المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سُورةُ النَّبأ آياتها:40 - تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدِّمة

- ‌المسألة الأولى: مفهوم التفسير:

- ‌المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه:

- ‌المسألة الثالثة: طبقاتُ السَّلف في التفسير:

- ‌المسألة الرابعة: تفسير السلف للمُفردات:

- ‌سُورةُ النَّبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورةُ الإنفِطار

- ‌سورةُ المطِّففين

- ‌سورةُ الإنشِقاق

- ‌سورةُ البُروج

- ‌سورةُ الطَّارِق

- ‌سورةُ الأعلَى

- ‌سورةُ الغَاشية

- ‌سورةُ الفَجر

- ‌سورةُ البَلَد

- ‌سورةُ الشَّمس

- ‌سورةُ اللَّيل

- ‌سورةُ الضُّحى

- ‌سورةُ الشَّرح

- ‌سورةُ الِّتين

- ‌سورةُ العَلَق

- ‌سورةُ القَدر

- ‌سورةُ البِّينة

- ‌سورةُ الزَلْزَلة

- ‌سورةُ العادِيات

- ‌سورةُ القَارِعة

- ‌سورةُ التكاثُر

- ‌سورةُ العَصْر

- ‌سورةُ الهُمَزَة

- ‌سورةُ الفِيل

- ‌سورةُ قُريش

- ‌سورةُ الماعون

- ‌سورةُ الكَوْثَر

- ‌سورةُ الكافِرون

- ‌سورةُ النَّصر

- ‌سورةُ المَسَد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

- ‌فهرس

- ‌أولاً: فهرس اختلاف التنوع:

- ‌القسمُ الأول: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى معنًى واحد:

- ‌القسمُ الثاني: الاختلافُ الذي يرجع إلى أكثرِ من معنى

- ‌ثانياً: أسبابُ الاختلاف:

- ‌1 - الاختلافُ بسبب التواطؤ:

- ‌2 - الاختلافُ بسبب ذكرِ وصفٍ لموصوفٍ محذوف:

- ‌3 - الاختلافُ بسبب الاشتراكِ اللُّغوي:

- ‌4 - الاختلافُ بسبب الحذف:

- ‌5 - الاختلافُ بسبب مفسّر الضمير:

- ‌6 - الحملُ على المعنى اللغوي، والحملُ على المعنى الشرعي:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح:

- ‌1 - الترجيحُ بالأغلب، أو المشهور من لغة العرب:

- ‌2 - الترجيحُ بقول الجُمهور (وقد يسميه عليه الطبري: إجماع الحجة):

- ‌3 - الترجيحُ بدلالة السنَّة النبوية:

- ‌4 - الترجيحُ بدلالة السِّياق:

- ‌5 - الترجيحُ بأصل ترتيبِ الكلام، وعدمِ الحُكم بالتقديم والتأخيرِ إلا لعلَّةٍ توجبُ ذلك:

- ‌6 - الترجيحُ برَسْمِ المصحف:

- ‌7 - الترجيحُ بعَوْدِ اسم الإشارة المُفرَدِ إلى أقربِ مذكورٍ، كالضمير:

- ‌8 - الترجيحُ باتِّساق الضمائر، وعَوْدِها على المذكور الأوَّل:

- ‌رابعاً: اختلافُ المعاني بسبب اختلاف القراءة:

- ‌ فهرسُ الفوائد العلمية:

الفصل: ‌ ‌سُورةُ النَّبأ آياتها:40

‌سُورةُ النَّبأ

آياتها:40

ص: 19

سورة النبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

ص: 20

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورةُ النَّبأ

1 -

قولُه تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؛ أي: عن أيِّ شيءٍ يسألُ كفَّارُ مكَّةَ بعضُهم بعضاً.

2 -

قولُه تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ؛ أي: يتساءلونَ عن الخبرِ العظيمِ الذي استَطارَ أمرُهُ بينهم، وهو القرآن، ويُحتملُ أن يكونَ البعث (1).

3 -

قولُه تعالى: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ؛ أي: صاروا فيه فِرَقاً في حقيقةِ هذا النبأ وصِحَّته (2).

4 -

5 - قولُه تعالى: {كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ} ؛ أي: ليس الأمرُ (3) كما يزعمُ هؤلاء المختلفونَ في النبأ، وسيعلمونَ عاقبةَ اختلافِهم

(1) يشهد لمن قال: القرآن، وهو مجاهد، أنَّ الاختلاف وقع فيه بين كفارِ مكة، فوصفوه بأنه شِعر، وكِهانة، وكَذِب، وغيرها، وهو أعمُّ من القول الثاني؛ لأنَّ البعثَ جزء من أخبار القرآن الذي وقع فيه الاختلاف.

أمَّا من قال: هو البعث، وهو قولُ قتادة وابن زيد، فلم يرد عنهم وقوع الاختلاف فيه، بل هم مُنكرون له، ولكن يشهد له موضوع السورة، إذ موضوعها في البعث، والله أعلم.

(2)

يلاحَظُ أنَّ اللَّهَ سبحانه لم ينصَّ على النبأ بعينه، وإنما اكتفى بذكر وصفه: بأنهم اختلفوا فيه، وهذا سببٌ في وقوع الخلاف، ولك أن تقول: إن سببَ الاختلاف التواطؤ، أو ذكر وصفٍ لموصوفٍ محذوف، وهذا من اختلاف التنوُّع الذي يرجِع إلى قولينِ، والله أعلم.

(3)

كذا فسَّر الطبري لفظَ «كلَاّ» ، وهو من أفضل التعبيرات عن معناها، وهي هنا بمعنى =

ص: 21

فيه (1)، وهذا وعيدٌ للمختلِفين في النبأ، وكرَّر الوعيدَ لتأكيدِه.

6 -

عدَّدَ اللَّهُ في هذه الآياتِ نِعَمَهُ الكونيةَ على النَّاسِ، التي لو تَفَكَّرَ فيها هؤلاءِ الكفَّار، لما وقعَ منهم اختلافٌ في النَّبأ العظيمِ الذي جاءَهم من عندِ الله، فقال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} ، وهو استفهامٌ على سبيل التقرير، معناه: أنَّ اللَّهَ جعلَ هذه الأرضَ البسيطةَ مهيَّئةً للناسِ كالمِهَادِ الذي يَمْتَهِدُونَه ويفْتَرِشونَه.

7 -

قولُه تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} ؛ أي: وجعلنا الجبالَ الرَّاسِياتِ كالوتِد الذي تُشدُّ به أطنابُ الخيْمة، فتُمْسِكُ الأرضَ كي لا تَميدَ بأهلها كما تُمسِكُ الأوتادُ الخيمةَ فلا تسقط.

8 -

قولُه تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ؛ أي: أنشأناكُم وقدَّرناكُم وجعلناكُم أيها الناس من ذكرٍ وأنثى.

9 -

قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} ؛ أي: جعلنا نومَكم راحةً ودَعَةً لكم، تهدأون به وتسكُنون (2).

10 -

قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} ؛ أي: جعلناه يغْشَاكم بظلامِه،

= الردّ، ويعبِّر عنه بعض العلماء بالرَّدْعِ والزَّجْرِ، وهي تكون كذلك إذا وقع قبلَها باطل أو خطأ من كلامٍ أو فعل، والله أعلم.

(1)

عبَّر بعض المفسِّرين عن ذلك أنهم سيعلمون حقيقة النبأ، وذلك القول أعمُّ، لأنهم إذا علِموا عاقبتهم فيه، فإنهم سيكونون قد علِموا حقيقته لزوماً، والله أعلم.

(2)

يذكرُ بعض المتأخرين ممن يحرِص على تكثير الاحتمالات اللغوية في معاني الآي أقوالاً خمسةً في معنى السُّبات، وهو تكثُّر لا داعي له؛ لأن أشهر المعاني في مادة سبت: الراحة، قال ابن فارس في مقاييس اللغة (3: 124): السين والباء والتاء أصل واحد يدل على راحة وسكون. أما تفسيره: بالموت، أو النوم، أو التمدد، أو القطع، فإنها وإن كانت صحيحة لغة، فإنها مما تَنْبُو عنها فصاحة القرآن في هذا الموضع، كما أن سياق الآية الوارد في مجال الامتنان يردُّها، والله أعلم.

ص: 22

فيكون لكم كاللباس الذي يَسْتُرُكم (1)، فتستريحونَ فيه بعد عَناء التَّقَلُّبِ في النهار.

11 -

قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} ؛ أي: جعلنا لكم النهارَ المبصرَ وقتاً للتعيُّشِ؛ أي: طلبُ المعاشِ الذي تقومُ به حياتكم.

12 -

قولُه تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} ، أي: رفعنا فوقكُم بناءً: سبعَ سماواتٍ مُحْكَمَةٍ قويةِ البُنيانِ، ليس فيها فُطورٌ ولا خَللٌ في الخَلْقِ.

13 -

قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} ؛ أي: جعلنا في السماء الشمسَ كالسِّراجِ المتَّقِدِ المضيء.

14 -

قولُه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} ؛ أي: أنزلنا من السَّحاب (2) مطراً غزيراً.

(1) قال قتادة: لباساً: سَكَناً، وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وكأنه اعتبر قوله تعالى:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام: 96]، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67]، وهو يؤول إلى معنى اللباس بالنظر إلى التغطية والستر فيهما، والله أعلم.

(2)

وردَ هذا عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن أبي العالية، والضحَّاك، والربيع بن أنس، وسفيان. وفسَّرها مجاهد وعكرمة وقتادة ومقاتل وابن زيد بأنها الرياح، وعليه فقوله:«من» يكون بمعنى الباء؛ أي: أنزلنا بالرياح، والصواب أنها السحاب، وعليه تبقى «من» على بابها، وهو أولى؛ لأنه إذا تعارض ظاهر الآية مع احتمال التأويل، قُدِّم الظاهر.

ويبقى أنه يستفاد من تفسير هؤلاء صحة إطلاق المُعْصِرات على الرياح من حيث اللغة، لورودِه عنهم، وإن لم تحتمله الآية.

وقد ورد عن الحسن وقتادة تفسير غريب، وهو أن المعصِرات: السماء، وهذا إن حُمل على التفسير على المعنى، كان له وجه، ويكون تفسيرهما على إرادة الجهة التي تأتي منها المعصِرات، لا أنه تفسير مطابق لمعنى المعصِرات؛ كما جاء في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، والله أعلم.

ويكون الاختلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى. وسبب الاختلاف =

ص: 23

15 -

قولُه تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} ؛ أي: أنزلنا المطرَ من السَّحاب لأجلِ أن نُخرجَ الحَبَّ، وهو شاملٌ لجميع الحبوب؛ كالقمحِ والشعير والأرز، وغيرِها، ونخرجَ النباتَ، وهو ما عدا الحبوب مما ينبتُ في الأرض؛ كالنخيل والرُّمَّان والأعناب، وغيرها.

16 -

قولُه تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (1)؛ أي: ونخرجُ بالمطرِ البساتينَ (2) التي التفَّت أغصانُ أشجارِها بعضُها على بعض (3).

17 -

قولُه تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ؛ أي: إنَّ يومَ القيامة كان موعداً مؤقتاً للجَمْع بين هذه الخلائق، ليفصِلَ اللَّهُ فيه بينها (4).

18 -

قولُه تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا} ؛ أي: يوم الفصل هو يوم ينفخُ إسرافيلُ عليه السلام النفخةَ الثانيةَ في البوق، فتجيئونَ أيها الناس زُمَراً زُمَراً، وجماعاتٍ جماعاتٍ (5).

= هنا أن المعصِرات وصف لموصوف محذوف، وهو محتمِل لأحد المعنيين المذكورين، ويترجح أحدهما بدلالة ظاهر الآية.

(1)

في هذه الآيات (6 - 16) أدلة على البعث، انظر في تفصيلها: تتمة أضواء البيان، لمحمد عطية سالم.

(2)

سُمِّيت البساتين جنَّات، لأنها تَجِنُّ من بداخلها؛ أي: تستره، وهذا هو أصل معنى هذه المادة في لغة العرب.

(3)

عبَّر بهذا ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد، وقتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد، وابن زيد، وسفيان. وجاء عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: مجتمعة، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من لازِمِ التفافها أن تكون مجتمعة.

(4)

أكَّد الخبر بـ «إن» لأنه مما كان يخالف فيه المشركون، وقد وقعت هذه الآية بعد قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا *لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ: 14 - 16]، للمشابهة التي بين خروج النبات وخروج الناس من قبورهم يوم البعث.

(5)

جاء الفعل «ينفخ» مبنياً للمفعول اهتماماً بالحدث، وهو النفخ في الصُّور، وطُوي ذكر قيامهم من قبورهم، وسَيْرهم إلى أرض المحشر تنبيهاً على سرعة هذا الحدث، وأن الفاصل بين البعث والإتيان يسيرٌ جداً، والله أعلم.

ص: 24

19 -

قولُه تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} ؛ أي: صارَ في السماء فُرُوجٌ على هيئة الأبواب، حتى أنَّ الناظرَ إليها يراها أبواباً مفتَّحة (1).

20 -

قولُه تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} ؛ أي: يجعل اللَّهُ هذه الجبالَ الأوتاد للأرض تسير، حتى تصلَ إلى مرحلةِ الهباءِ الذي يتطاير، فيحسَبُهُ الرائي جبلاً، وإذا هو كالسَّراب الذي يراه الرائي على أنه ماء، وهو ليس كذلك (2).

21 -

قولُه تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} ؛ أي: إنَّ نارَ جهنَّمَ كانت ذاتَ ارتقابٍ، ترقُبُ من يجتازُها وترصُدُهم (3).

(1) بُني الفعل «فُتحت» للمفعول للاهتمام بالحدث، وقرئ بتشديد التاء، وفيه مبالغة: إما لكَثرة الفتح، وإما لشدَّته. وجاء الفعل ماضياً، والحدث لم يقع بعد، لتأكُّد وقوعه وتحقُّقه، وفي هذا الحدث فساد لنظام هذا الجِرم العظيم، وهو إيذانٌ بنهاية هذا العالم الفاني.

وقد ورد هذا المعنى في غير ما آية؛ كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان: 25]، وقوله:{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقوله:{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16]، وقوله:{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].

(2)

بُني الفعل للمفعول للاهتمام بالحدث، وقد ذكر الله في هذه الآية حالين للجبال في هذا اليوم، وهما التسيير، وتحولها إلى هيئة السَّراب، وهي مرحلة الهباء والعِهْنِ الذي ذكره الله بقوله:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا *فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَثًّا} [الواقعة: 5 - 6]، وقوله:{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، وقوله:{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14]، وبين هذين الحالين أحوالٌ تمر بها في هذا اليوم؛ كالدَّكِّ، والنَّسف، والرَّجف، ذكرَها الله في مواضعَ من القرآن.

(3)

لما كان المقامُ مُقامَ وعيدٍ وتهديدٍ للمختلِفين في النبأ قُدِّم ذكرُ جهنم، التي هي اسمٌ من أسماء دار العذاب الأخروي، والمِرصاد: مكان الرصد والترقُّب، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الصراط الذي يوضع على متن جهنم، فيمرُّ الناس عليه، فتختَطِفُ النار بكَلالِيبها وخطاطيفها أهلها الذين حكمَ الله عليهم بدخولها، وقد أشار السلف في تفسير هذه الآية إلى المرور على النار؛ كالحسن، وقتادة، وسفيان الثوري.

ص: 25

22 -

قولُه تعالى: {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} ؛ أي: إنَّ جهنَّم للذين تجاوَزوا الحدَّ في العِصيان حتى بلغوا الكُفر، مرجِعٌ ومصيرٌ يَصيرون إليه ويَستقِّرون فيه.

23 -

قولُه تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ؛ أي: إنَّ هؤلاءِ الطاغينَ ماكِثونَ ومقيمونَ في النار أزماناً طويلةً تِلْوَ أزمانٍ لا انقطاعَ لها (1).

(1) ورد عن بعض السلف ـ كالحسن وقتادة والربيع بن أنس ـ تحديد مدة الحِقْب، ومع ذلك نبَّهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على الكافرين فلا تنتهي، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه الآية، وذلك أنه وإن كان للحِقْب مدة محدَّدة، لكن الله أطلق هذه الأحقاب فلم يقيِّدها بعدد، فصدَقَ عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها، كما لو قيل: لابثين فيها سنين، فهذا لا يمنع الخلود، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين، لكن لا حصر لها.

وفيه توجيه آخر ذكره الطبري، فقال: وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب، هو أنهم:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا *إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25]، فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه:{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 55 - 58]، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.

وقد ذكرَ الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا} [النبأ: 30]، ثم قال:«ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ في الأمر والنهي» .

ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف ـ وهو مطلقُ الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها، وهو أعمُّ من المصطلح الذي ذكره الطبري ـ لَما كان في الأمر إشكال، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبيِّن أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره.

ويظهر من هذا المثال وغيره أن الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمِل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرفَ مصطلحَ كل قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ، وأعظم ما يكون الخطأ إذا حُمِلَتْ ألفاظ القرآن والسنَّة على مصطلحات =

ص: 26

24 -

قولُه تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} ؛ أي: لا يحسُّون ولا يُطْعَمونَ فيها هواءً يُبَرِّدُ حَرَّ السعير عنهم (1)، ولا يشربون شيئاً يروي عطشهم الذي نتجَ عن هذا الحرِّ.

25 -

قولُه تعالى: {إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} ؛ أي: لا يذوقونَ البردَ والشرابَ، لكن يذوقونَ الماءَ الذي بلغَ النهايةَ في حرارته، وصديدَ أهل النار المنتِن الذي بلغ النهايةَ في بُرودَته (2).

= حادثةٍ مبتدَعة، فتقع بذلك الطَوَام، وتُحَرَّف نصوص الكتاب والسنة. انظر في ذلك: الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق: الدخيل الله (1: 189 - 192).

(1)

ذكر في معنى البَرد قول آخر، وهو أن يكون البرد النوم، وقال عنه الطبري: «وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب ـ يعني: أبا عبيدة معمر بن المثنى ـ أن البردَ في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام: لا يذوقون فيها نوماً ولا شراباً، واستشهد لقيلِه ذلك بقول الكِنْدي:

بردَت مراشِفُها عليَّ فصدَّني

عنها وعن قُبُلاتها البرد

يعني بالبرد: النُعاس.

والنوم، وإن كان يُبرد غَليلَ العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد، فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كلامِ الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره».

وقد نُسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي)، ومجاهد والسُّدي (تفسير الماوردي)، وهو قول يحتمله السياق، غير أنه غير مترجَّحٍ للسبب الذي ذكره الطبري، وإذا كان كذلك، فإن سببَ الاختلاف: الاشتراك اللغوي، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.

(2)

اختلفت عبارة السلف في تفسير الغسَّاق، فقال بعضهم: الغسَّاق: هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي، وعِكرمة، وأبي رزين، وإبراهيم النخعي، وابن زيد. وعن عبد الله بن بريدة أنه المنتِنُ بالطخارية [أي بلغة أهل طخارستان]. وقال بعضهم: الغسَّاق: الزمهرير، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد من طريق ليث، وعن أبي العالية، والربيع ابن أنس.

ومادة (غسق) فيها هذان المعنيان، أما الغَسق بمعنى البرد، فمنه غسَق الليل، سمي بذلك لبرودته. وأما الغسق بمعنى الصَّديد المنتن الذي يسيل من أهل النار، فمن قولهم غسق الجرح: إذا سال قَيْحه. وعلى هذا، فالتفسيران صحيحان، وجائز اجتماعهما في =

ص: 27

26 -

قولُه تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} ؛ أي: ثواباً موافِقاً لأعمالهم (1).

27 -

قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} ؛ أي: إنَّ هؤلاء الطاغينَ كانوا في الدنيا لا يخافونَ (2) أن يُجازيَهم أحدٌ على سُوء أعمالهم، فوقعتْ منهم هذه الأعمال التي جُوزوا عليها جزاءً وِفاقاً.

28 -

قولُه تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} ؛ أي: كذَّبوا تكذيباً شديداً، ولم يصدِّقوا بالقرآن وغيره من الآيات.

29 -

قولُه تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} ؛ أي: ضَبَطْنا وعدَدْنا عليهم كلَّ شيء عَمَلوه، فكتبناهُ وحفِظناهُ عليهم (3).

30 -

قولُه تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا} ؛ أي: ذوقوا أيها الكفار الطاغون من عذابِ هذه الأحقاب، فلن نزيدَكم إلا عذاباً من جنسِ عذاب

= معنى الغسَّاق، ويكون من عذاب النار الذي يعذِّب الله به الكفار. وهذا هو ترجيح الإمام الطبري.

وعلى هذا فسبب الاختلاف: الاشتراك اللغوي، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.

(1)

كذا وردَ عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع من طريق أبي جعفر، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10].

(2)

عبَّر مجاهد وقتادة عن جملة «لا يرجون» بأنهم لا يخافون، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك (تهذيب اللغة: 11: 182)، ويردُ الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقُّب حصول أمر محبوب للنفس، بالخوف الذي هو ضد له. وتحرير ذلك: أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيًّا؛ أي: لا يرجون (انظر: معاني القرآن، للفرَّاء: 1: 286)، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف؛ لأن الرجاء أمل قد يُخاف ألَاّ يتم (انظر: معاني القرآن، للزجَّاج: 2: 100).

(3)

يظهر من السياق أن الحديث عن كتاب الأعمال الذي تسجِّله الملائكة على العباد؛ لأن المقام ـ فيما يظهر ـ مقامُ محاسبة، وهم سيُحاسَبون على ما كتب عليهم، لا على عموم قدر الله سبحانه، ذلك أن بعض المفسِّرين جعل المُحْصَى هنا كل قدر الله الذي في اللوح المحفوظ، والله أعلم.

ص: 28

النار (1)؛ كما قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ *وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} ، والعياذُ بالله. وهذه الآيةُ من أشدِّ ما نزلَ في عذاب الكفَّار (2).

31 -

قولُه تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} : عَقَّبَ بذكرِ المتَّقين على عادة القرآنِ في ذكرِ الفريقين وأحوالِهم ومآلهم. والمعنى: إنَّ للذين اتقوا اللَّهَ بطاعته وتجنُّبِ معصيتِه مكانَ فَوْزٍ، وهو الجنة (3).

32 -

قولُه تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} ؛ أي: إنَّ مكانَ الفوزِ هو هذه البساتينُ المسوَّرة: إما بجدارٍ، وإما بأشجار، وخَصَّ العِنَبَ لفضله عِنْدَهُم.

33 -

قولُه تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} ؛ أي: ومن المَفاز: الجواري المستوِيات الأسنان، اللواتي قد استدارت نُهودهنَّ وتفلَّكت.

34 -

قولُه تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا} ؛ أي: ومن المفاز: إناء الخمر، أو غيره، المملوء عن آخِرِه، الذي يشرَبونَهُ صافياً متتابِعاً بلا انقطاع (4).

(1) هذه الآية مرتبطةٌ بقوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، وما قبلها من قوله:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21]، وتكون الجمل التي بينهما معترضة، والله أعلم. انظر: التحرير والتنوير.

(2)

أسند الطبري، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا} [النبأ: 30]، قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً.

(3)

عبَّر ابن عباس عن المفاز بأنه المُتَنَزَّه، وعبَّر عنه مجاهد وقتادة أنهم فازوا بأن نجوا من النار، وعند التأمل تجد أن نتيجة هذه الأقوال ومؤدَّاها واحد، والله أعلم.

(4)

عبَّر جمهور السلف عن معنى الدِّهاق بالامتلاء، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق مسلم بن نسطاس وأبي صالح وعلي بن أبي طلحة، وعن الحسن من طريق أبي رجاء ويونس، وعن مجاهد من طريق منصور، وعن قتادة من طريق معمر وسعيد، وعن ابن زيد.

وورد تفسيرها بالمتتابعة عن أبي هريرة، وعن ابن عباس من طريق عمرو بن دينار، وعن سعيد بن جبير. ووردَ تفسيرها بالصافية عن عكرمة.

ويظهر أن التفسير الأول هو التفسير اللغوي الأشهر في معنى اللفظ، أما الثاني، فقد أشار الطبري إلى وجود أصله في اللغة، بقوله: «وقوله: {وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] يقول: وكأساً ملأى متتابعة على شاربيها بكثرة امتلائها، وأصله من الدَّهق، وهو متابعة الضغط على الإنسان بشدة وعنف، وكذلك الكأس الدِّهاق: متتابعة على شاربيها بكثرة =

ص: 29

35 -

قولُه تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} ؛ أي: لا يسمعونَ في الجنة التي هي المفاز (1) أيّ كلامٍ باطل، ولا يكذِّبُ بعضُهم بعضاً (2).

36 -

قولُه تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} ؛ أي: أثابهم الربُّ (3) بهذا المفازِ وما فيه من النعيم المذكورِ مقابلَ أعمالهم الصالحة في الدنيا، ثم إنه تفضَّلَ عليهم بالعطاء الذي فيه الكفاية لهم (4)، وهو عطاءٌ من غير مقابِل، وهو زيادةٌ في الجنة يَزيدها الربُّ لمن شاء من عبادِه.

37 -

قولُه تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ؛ أي: هذا الربُّ الذي جازاهم وأعطاهم هو ربُّ السموات والأرض وما بينهما، وهو الرحمنُ الذي بيدِه جلائِلُ النِّعَم، وفي هذا تنبيهٌ على أنه أعطاهم ما أعطاهم برُبوبيته ومُلكِه ورحمته لهم.

وقوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ؛ أي: هؤلاء الخلق المذكورون في

= وامتلاء». (انظر في هذا المعنى: تاج العروس، مادة: دهق).

وأما التفسير الأخير فلا تُعطيه اللفظة ولا يخصُّها، بل هو تفسير مبني على ما عُرف من صفاء شراب الجنة وعدم وجود الغِشِّ فيه، وهل يجوز أن تكون لغة من لغات العرب عَلِمَها عكرمة، ففسَّر بها؟! الله أعلم.

وعلى هذا يكون الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، ويكون سبب الاختلاف في القولين الأولين: الاشتراك اللغوي.

(1)

ذكر بعض المفسِّرين أن الضمير في {فِيهَا} يعود إلى قوله: {وَكَاسًا} ؛ أي: خمراً، ويجعل «في» بمعنى «الباء»؛ أي: بسببها، ويكون المعنى: لا يسمعون بسبب شرب خمر الجنة لغواً ولا كِذَّاباً. والأَوْلى أن يعود الضمير إلى الجنة المشار إليها بالمفاز، وعليه فلا تحتاج إلى هذا التأويل.

(2)

هذا فيه دلالة على طِيب أكلِهم وشُربهم فلا يحدث بسببه ما يصدر منه لغو ولا كذب كما هو الحال في الدنيا في شرب الخمر وغيره من المسكِرات.

(3)

في إيثار اسم الربوبية هنا ما يشعر بأن النِعم من آثار ربوبية الله لعباده، والله أعلم.

(4)

جعل بعض المفسِّرين لفظ «حساباً» صفة للجزاء، ومن ثَمَّ يكون الحساب بمعنى المعدود؛ أي: جزاء معدوداً على قدر أعمالهم.

ص: 30

قوله: {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لا يستطيعونَ مخاطبةَ الله في يوم القيامة إلا بإذنه، كما سيرِدُ في الآية بعدَها.

38 -

قولُه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} ؛ أي: لا يملِك الخلقُ من الله مخاطبته في هذا اليوم الذي يقومُ فيه هذا الخلق العظيم ـ الروح (1) والملائكة ـ صفًّا، تعظيماً لله، كما لا يستطيعون مكالَمته إلا مَنْ قَبِلَ الله منه أن يتكلَّم، وتكلَّم بالحق،

(1) وقع خلاف بين السلف في تحديد الروح على أقوال:

الأول: أنه ملَك من أعظم الملائكة، وردَ ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، مع زيادةٍ في تفصيل خلقه عند ابن مسعود.

الثاني: أنه جبريل، ورد ذلك عن الشعبي والضحاك من طريق سُفيان وثابت.

الثالث: خَلْقٌ من خَلْقِ الله في صورة آدم، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومسلم وسليمان، وأبي صالح من طريق إسماعيل ابن أبي خالد، والأعمش.

الرابع: أنهم بنو آدم، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق معمر وسعيد.

الخامس: أنه أرواح بني آدم، عن ابن عباس من طريق العوفي.

السادس: أنه القرآن، عن زيد بن أسلم من طريق ابنه عبد الرحمن، واستشهد لذلك بقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

وقال الطبري ـ معلقاً على هذه الأقوال ـ: «والروح خَلْقٌ من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبرٌ بشيء من ذلك أنه المعني به دونَ غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به» .

والروحُ فيما يظهر من هذه الأقوال أمرٌ غيبي، والمرجع فيه إلى الأثر عن المعصوم في خبره، ولم يرِد إسناد شيء من هذه الأقوال إليه، ويظهر على بعضها أنها اجتهاد من قائله نظر فيه: إما لقرآن؛ كالقول بأنه جبريل؛ لوروده صراحة في غير هذا الموضع بهذا الوصف؛ كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193]، والقول بأنه القرآن، لوروده في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وإما لدلالة عقل وإطلاق لغوي؛ كمن قال: هم بنو آدم، أو أرواحهم، في مقابل ذكر الملائكة.

أما القول الأول الذي ورد عن ابن عباس وابن مسعود فممَّا لا يمكن أن يُعلم إلا من طريق الوحي، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن الصحابيَّ إذا فسَّرَ شيئاً غيبياً، فإن الأصلَ قَبول قوله، ما لم يَرِدْ ما يدل على أنه لم يتلقَّه من الرسول صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. =

ص: 31

وعملَ به في الدنيا. وأعظمُ الحقِّ قول لا إله إلا الله، والعمل بها (1).

39 -

قولُه تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} ؛ أي: ذلك اليومُ الذي يقومُ فيه الروحُ والملائكةُ، هو اليومُ الكائنُ الثابتُ الذي لا شكَّ فيه، فمن أرادَ منكم أيها العبادُ النجاةَ في ذلك اليوم، فليتَّخذ من الأعمالِ الحسنة ما يكونُ له سبيلاً ومرجِعاً يرجِعُ به إلى الله سبحانه (2).

40 -

قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} ؛ أي: إنَّا حذَّرناكم أيها العباد (3) عذاباً قد دنا منكم وقَرُب، وذلك كائنٌ يومَ ينظرُ المرءُ منكم إلى أعماله التي قَدِمَ بها إلى الله، ويومَ يتمنَّى الذي لم يؤمن بربِّه وكَفَرَ به أن لو جُعِلَ تُراباً، كما يصيرُ للبهائم في ذلك اليوم (4)، والله أعلم.

= والملاحظ أن ابن جرير لم يعمل بهذا في هذا الموضع، كما أنه رحمه الله تعالى لا يميز ـ في الغالب ـ بين طبقات السلف الثلاث (الصحابة والتابعين وأتباعهم) في التعامل معهم وترجيح أقوالهم؛ أي: لا يقدِّم قول الصحابي دائماً، بل قد يختار عليه قول التابعي، أو تابع التابعي، وهذا المنهج يحتاج إلى دراسة.

(1)

قال مجاهد في تفسير {صَوَابًا} : «قال حقّاً في الدنيا وعمل به» . وفسَّر الصواب بلا إله إلا الله، كل من ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وأبي صالح مولى أم هانئ، وعكرمة من طريق الحكم بن أبان.

(2)

وردَ عن قتادة من طريق معمر: {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} سبيلاً. وهذا تفسيرٌ بالمعنى؛ لأن المآب: المرجِع، والسبيل: الطريق إلى هذا المآب، فلا وصول إلى هذا المرجع إلا بسلوك السبيل، وهو الأعمال الصالحة، ففسَّر قتادة بلازم اللفظ، لا بمطابقه، والله أعلم.

(3)

قال الحسن البصري في {الْمَرْءِ} : المرء المؤمن. وكأنه لما ذكر الكافر بعده، جعل ذلك مقابلاً له، ولو فُسِّر المرء بعمومه فشمل الكافرَ والمؤمنَ، لكان صواباً، والله أعلم.

(4)

وردت آثار في ذلك عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي الزناد، وقد أورد الطبري في ذلك حديثاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم أسنده أبو هريرة، والله أعلم.

ص: 32