الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على تمامِه إذا لم تَعْلَمْ معنى {الْمُعْصِرَاتِ} ، ومعنى {ثَجَّاجًا} ، فإذا عَلِمْتَ أنَّ {الْمُعْصِرَاتِ} هي السَّحاب، وأنَّ {مَاءً ثَجَّاجًا} هو الماءُ المُنْصَبُّ بكثرةٍ وغزارةٍ، اتَّضَحَ لك المعنى العام للآية، وصارَ بيانها: وأنزلنا من السَّحاب ماءً مُنْصَبًّا بكثرةٍ وغزارة، وهو ماءُ المطر.
ومن الأمثلةِ التي لا ينطبق عليها ضابطُ البيان، تفسير قوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، قال الطاهر بن عاشور:«وتقديمُ خبرِ (كان) على اسمها؛ للرعاية على الفاصلة، وللاهتمام بذكرِ الكفؤ عَقِبَ الفعل المنفي؛ ليكونَ أسبقَ إلى السمع» (1).
ذكرَ الطاهر بن عاشور فائدتين من تقديم خبر كان، وهاتان الفائدتانِ من علوم التفسير، لا من صُلبه؛ لأنك لو لم تَعْلَمْهُما، فإنه لا يخفى عليك المعنى المراد بالآية، وهو التفسير، وإن كان في ذِكرهما فائدة.
وقِسْ على هذا كثيراً من مسائلِ النَّحْوِ، والفقهِ، والبلاغةِ، وغيرها ممَّا يَتَفَنَّنُ بذِكره من ألَّف في التفسير، فإنه إنَّما زادت المؤلَّفات وتنوَّعت بسبب الاهتمام بعلوم التفسير، لا بصُلبه، ولو اعتنى المفسِّرون بصلبه فقط، لتقاربت مناهجهم، وإنما تمايزت بسبب إدخالهم هذه العلوم التي قد تُبْعِدُ طالبَ التفسير عنه، بل قد تُزهِّده بصُلبه، وهو لا يدري أنه هو المراد الأول، والمَطْلَبُ الأمثل لدارسِ التفسير، وأنَّ هذه الفوائد إنما تُبنى على صِحَّةِ التفسير، فإذا كان الفهمُ خطأً، كانت الفوائدُ المترتبةُ عليه أخطاءً كذلك، فلا تَغْفَلْ عن هذا المعنى، وتأمَّلْهُ، وقَلِّبْهُ في فِكرك لتتبيَّن صِحَّته من خطئِه، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه:
التفسير: إمَّا أن يكون مُجْمَعاً عليه، وإمَّا أن يكون مختلَفاً فيه. وإمَّا
(1) التحرير والتنوير: 30: 620.
أن يكون متعلِّقاً بتفسير الألفاظ، وإمَّا أن يكون متعلقاً بالمعاني.
والاختلافُ الوارد في التفسير: إمَّا أن يرجِع إلى معنى، وإما أن يرجِع إلى أكثر من معنى، وهذا ما سأذكرُ تفصيلَهُ.
أولاً: الاختلاف الذي يرجِع إلى معنًى واحدٍ:
يَرِدُ في هذا القسم ثلاثةُ أنواعٍ من الاختلاف، وهي:
النوع الأول: أن يُذكرَ من الاسم العامِّ أمثلةٌ له، فتكونُ كلُّها عائدةً إلى معنًى واحدٍ، وهو المعنى العام، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 5]، وقوله تعالى:{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، وقوله تعالى:{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، وقوله تعالى:{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]، وقوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، وغيرها.
النوع الثاني: أن يفسَّرَ اللفظُ بألفاظٍ متقاربة، وكلها تعودُ إلى معنًى واحد، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17]، وقوله تعالى:{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18]، وغيرها.
النوع الثالث: أن يحتملَ المفسَّرُ أكثرَ من وصف، فيذكُرُ كل مفسِّرٍ وصفاً من هذه الأوصاف، كلّها تعودُ إلى معنًى واحد، مثل تفسير قوله تعالى:{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2]، وتفسير قوله تعالى:{وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34]، وقوله تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] وغيرها.
وهذه الأنواعُ كلها تدخلُ في اختلاف التنوُّعِ؛ لأنَّ الآيةَ يمكنُ أن تُحْمَلَ على جميع المعاني الصحيحةِ الواردةِ فيها بلا تعارُضٍ ولا تناقُض. وإن قُدِّم أحدها في الترجيح، فعلى سبيل اختيارِ القولِ الأوْلى، دونَ اطِّراحِ غيرِها من الأقوال، والله أعلم.
ثانياً: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى أكثرَ من معنى:
وهذا الاختلافُ نوعان، وذلك بحسب احتمالِ الآية له.
النوع الأول: أن تحتملَ الآية الأقوالَ الواردةَ فيها، ويدخلُ بذلك في اختلاف التنوُّع، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]، وقوله تعالى:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]، وغيرها.
ويكثرُ في هذا النوع ما يَرِدُ من أوصافٍ تحتملُ أكثرَ من موصوف، فيحملُها المفسِّر على أحدِ هذه الموصوفات، ويحملُها غيره على موصوفٍ آخَر، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38]، وقوله تعالى:{وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات: 1]، وما بعدها من الأوصاف، وقوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15]، وغيرها.
النوع الثاني: أن لا تحتملَ الآيةُ الأقوالَ الواردةَ فيها، وذلك بسببِ التضادِّ، وهو أنك إذا حملتَ الآيةَ على قولٍ انتفى الآخَر؛ كاختلافهم في تفسير (القُرْءِ) من قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، وهذا النوع قليلٌ في التفسير الواردِ عند السلف.
ويلاحَظُ أنَّ بعضَ التضادِّ يمكن أن تحتملَهُ الآية لسبب خاصٍّ بها، ومن ذلك تفسير قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، حيث فُسِّرَ بـ «أقْبَلَ» ، و «أدْبَرَ» ، وهما معنيان متضادَّان، لكن لمَّا كان محلُّ الإقبالِ ـ وهو أولُ الليل ـ والإدبار ـ وهو آخر الليل ـ مختلفاً، جاز حملُ الآية على المعنيين معاً؛ ليكونَ الإقسام بأول الليلِ وآخِرِه.
ومنه تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]، فقد وردَ في تفسيرها: امتلأت، ويَبِسَتْ، وهما من معاني التَسْجيرِ في اللغة، ولكنَّهما ضِدَّان، فإذا حملتَهُما على اختلافِ الزمنِ الحاصلِ فيه هذا الفعلُ، وجعلتَ الفعلَ دالًّا على هذين الحالين، صحَّ حملُ الآيةِ عليهما معاً، لهذا السبب، والله أعلم.
أما أسبابُ الاختلافِ في التفسير فكثيرة، ويلاحَظُ أنَّ أنواعَ الاختلافِ
السابقةِ في حقيقتِها أسباب اختلاف، كما يلاحظُ أن أسبابَ الاختلافِ كأنواعِه، منها ما هو اختلافٌ مُحَقَّق، ومنها ما الاختلافُ فيه أشبه بالصُّوَري؛ لائْتلاف الأقوالِ في النهاية على قولٍ واحدٍ، ولذا سأذكرُ بعضها في الأسباب، ومنها:
1 -
الاشتراكُ اللغوي، وهو أن يكونَ للَّفْظِ أكثر من معنى في لغةِ العرب، ومنه تفسير قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ: 14]، وقوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} [النبأ: 24]، وقوله تعالى:{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25]، وغيرها.
2 -
التواطُؤ، وهو أن يَشترِكَ الأفرادُ في المسمَّى اشتراكاً متساوياً، فنسبةُ أحدِهم إلى المسمَّى كنسبةِ الآخَر، ويشملُ التواطؤ الأوصاف التي تحتملُ أكثرَ من وصفٍ؛ كالنَّازعات، والخُنَّس، والغاشية، والفجر، والعادِيات، وغيرها.
كما يشمل الضمير الذي يحتملُ رجوعَهُ إلى أكثرِ من مرجع؛ كما في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، فقيل: ملاقٍ ربَّك، وقيل: ملاقٍ عمَلك، وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، قيل: إن الإنسان
…
، وقيل: إن ربَّه
…
، وغيرها من الأمثلة.
3 -
التفسيرُ بالمِثال، والاختلافُ فيه يعودُ إلى قولٍ واحدٍ، وإنما وردَ الاختلافُ بينهم بسببِ أنهم عمدوا إلى ذكرِ أمثلةٍ للمعنى العام؛ كتفسيرهم قولَ اللَّهِ تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وقوله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، والله أعلم.
4 -
أن يكونَ تفسيرُ المفسِّرِ على اللفظ، ويكونَ تفسيرُ غيره على المعنى أو القياس، وهذه هي الأصول التي يعود إليها التفسير:
أما التفسيرُ على اللَّفظ، فهو تفسيرُ اللَّفظ بما وردَ في لغةِ العرب.
وأما التفسيرُ على المعنى، فهو ما كان خارجاً عن المعنى المطابقِ للَّفظِ في لغة العرب، مبيِّناً للمعنى المرادِ من اللَّفظ في الآية، ولم يكن من باب القياس؛ كتفسير قتادة لقوله تعالى:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]، قال: يوم يُشتهى الطعام، والمَسْغَبة: المجاعة، فعبَّر عنها بهذا التعبير، وهو أعمُّ من يوم المجاعة؛ لأن الطعامَ يُشتهى في كلِّ وقتٍ، لكنه في يوم المجاعةِ أكثر.
وكذا تفسيره لقوله تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَاّهَا} [الشمس: 3]، قال: إذا غَشِيَها، والتَّجْلِية: الإظهارُ والإيضاح، فإذا جلَاّها النهار، فقد غَشِيَها، فيكون تعبيراً عن لازمِ اللفظ، لا عن معناه في اللغة، والله أعلم.
وأما التفسيرُ على القِياس، فهو حملُ الآيةِ على ما يشابهها في المعنى، أو تدلُّ عليه بدلالةِ الإشارة؛ كتفسيرِ سورة النصر بأنها قُرْبُ أجلِ الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبَّاسٍ: «كان عمرُ يُدْخِلُني مع أشياخِ بدرٍ، فكأنَّ بعضَهم وَجَدَ في نفسه، فقال: لم تُدْخِل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثلُه؟ فقال عمر: إنه من حيث عَلِمْتُم، فدعا ذاتَ يوم، فأدخلني معهم، فما رُئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليُرِيَهُم.
قال: ما تقولونَ في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟ فقال بعضُهم: أمَرَنا نحمدُ اللَّهَ ونستغفرَه إذا نَصَرنا وفتحَ علينا، وسكتَ بعضهم فلم يقُل شيئاً.
فقال لي: أكذاكَ يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَهُ له، قال: إذا جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتحِ، وذلك علامةُ أجَلِكَ، فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفِره إنه كان توَّاباً.
فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما تقول».
وأسبابُ الاختلافِ غير هذه كثيرة، وإنما أشرتُ هنا إلى بعضِها، والله أعلم.