الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التكوير
آياتها:29
سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
سورةُ التَّكْوِير
قال صلى الله عليه وسلم: من سرَّه أن ينظرَ إلى يوم القيامة كأنه رأيَ عَيْنٍ، فليقرأ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} .
وقد وردَ عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه أنَّ الآيات الستَّ الأُولى تكونُ في آخرِ الزمان والناس ينظرونَ إليها، والستَّ الأخيرةَ تكون في يوم القيامة.
1 -
قولُه تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ؛ أي: إذا جُمع جِرمُ الشمس، وذهب ضوؤها، فأُلقيت في النار (1).
(1) عبَّر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية:
1 -
ذهبت، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وقال مجاهد من طريق أبي يحيى: اضمحلَّت وذهبت، وقال سعيد بن جبير من طريق جعفر: غُوِّرت.
2 -
ذهب ضوؤها، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية، وقتادة من طريق شعبة، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: أظلمت.
3 -
رُمي بها، وهو قول الربيع بن خثيم، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وفي رواية أخرى من طريق إسماعيل: نُكِّسَت.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين: ذهابها بذاتها، يلحقه ذهاب ضوئها، ورميها، وعلى هذه التفاسير يكون التكوير محتملاً لهذين الأمرين، ويربط بينهما أنهما من الأحوال التي تَمُرُّ بها الشمس في ذلك اليوم، فجاءت هذه اللفظةُ الواحدةُ دالةٌ على هذه المعاني، والله أعلم.
قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: «كُوِّرت» كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لَفُّهَا على الرأس، وكتكوير الكَارَةِ، وهي جَمْعُ الثيابِ بعضها إلى =
2 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} ؛ أي: وإذا نجومُ السماءِ وقعت وانتثَرت، فتغيَّرت وطُمسَ ضوؤها (1).
3 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ؛ أي: وإذا هذه الجبالُ العظيمةُ قد أمر الله بتحريكِها من مكانها، فسَارت (2).
= بعض ولفِّها، وكذلك قوله:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إنما معناه: جُمِعَ بعضُها إلى بعض، ثم لُفَّت، فرُمي بها، وإذا فُعل ذلك بها ذهب ضوؤها، فعلى التأويل الذي تأوَّلناه وبينَّاه لكِلا القولين اللذَينِ ذكرتُ عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كوِّرت ورُمي بها ذهب ضوؤها».
وعلى هذا الترجيح من الطبري يزيد معنى اللفِّ والجمع، ولم أجِدْهُ لأحدٍ من السلف قبل الطبري، وهو مستنبَطٌ من المعنى اللغويِّ للتكوير، كما أنَّ من قال: رُمي بها، فإنه مأخوذٌ من معنًى لغويٍّ آخر في مادة التكوير، تقول: كوَّرتُ الرجلَ؛ أي: طرحتَه في الأرض، وقد ورد في الحديث:«الشمسُ والقمرُ ثورانِ مكوَّران في النار» . وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري، ويزيد عليه بيانَ مآلِ الشمس. أمَّا من فسَّرها بذهبت واضمحلَّت فإن ذلك لازمُ لفِّها كما ذكر الطبري، وإذا ذهبت ذهبَ ضوؤها، والله أعلم.
(1)
ورد في تفسير الانكدار قولان:
الأول: تناثرت، وهو قولُ الربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وقتادة من طريق سعيد، وعبارته:«تساقطت وتهافتت» ، وابن زيد، وعبارته:«رُمي بها من السماء إلى الأرض» .
والثاني: تغيَّرت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
وهذان القولان ليس بينهما تضاد، بل الثاني من لوازِم الأول، والمعنى أنها إذا تساقطت؛ كما قال تعالى:{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2]، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها؛ كما قال تعالى:{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8]. وهذان القولانِ مرجِعهما اللغة، فالأولُ جعل اللفظَ من الانكدار، أي الانصباب؛ كما قال العجاج:
تقضَّى البازي إذا البازي كسر
…
أبصر غربان فضاء فانكدر
والمعنى الثاني مأخوذ من الكُدرة، وهي التغيُّر، تقول: كدرت الماء فانكدر؛ أي: تغيَّر بما يكدر صفاءَهُ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غير متضادين، ويجوز أن يرادا في الآية، ويكون سببُ الاختلافِ الاشتراكَ اللغوي في لفظ: انكدرت، والله أعلم.
(2)
عبَّر مجاهد عن معنى التسيير بقوله: «ذهبت» ، وهذا من لوازم تسيير الجبال؛ لأنها إذا سارت فقد ذهبت، والله أعلم. =
4 -
قولُه تعالى: {وإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} ؛ أي: وإذا النُّوقُ الحوامِلُ التي بلَغت الشهرَ العاشرَ من حَمْلِها، التي هي أنفسُ أموالهم، قد أهملَها أهلها وتركوها من هَوْلِ الموقف (1).
5 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} ؛ أي: وإذا الحيواناتُ البرِّيَّة التي لم تأنسْ بالإنسان جُمِعت معه وزالَ ما بينهما من الاستيحاشِ بسبب هَوْلِ الموقف (2).
= وهذه الآية كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} ، وجاء الفعلُ على صيغة المفعول للاهتمام بالحَدَثِ، وللدلالة على أن هذا الفعل يكون مبدؤه بفعلِ فاعلٍ فيها، ثم إنها تنفعلُ لهذا الحدَث فتسير؛ كما قال تعالى:{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} ، ويظهر أن هذه أولُ حالٍ من الأحوال التي تمرُّ بها الجبال في ذلك اليوم، والله أعلم.
(1)
كذا قال السلف: أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية، والربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى، والحسن من طريق عوف، وقتادة من طريق معمر، والضحَّاك من طريق عبيد المكتب.
(2)
اختلف السلف في تفسير عبارة الحشر هنا:
1 -
فجعله ابن عباس من طريق عكرمة: الموت، وقال الربيع بن خثيم: أتى عليها أمرُ الله.
2 -
وقال أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية: اختلطت.
3 -
وفسَّره قتادة من طريق سعيد بالجمْعِ، قال:«هذه الخلائقُ موافيةٌ يومَ القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء» . وهذا تفسيرُ معنى، ولم ينص فيه على مدلول اللفظ مطابَقَةً، لكن يفهم من قوله أن الحشرَ الجمعُ، والله أعلم.
وقد رجَّح الإمام ابن جرير قول قتادة وأردفَه بقول ابن عباس فقال: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى حشرت: جُمعت، فأميتت؛ لأن المعروفَ في كلام العربِ من معنى الحشر: الجمع؛ ومنه قول الله: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19]؛ يعني مجموعة، وقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23]، وإنما يُحمل تأويلُ القرآنِ على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأَنْكَرِ المجهول» .
ولعلَّكَ تلاحظُ أنه استشهد لمعنى الجمع، ولم يستشهد لمعنى الموتِ الذي ذكره في أولِ كلامه! وتفسيرُ ابن عباس يظهر منه أن هذه الدلالة اللغوية للحشر مختصَّة بحشر الحيواناتِ في آخر الزمانِ، حيث قال: «حَشْرُ البهائم: موتها، وحَشرُ كل شيء: =
6 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ؛ أي: وإذا هذه البحارُ امتلأت بالماء، ففاضت به، ثم أُوقِدت، فذهبَ ما فيها من الماء (1).
= الموت، غير الجنِ والإنسِ، فإنهما يوقَفان يوم القيامة». وإن لم تحمله على ذلك، فإنك ستلاحظ أنه أفادَ زيادةً على معنى الجمع؛ أي: نتيجة هذا الجمع ولازمه، وهو مآل هذه الحيوانات بعد هذا الحشر، والله أعلم.
أما تفسيرُ أبي بن كعب، فإن لم تحمله على أنه معنًى لغوي آخر للحشر، فإنه من لوازم الحشر؛ أي: أنَّ جمعَ هذه الحيوانات جعلها تختلطُ ببعضها دون خوفٍ أو غيره مما كان من حالها قبل ذلك، والله أعلم.
(1)
قُرئ حرف «سُجِّرت» بتخفيف الجيم وتشديدها، وفي التشديد مبالغة في السَّجْرِ، وكِلا القراءتين جاءت على صيغة المفعول للاهتمام بالحدث.
وقد اختلف السلف في تفسير التَّسْجير في هذه الآية على أقوال:
الأول: أُشعلت وأُوقدت، وهذا قول أُبي بن كعب من طريق أبي العالية، وابن عباس من طريق شيخ من بجيلة، وابن زيد، وشمر بن عطية، وسفيان الثوري من طريق ابن مهران، ومن طريق سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:«قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنَّم؟ فقال: في البحر، فقال: ما أُراه إلا صادقاً {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] مخفَّفة» .
الثاني: فاضت، وهو قول الربيع بن خثيم، وقال الكلبي: مُلئت، وجعلها نظير قوله تعالى:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6].
الثالث: فجِّرت، وهو قول الضحَّاك من طريق عبيد، وكأنه جعلها نظير قوله تعالى:{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3].
الرابع: ذهبَ ماؤها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد، وقال الحسن من طريق أبي رجاء وسليمان بن المعتمر: يبسَت.
قال أبو جعفر الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: مُلئت حتى فاضت، فانفجرت وسالت، كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال:{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]، والعرب تقول للركِيِّ المملوء: ماء مسجور، ومنه قول لبيد:
فتوسطا عرض السري وصدعا
مسجورة متجاوراً قلامها
ويعني بالمسجورة: المملوءة ماء».
والسَّجْرُ في لغة العرب يطلق على معان ثلاثة مما ذكر في التفسير، وهي: الامتلاء، والإيقاد، واليُبس، ومن ثَمَّ فإن الآية تحتمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها السلف، =
7 -
قولُه تعالى (1): {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} ؛ أي: إذا الأشخاصُ الذين يعملونَ أعمالاً متشابهة، يُقْرَنُ بينهم، فيُقرنُ الكافرُ مع الكافرِ، والمؤمنُ مع المؤمنِ، واليهوديُّ مع اليهوديِّ، والنصرانيُّ مع النصراني، وهكذا (2).
8 -
9 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؛ أي: وإذا سألَ اللَّهُ البنتَ المدفونةَ وهي على قيد الحياة: ما الجريمةُ التي فَعلتيها
= ويمكن الجمع بينها على أن هذه من المراحل التي تمرُّ بها البحار في ذلك الزمان، فعبَّر بلفظٍ يدلُّ على هذه المراحل جميعها، والله أعلم.
وإذا صحَّ ذلك، فإن الأمرَ يكون بأن تتفجَّر البحارُ ويفيضَ بعضها على بعض، حتى تصير بحراً واحداً ممتلئاً، ثم تُوقدَ بالنار ـ التي ورد في بعض الآثار أنها تحت البحر ـ ثم تَيْبَسَ ويذهبَ ماؤها، والله أعلم.
ويظهرُ أن سببَ الاختلاف هنا: الاشتراك اللغوي في لفظ «سُجِّرت» ، وهو من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، كما يُلاحَظُ أن بين قولي الامتلاء واليُبس تضاداً، ولكن جاز حمل الآية عليهما لاختلاف الحال والوقت الذي يكون فيه هذان المعنيان، والله أعلم.
(1)
هذه الآية وما بعدها تكون بعدَ البعثِ كما ذكر أبي بن كعب، وهذا ظاهر من أمر هذه الآياتِ الستِّ القادمة، والله أعلم.
(2)
اختلف السَّلف في تفسير الآية على قولين:
الأول: أُلحِقَ كلُّ إنسانٍ بشكله، وقُرِنَ بين الضُّرَباء والأمثال، وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: هما الرجُلان يعملان العمل، فيدخلان به الجنة، وقال:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] قال: ضُرَباءهم. وقال ابن عباس من طريق العوفي: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة، وهو قول الحسن من طريق عوف، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والربيع بن خثيم.
الثاني: رُدَّتِ الأرواحُ إلى الأجسادِ، فجُعلت لها زوجاً، وهو قول عكرمة من طريق أبي عمرو، والشعبي من طريق داود.
حتى يدفِنكِ أهلُك، فيقتلونَكِ بهذا الدفن (1)؟، وهذا فيه تبكيتٌ لقاتِلها، وتهويلٌ للموقف الذي يُسأل فيه المجني عليه، فما ظنُّكَ بما يلاقيه الجاني لهذه الجنايةِ البشعة؟.
10 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ؛ أي: وإذا ما كُتِبَتْ به أعمالُ العبادِ من الصُّحف قد فُتحت، ليقرأَ كلٌّ كتابَ أعمالِه؛ كقوله تعالى:{اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
11 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ؛ أي: وإذا نُزِعَتِ السماءُ كما يُنزعُ الجلدُ من الذبيحة (2).
12 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} ؛ أي: وإذا نارُ الجحيمِ أُوقِدَت، فزاد حرُّها.
13 -
قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} ؛ أي: وإذا الجنةُ التي أُعِدَّت للمتقين، قُرِّبَت وأُدْنِيَت (3).
14 -
قولُه تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} ؛ أي: إذا وَقعت هذه
(1) لا يخفى عليك أيها القارئُ ما تقومُ به الحضارة المعاصِرة من الوَاد، وذلك ما يسمَّى بالإجهاض.
(2)
قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: جُذِبَت، وهذا من لوازم الكَشْطِ؛ لأنه لا يكون كَشْطٌ إلا بِجَذْبٍ، والله أعلم.
وهذه أحدُ الأحوالِ التي تمرُّ بها السماء في يوم القيامة، ومن أحوالها ما ذكرَهُ الله في قوله:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وقوله:{فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وغيرها.
(3)
قال الربيع بن خثيم ـ في قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ *وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} ـ: «إلى هذين ما جرى الحديث: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار» . وشرح الطبري قوله هذا فقال: «يعني الربيع بقوله: «إلى هذين ما جرى الحديث» : أن ابتداء الخبر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} إنما عدِّدت الأمور الكائنة التي نهايتُها أحد هذين الأمرين، وذلك المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
الأحداث، فإنَّ كُلَّ نفسٍ مؤمنةٍ وكافرةٍ تعلمُ علماً يقينياً بالذي جاءت به من الأعمالِ لهذا اليوم؛ كما قال تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (1)[آل عمران: 30].
15 -
16 - قولُه تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} : لمَّا ذكرَ الآياتِ التي تكون في آخرِ هذا العالمِ وفي يوم القيامة، أتبعَهُ بالقَسَمِ على القرآن (2)، فأقسَمَ ربُّنا (3) بالنجوم التي تكون مختفيةً قبلَ ظهورِها بالليل، الجاريةِ في فلكِها، والداخلةِ وقتَ غروبها في النهار إذا طلع، كما تدخلُ بقرُ الوحشِ والظباءِ في كِناسِها؛ أي: بيتها (4).
(1) روي عن عمر بن الخطاب قوله: «إلى هذا جرى الحديث» . وجملة: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} جواب «إذا» في المواطن السابقة كلِّها، والتقدير: إذا الشمسُ كوِّرت، علِمت نفسٌ ما أحضرت، وإذا النجوم انكدرت، علِمت نفسٌ ما أحضرت، وهكذا.
ولا شك أن العلمَ بما عمِلت يتفاوتُ في هذه الأزمان التي تقع فيها هذه الأحداث، غير أنها لما كانت مترابطةً إذا حدثَ الحدثُ الأول تبعته الأحداثُ الأخرى كما تنفرِطُ خرزات السُّبْحة من خيْطِها، جاز الجوابُ عنها بهذا الجوابِ الشاملِ، وإن كان وقوعُ ذلك الجواب وقوعاً عينياً يكون بعد كشفِ الصحفِ وقراءتها، والله أعلم. (انظر: التحرير والتنوير).
(2)
جاءت الفاء لتربط بين المقطعين، والأول يتحدَّث عن البعث ومبادئه، وتقديرُ الربطِ بينهما: أنهم لو كانوا آمنوا بالقرآن الذي جاء القَسَمُ عليه، لصدَّقوا بما هو من أعظم أخباره، وهو البعث، والله أعلم.
(3)
وقع خلافٌ في هذا التركيب «لا أقسم» على أقوال، منها:
1 -
أنه نفي للقَسَم، والمعنى أن هذه القضية من الظهور بحيث لا تحتاجُ إلى قَسَمٍ عليها.
2 -
أن المنفيَّ محذوفٌ يقدَّر بما يناسبُ السياق، ويكون المعنى: لا ليس الأمرُ كما زعمتُم في القرآن، أُقسم بالخنَّس
…
إنه لقولُ رسولٍ كريم.
3 -
أن «لا» جاءت لتأكيد القَسَم، ويدل عليه قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، ثم قال بعده:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، فأثبتَ أنه أَقْسَمَ، وأنهم لو كانوا يعلمون، لعلموا أنه قَسَمٌ عظيم، وهذا أقرب الأقوال للصواب، والله أعلم.
(4)
اختلف السلف في المراد بهذه الأوصافِ الثلاثةِ على قولين: =
17 -
قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ؛ أي: وأقسمَ بالليلِ إذا أقبلَ أو أدبر (1).
=
الأول: أنها النجومُ أو الكواكب، وهو قولُ علي بن أبي طالب من طريق خالد بن عرعرة، ورجل من مراد، والحسن من طريق جرير بن حازم ومعمر، وبكر بن عبد الله، ومجاهد من طريق الأعمش، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد.
الثانية: أنها بقرُ الوَحْشِ، وهو قول ابن مسعود من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وجابر بن زيد، وعبد الله بن وهب، ومجاهد من طريق الصَّلت بن راشد، وإبراهيم النخعي من طريق الأعمش، ومغيرة.
وقال بعضُهم: الظِّباء، وهم: ابن عباس من طريق العوفي، وسعيد بن جبير من طريق جعفر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحَّاك من طريق عبيد. ومعناه قريبٌ من الذي قبله؛ لأنهما من الوحوش، ولاتفاقهما في الوصف المذكور.
قال ابن جرير: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنَّ اللَّهَ ـ تعالى ذِكْرُه ـ أقسمَ بأشياء تخنسُ أحياناً؛ أي: تغيب، وتجري أحياناً، وتكنِس أخرى، وكُنوسها: أن تأوي في مكانِسهِا، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأويَ إليها بقر الوحش والظباء
…
وغير مُنْكَرٍ أن يُستعارَ ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالةٌ على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصوابُ أن يُعَمَّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحياناً، والجري أخرى، والكُنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها».
وسببُ الخِلاف أن هذا الوصفَ صالحٌ لأكثرِ من موصوف، فذكر هؤلاء ما يرونه أنسب من غيره من الموصوفات، وهذه الموصوفاتُ تتواطأ على هذا الوصف، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، ويمكن حملُ الآية عليهما كما قال ابن جرير، غير أن في سياق الآيةِ ما يدلُّ على ترجيح أحدِ القولين، وهو أن المرادَ: النجومُ والكواكبُ، وذلك أن السياق بعدها يذكر آياتٍ كونية، وهي الليل والصبح، والنجومُ ألصق بذلك من بقرِ الوحشِ والظباء، ثم إن الغالبَ على أقسام القرآن: أن يكونَ القسمُ بما هو ظاهرٌ للناس، أو له آثار ظاهرة، والنجومُ والكواكب أظهر لكل الناس من بقر الوحش والظباء، وبهذا يترجح القول بأنها النجوم والكواكب، والله أعلم.
(1)
اختلف السلف في المراد بـ «عَسَعَس» في هذا الموضع، على قولين:
الأول: أدْبَر، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعلي بن أبي طالب من طريق أبي ظبيان وأبي عبد الرحمن السلمي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. =
18 -
قولُه تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ؛ أي: وأقسمَ بالصُّبح إذا بَزَغَ ضوؤه، وانتشرت نسماته الباردة.
19 -
قولُه تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: إنَّ القرآنَ تبليغُ جبريلَ أشرفِ الملائكة (1).
20 -
قولُه تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} (2){مَكِينٍ} ؛ أي: جبريلُ صاحب قوةٍ عظيمة، وهو ذو مكانةٍ ومنزلةٍ عند الله سبحانه، ولذا خصَّه بوحيِه، فهو أمينُ السماء.
21 -
قولُه تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ؛ أي: جبريلُ المؤتَمن على الوحي، الذي لا يخونُ، يُطيعه أهلُ السموات.
22 -
قولُه تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ؛ أي: وما محمدٌ الذي لازمَكم أكثرَ من أربعين عاماً، فلا تخفى عليكم دقائق أحواله، ما هو بمخبولٍ ولا بممْسوسٍ من الجنِّ كما تزعمون.
= الثاني: أقبلَ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق معمر، وعطية العوفي من طريق الفضيل
وسببُ الاختلاف في هذه اللفظةِ الاشتراك اللغوي، وهو من قبيل المشترَكِ المتضادِّ، ويجوز في هذا المثال حمله على معنييه، لاختلاف الزمنِ المحمولِ عليه اللفظ، وهو أولُ الليل وآخرُه، وبهذا يكون من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وفي إيثار هذا اللفظ الدالِّ على الحالين معاً ما يُظهر بلاغةَ القرآنِ وإيجازَه في الألفاظ مع اتِّساعِ المعاني، دونَ تعارضٍ بينهما؛ أي: أنه إذا قيل بأحدهما لزمَ منه انتفاءُ الآخَر؛ كما في لفظ القُرء من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنك لا يمكن أن تقولَ بالقولين معاً؛ لأن المطلوبَ من المرأة أن تتريَّثَ ثلاثةَ أطهارٍ أو ثلاثَ حِيَضٍ، والله أعلم.
(1)
نسبَ إليه القول هنا لأنه المبلِّغ عن ربِّه، ولذا عبَّر عنه بلفظِ «رسول» للتنبيه على مَهِمَتِّهِ، وهي تبليغُ كلام الله للنبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
العرشُ من المخلوقات العُلوية الغيبية التي أطلعنا الله على بعض أوصافها، ومنها: أنه سريرٌ ذو قوائم، وهو أعلى المخلوقات، وأوسعِها، وأن الملائكةَ تحمِله، وعليه استوى الرحمن؛ كما قال تعالى:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
23 -
قولُه تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} ؛ أي: أقسمُ أنَّ محمداً رأى جبريلَ على صورته الملَكية في أفقِ السماءِ الواضح، مكانَ طلوع الشمس أو غروبها، ولم يكن ذلك رِئياً من الجن كما تزعمون.
24 -
قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ؛ أي: ليس محمدٌ صلى الله عليه وسلم ببخيلٍ عليكم (1) فيما بلَغه من الوحي، فيكتُمه عنكم، أو يأخذ عليه أجراً كما يأخذه الكاهن الذي يأتيه رِئيٌ من الجن (2).
25 -
قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} ؛ أي: ليس القرآنُ من كلامِ الشيطانِ الملعونِ المطرود، ولكنه كلامُ الله ووحيه.
26 -
قولُه تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ؛ أي: ما هو المسلكُ الذي ستسلُكونه بعد هذا البيانِ والإيضاح عن صِدْقِ القرآن؟.
27 -
قولُه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ؛ أي: ما هذا القرآن الذي ذكرتُ لكم أحوالَه إلا موعظة لكم أيها المكلَّفون من الإنسِ والجن.
28 -
قولُه تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ؛ أي: هذا القرآنُ موعظةٌ لمن صَدَقَ في توجُّهه إلى الله، وأرادَ أن يكونَ مُسلِماً لله، مستقيماً على دينه، وفي هذا دلالة على أن العبدَ قد يحجبُ نفسَه عن الهداية؛ كما قال تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10].
29 -
قولُه تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؛ أي:
(1) وردَ تفسيرُ هذهِ القراءة عن زر بن حبيش من طريق عاصم، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وسفيان الثوري من طريق مهران.
(2)
قرئ: «بظنين» ؛ أي: متَّهم، والمعنى: ما محمدٌ صلى الله عليه وسلم بكاذبٍ فيما يبلِّغكم من الوحي، وقد وردَ تفسير هذه القراءة عن ابن عباس من طريق الضحاك والعوفي، وزِر بن حبيش من طريق عاصم، وسعيد بن جبير من طريق أبي المعلى، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، والضحاك من طريق عبيد.
ولا تقع منكم إرادةٌ كائنة ما كانت، إلا بعد أن يأذنَ الله بوقوعِها؛ لأنه ربُّ جميعِ العوالم، فلا يقع في مُلكه إلا ما يشاء (1).
(1) هاتان الآيتان وردَ فيهما إثباتُ مشيئةِ العبدِ ومشيئةُ الربِّ، والمرادُ أنَّ مشيئةَ العبدِ ليست نافذةً على كلِّ حال، بل هي مقيَّدة بإذن الربِّ لها بالنَّفَاذ، وفي هذا ردٌّ على الجبرية الذين يرون أنه لا فِعل لهم البتَّة، بل كل فعل يفعلونَهُ هم مجبولون عليه ليس لهم فيه اختيار، وهذا مخالِفٌ للواقع؛ لأنك ترى من نفسِك اختياراً وتصرفاً، ولكنَّ وقوعَ هذا الاختيار بمشيئة الله تعالى.
كما أن في الآية الثانية ردّاً على الذين يزعمون أن العبدَ قادرٌ على خلقِ فعلِه، وهم المعتزلة؛ لأن الله أثبتَ أن فعلَ العبدِ لا يقع إلا بعدَ مشيئة الله، ولو كان ما قالوه صحيحاً لما لزِمَ ورودُ مشيئة الله هنا، والله أعلم.