّ بأعمالِكم.

6 -

8 - قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} : ألم تَنْظُرْ يا محمد صلى الله عليه وسلم بعينِ قلبِكَ إلى ما فعلَ الله بقبيلةِ عادِ إرَم (1) ذاتِ البيوتِ التي يقومُ بناؤها على الأعمِدَة؛ كالخيام أو غيرها (2)؟، وفي هذا إشارة إلى ارتفاع بنائِهِم وقوَّتِه، مما يدلُّ

(1) وردَ ذلك عن قتادة من طريق معمر، قال:«قبيلةٌ من عاد، كان يقالُ لهم إرم: جدُّ عاد» ، وكذا ورد عن ابن إسحاق. وقد وردَ عن بعض السلف تفسير إرم بأنها مدينتهم، فعن محمد بن كعب القرظي: الإسكندرية، وعن المقبري: دمشق. وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح تفسير إرم بالقديمة، وعنه من طريق أبي يحيى: أمَّة، وفسَّرها ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد بالهالك.

قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنَّ إرمَ إما بلدة كانت عاد تسكُنُها، فلذلك رُدَّت على عاد للاتباع لها، ولم يُجَر [يعني: يُنَوَّن] من أجل ذلك، وأما اسم قبيلة، فلم يُجَر أيضاً كما لا تُجْرَى أسماء القبائل، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وأما اسم عاد فلم يجر، إذ كان اسماً أعجمياً.

فأما ما ذُكر عن مجاهد أنه قال: القديمة، فقولٌ لا معنى له، لأن ذلك لو كان معناه، لكان مخفوضاً بالتنوين، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعتٍ ولا صفة.

وأشبهُ الأقوالِ فيه بالصواب عندي: أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عادٍ إليها وتركِ إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميمِ نهشل؟ فيُترك إجراء نهشل، وهي قبيلة، فَتُرِكَ إجراؤها لذلك، وهي في موضعِ خفضٍ بالردِّ على تميم، ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جدٍّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمرو زبيد، وحاتم طيِّء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى، كما قال قتادة، والله أعلم، فلذلك أجمعت القُرّاء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء».

(2)

ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «أهل عمود لا يقيمون» ، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، وقال ابن زيد:«عاد قوم هود بنوها وعملوها حين كانوا بالأحقاف» .

وقال الضحاك من طريق عبيد: «يعني: الشدة والقوة» .

قال ابن جرير الطبري: «وأشبه الأقوال في ذلك بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيل، قول من =

ص: 139

على قوَّتِهم، ولذا قال: التي لم يُخلقْ في بلادِ الله التي حولَهم مثلهم في القوَّة والشدَّة؛ كما قال الله فيهم: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا} [الأعراف: 69]، وقال:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130].

9 -

قولُه تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} ؛ أي: وكيف فعلَ بثمود قوم النبي صالح عليه السلام الذين شقُّوا الجبال (1) التي في واديهم فنحَتوا منها البيوت؟؛ كما قال الله عنهم: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 28].

10 -

قولُه تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} ؛ أي: وألم ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بفِرعون مصرَ صاحبِ الأوتاد؟، وهي أخشابٌ أو حديدٌ يُثَبِّتُهَا في الأرض، كان يعذِّب بها الناس، أو هي الملاعبُ التي صُنِعَتْ له منها (2).

= قال: عنَى بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة؛ لأن المعروف في كلام العرب من العِماد: ما عمل به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء، ولا يُعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح، بل وجَّهَ أهلُ التأويل قوله:{ذَاتِ الْعِمَادِ} إلى أنه عُني به طولُ أجسامِهِم، وبعضهم إلى أنه عُني به عمادُ خيامِهم، فأما عمادُ البُنيان، فلا يُعلمُ كثيرُ أحدٍ من أهلِ التأويل وجَّهه إليه، وتأويلُ القرآنِ إنما يوجَّه إلى الأغلب من معانيه ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل دون الأنكر».

(1)

ورد عن السلف اختلافُ عِبارة في تفسير هذه اللفظة، فعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة:«خرقوها» ، ومن طريق العوفي:«ينحتون من الجبال» ، وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد، وورد عنه من طريق معمر:«نقبوا الصَّخر» ، وعن الضحاك من طريق عبيد:«قَدّوا الصخر» ، وهذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، فهي عباراتٌ متقاربةُ المعنى لبيانِ معنى الجَوْب، وورد عن ابن زيد تفسيره: ضربوا البيوتَ والمساكنَ في الصخر في الجبال، حتى جعلوها مساكن»، وهذا ليس تفسيراً مطابقاً لمعنى الجَوْب، وإنما هو تفسير على المعنى، والله أعلم.

(2)

اختلفَ السلفُ في تفسير الأوتاد على أقوال:

الأول: الجنود، وهو قولُ ابن عباس من طريق العوفي.

الثاني: الحبالُ التي كان يُوتِدُ بها الناس فيعذِّبهم، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي =

ص: 140

11 -

14 - قولُه تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ *فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ؛ أي: عادٌ وثمود وفرعون الذين تجاوزوا ما أباحَ الله، وكفروا به في البلاد التي كانوا يسكُنونها. فأكثروا في هذه البلادِ المعمورةِ المعاصيَ وركوبَ ما حرَّم الله. فأنزلَ الله عليهم عذابَهُ ونقمَتَه. والله يرقُبُ أعمالَ هؤلاء الكافرين الذين أنزلَ بهم عقوبته، وهو بالمِرْصادِ لكلِّ الكافرين فلا يفلت منهم أحدٌ.

15 -

16 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} : لما ذكرَ الله أنه أوقعَ العذابَ بهذه الأممِ الكافرةِ التي كانت في مَنَعَةٍ وقوَّة، نبَّهَ على اعتقادٍ خاطئٍ عند الناس، وهو أن التوسِعَةَ على العبد في الرِّزق دليلٌ على تكريمِ اللَّهِ له، وأن التضييقَ عليه في الرزق دليلٌ على غضبِ الله عليه، وهذا المفهومُ مما يقعُ فيه الإنسانُ الكافر (1) الذي إذا امتحَنَه رَبُّه المنعِمُ عليه، فأنعمَ عليه بالمال، ووسَّعَ عليه، فَرِحَ وجعلَ هذا دليلاً على رضا الله

= نجيح، وأبي رافع، وسعيد بن جبير من طريق محمود، وعنه من طريق رجل مجهول:«منارات يعذبهم عليها» .

الثالث: مَظَالٌّ وملاعبُ يلعبُ تحتها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد.

قال الطبري: «وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: الأوتاد التي تُوتَد من خشبٍ كانت أو حديد؛ لأن ذلك المعروف من معاني الأوتاد، ووُصِفَ بذلك لأنه: إما أن يكونَ كان يعذِّب الناس بها، كما قال أبو رافع وسعيد بن جبير، وإما أن يكونَ كان يلعبُ بها» .

ويظهر أن مرجِعَ الخلافِ الاحتمال اللغوي في لفظ الأوتاد، فهو يُطلق على هذه المذكورة، غير أن أشهرَ إطلاقاتِها ما رجَّحه الطبري، والله أعلم.

(1)

هذا بالنظر إلى أن لفظَ الإنسانِ في القرآن المكيِّ للكافر، ولكن يدخلُ معه من ضَعُفَ إيمانه من المسلمين، واعتقدَ هذا المُعْتَقَدَ، وكذا كلُّ وَصْفٍ اتَّصَفَ به الكافر، فإن من تشبَّه به من المسلمين فإنه يدخل في خطابه، قال ابن عطية:«ومن حيث كان هذا غالباً على الكفار جاء التوبيخُ في هذه الآية باسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيءٍ من هذا المَنْزَعِ» . والله أعلم.

ص: 141

عنه، ومحبتِه له، وأما إذا ما امتحنه فضيَّق عليه في الإنعام، وجعله فقيراً، فإنه يجعلُ ذلك دليلاً على إذلالِ الله له، وعدم محبَّته له.

17 -

20 - قولُه تعالى: {كَلَاّ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *ولَا تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ *وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا *وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ؛ أي: ليس الأمرُ كما يعتقدُ هذا الكافرِ في دليل إكرامِ الله وإهانته (1)، ولكنَّكم لا تنفعونَ من ماتَ عنه أبوه وهو دون سِنِّ البلوغ، فتُنعِمون عليه بإعطائه مما أعطاكم الله، ولا يَحُثُّ بعضُكم بعضاً على إعطاء الطعام لمن أصابته الفاقة والمسْكَنة، وأنتم تأخذونَ ما يرِثُه مع ما ترِثونَه أخذاً بالباطل، فتأكُلونه جميعاً (2)، وتحرِصونَ على جمع المال وتحبُّونَهُ حُبًّا كثيراً شديداً.

(1) قال قتادة: «ما أسرعَ ما كفرَ ابن آدم، يقول الله جل ثناؤه: كلا أنا لا أُكْرِمُ من أَكْرَمْتُ بكثرة الدنيا، ولا أهينُ من أهنتُ بقِلَّتِها، ولكن إنما أُكرمُ من أَكرَمتُ بطاعتي، وأُهينُ من أهنتُ بمعصيتي» . وقد ذكر الطبري قولاً آخر، ثم قال:«وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرنا عن قتادة لدلالة قوله: {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} والآياتِ التي بعدها على أنه إنما أهانَ من أهانَ بأنه لا يُكرِمُ اليتيمَ، ولا يحضُّ على طعام المسكين، وفي إبانته عن السبب الذي من أجلِه أهانَ من أهان الدلالةُ الواضحةُ على سببِ تكريمِه من أَكرمَ، وفي تبيينه ذلك عَقيبَ قوله: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بيانٌ واضحٌ عن الذي أنكرَ من قوله ما وصفنا» .

(2)

التُّراث: الميراث، قاله الحسن من طريق أشعث، وقتادة من طريق سعيد. وفي معنى الأكلِ اللَّمِّ عبارات عن السلف: فعن ابن عباس من طريق العوفي، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد:«تأكلون أكلاً شديداً» .

وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «يقول: سَفَّا» .

وعن الحسن من طريق يونس: «نصيبه ونصيب صاحبه» .

وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «اللَّمُّ، السَّفُّ، لف كل شيء» .

وقال ابن زيد: «الأكل اللَّمُّ: الذي يأكلُ كلَّ شيءٍ يجِده ولا يسأل، فأكلَ الذي له والذي لصاحبه، كانوا لا يرثون النساء، ولا يرثون الصغار، وقرأ:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَاّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} ؛ [النساء: 127] أي: لا تورثونهن أيضاً، =

ص: 142

21 -

23 - قولُه تعالى: {كَلَاّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} : ليس الأمرُ كما تتعاملونَ به في هذه الأعمالِ المذكورة، ثم أخبرَ عن أسَفِهِم على هذه الأعمالِ القبيحةِ إذا دُكَّتِ الأرضُ دكًّا دكًّا وما بعدَها من الأهوال، فإنهم يتذكرونَ حين لا ينفعهم التذكُّر، فقال:{إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} ؛ أي: حُطِّمَتِ الأرضُ وضُرِبَ بعضُها ببعض، وجاء الربُّ سبحانَه مجيئاً يليقُ بجلاله وعَظَمَتِه، وملائكته في هذه الحال يقفونَ صفوفاً تعظيماً له، وجاءت ملائكةُ العذاب يومَ أنْ دُكَّتِ الأرضُ وجاء الربُّ، جاءوا بجهنَّمَ يجرُّونها لها سبعونَ ألفَ زِمام، لكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها، فعند ذلك يتَّعِظُ الإنسان ويتنبَّه إلى ما كان عليه من الضلال، ولكن لا ينفعه هذا التذكُّر والاتِّعاظ؛ فكيف تنفعُه الذكرى وهي ليست في وقتها؟.

24 -

قولُه تعالى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ؛ أي: لما عاين هذا الإنسان المفرط هذه الأمور، يقول متمنِّياً: يا ليتني قدَّمتُ عملاً صالحاً لحياتي الآخرةِ الباقيةِ التي لا موتَ بعدَها.

25 -

26 - قولُه تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ *وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ؛ أي: ففي هذا اليومِ لا أحدَ يُعذِّب في الدنيا كعذابِ الله للكافر، ولا أحدَ يُقَيِّد بالرباط في الدنيا كتقييدِ الله للكافر (1)، وهذا لشدَّة عذابِهم.

= {أَكْلاً لَمًّا} : يأكلُ ميراثَه وكلَّ شيء، لا يسأل عنه، ولا يدري أحلالٌ أو حرام؟».

وهذا تفسيرٌ جامعٌ لمعنى هذه الآية، وعبَّر بكر المزني عن ذلك بأخصَرِ من هذا فقال:«اللَّمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراثَ غيره» . والله أعلم.

(1)

قال الحسن من طريق معمر: «قد عَلِم الله أنَّ في الدنيا عذاباً ووِثاقاً، فقال: فيومئذ لا يعذِّب عذابه أحدٌ في الدنيا، ولا يوثِقُ وَثاقه أحدٌ في الدنيا» .

وقد قُرئَ بفتح الذال والثاء من «يعذَّب» و «يوثَق» ، والمعنى: فيومئذ لا يعذَّب أحدٌ في الدنيا كعذاب الكافر، ولا يوثَقُ أحدٌ في الدنيا كوِثاق الكافر. والله أعلم.

ص: 143

27 -

30 - قولُه تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي} ؛ أي: تُنادى هذه النفوسُ التي هدأَت وسَكَنَت إلى وَعْدِ الله لها (1): ارجعي إلى خالقِكِ (2) راضيةً بما قَسَمَ اللَّهُ لك، مرضيًّا عنكِ من الله، فادخلي في عبادي الصالحين (3)؛ كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9]، وادخُلي في جنَّتي التي وعدتُّكِ بها في الآخرة، والله أعلم.

(1) ورد عن السلف تعابير عن معنى النفس المطمئنَّة، ومنها: قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «المصدِّقة» ، وعن قتادة من طريق سعيد:«هو المؤمنُ اطمأنت نفسه إلى ما وعدَ الله» ، وعنه وعن الحسن من طريق معمر:«المطمئِنَّة إلى ما قال الله، والمصدِّقة بما قال» ، وعن مجاهد من طريق منصور:«النفس التي أيقنت أنَّ الله ربَها، وضرَبت جأشاً لأمره وطاعته» ، وعنه من طريق ابن أبي نجيح:«الْمُخْبِتَة والمطمئِنَّة إلى الله» . وهذه أوصافٌ تصدُقُ على النفس المطمئنة.

وقد وردَ عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة: أنها تُقالُ للمؤمن عند خروج روحِه، ويشهدُ لهذا ما وردَ في حديث البراء بن عازب في خروج روحِ المؤمن أنه يقال له: اخرُجي راضيةً مرضيّاً عنك. والله أعلم.

(2)

وردَ عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وعكرمة من طريق سليمان بن المعتمر: أن الربَّ هنا صاحبُ النفس، والمعنى: ارجعي إلى جَسَدِ صاحبِك. قال ابن كثير: «واختاره ابن جرير، وهو غريب، والظاهر الأول؛ لقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر: 43]؛ أي: إلى حُكمه والوقوفِ بين يديه» .

(3)

وردَ ذلك عن قتادة من طريق سعيد، وفسَّرها محمد بن مزاحم:«في طاعتي» ، وهذا تفسيرٌ غريب، وورد عن ابن عباس أنه كان يقرؤها «في عبدي» ، قال الكَلْبي:«الروحُ ترجِعُ إلى الجسد» . قال الطبري: «والصوابُ من القراءة في ذلك: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} بمعنى: فادخُلي في عبادي الصالحين؛ لإجماع الحجَّة من القرّاء عليه» .

ص: 144