المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورةُ الِّتين آياتها:8 - تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدِّمة

- ‌المسألة الأولى: مفهوم التفسير:

- ‌المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه:

- ‌المسألة الثالثة: طبقاتُ السَّلف في التفسير:

- ‌المسألة الرابعة: تفسير السلف للمُفردات:

- ‌سُورةُ النَّبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورةُ الإنفِطار

- ‌سورةُ المطِّففين

- ‌سورةُ الإنشِقاق

- ‌سورةُ البُروج

- ‌سورةُ الطَّارِق

- ‌سورةُ الأعلَى

- ‌سورةُ الغَاشية

- ‌سورةُ الفَجر

- ‌سورةُ البَلَد

- ‌سورةُ الشَّمس

- ‌سورةُ اللَّيل

- ‌سورةُ الضُّحى

- ‌سورةُ الشَّرح

- ‌سورةُ الِّتين

- ‌سورةُ العَلَق

- ‌سورةُ القَدر

- ‌سورةُ البِّينة

- ‌سورةُ الزَلْزَلة

- ‌سورةُ العادِيات

- ‌سورةُ القَارِعة

- ‌سورةُ التكاثُر

- ‌سورةُ العَصْر

- ‌سورةُ الهُمَزَة

- ‌سورةُ الفِيل

- ‌سورةُ قُريش

- ‌سورةُ الماعون

- ‌سورةُ الكَوْثَر

- ‌سورةُ الكافِرون

- ‌سورةُ النَّصر

- ‌سورةُ المَسَد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

- ‌فهرس

- ‌أولاً: فهرس اختلاف التنوع:

- ‌القسمُ الأول: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى معنًى واحد:

- ‌القسمُ الثاني: الاختلافُ الذي يرجع إلى أكثرِ من معنى

- ‌ثانياً: أسبابُ الاختلاف:

- ‌1 - الاختلافُ بسبب التواطؤ:

- ‌2 - الاختلافُ بسبب ذكرِ وصفٍ لموصوفٍ محذوف:

- ‌3 - الاختلافُ بسبب الاشتراكِ اللُّغوي:

- ‌4 - الاختلافُ بسبب الحذف:

- ‌5 - الاختلافُ بسبب مفسّر الضمير:

- ‌6 - الحملُ على المعنى اللغوي، والحملُ على المعنى الشرعي:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح:

- ‌1 - الترجيحُ بالأغلب، أو المشهور من لغة العرب:

- ‌2 - الترجيحُ بقول الجُمهور (وقد يسميه عليه الطبري: إجماع الحجة):

- ‌3 - الترجيحُ بدلالة السنَّة النبوية:

- ‌4 - الترجيحُ بدلالة السِّياق:

- ‌5 - الترجيحُ بأصل ترتيبِ الكلام، وعدمِ الحُكم بالتقديم والتأخيرِ إلا لعلَّةٍ توجبُ ذلك:

- ‌6 - الترجيحُ برَسْمِ المصحف:

- ‌7 - الترجيحُ بعَوْدِ اسم الإشارة المُفرَدِ إلى أقربِ مذكورٍ، كالضمير:

- ‌8 - الترجيحُ باتِّساق الضمائر، وعَوْدِها على المذكور الأوَّل:

- ‌رابعاً: اختلافُ المعاني بسبب اختلاف القراءة:

- ‌ فهرسُ الفوائد العلمية:

الفصل: ‌ ‌سورةُ الِّتين آياتها:8

‌سورةُ الِّتين

آياتها:8

ص: 179

سورة التين

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

ص: 180

سورةُ الِّتين

1 -

3 - قولُه تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ *وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} : يُقسِمُ ربُّنا بشجرتَي التِّينِ والزيتونِ، وفيه إشارةٌ إلى مكانِ نباتِهما، وهو الشامُ مَوْطِنُ كثيرٍ من أنبياء بني إسرائيل (1)؛ كعيسى ابن مريم، ويقسِمُ

(1) اختلفت عباراتُ المفسِّرينَ في تفسير التين والزيتونِ على أقوال:

1 -

التينُ الذي يؤكل، والزيتونُ الذي يُعْصَر، وهو قول الحسن من طريق عوف وقتادة، وعكرمة من طريق الحكم ويزيد وأبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وخصيف، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، والكلبي من طريق معمر.

2 -

التين: مسجدُ دمشق، والزيتون: بيتُ المَقْدِسِ، وهو قولُ كعبِ الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.

3 -

التين: مسجدُ نوح، والزيتون: مسجدُ بيت المقدس، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي.

قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون هو الزيتون الذي يُعْصَرُ منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروفُ عند العرب، ولا يُعرَفُ جبلٌ يُسمَّى تيناً ولا جبلٌ يُسمَّى زيتوناً، إلَاّ أن يقولَ القائل: أقسمَ ربُّنا جلَّ ثناؤه بالتِّين والزيتون، والمرادُ من الكلام القسم بمنابتِ التين ومنابتِ الزيتون، فيكونُ ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ لأنَّ دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون» .

وهذا الذي قاله السلفُ في تفسيرِهِم حقٌّ، ويدلُّ عليه ظاهرُ التنزيل؛ لأنَّ الله سبحانه عطف على هاتين أسماء أماكن، وهذا يشير إلى أنَّ المرادَ بالقسَمِ هاتان الشجرتان وأماكن نباتهما، ولهذا كانت كلُّ الأقوال المذكورة في التين والزيتون لا تخرجُ عن الشَّامِ التي هي موطنُ كثيرٍ من النبوات، خصوصاً نبوات بني إسرائيل، ولذا قال بعض العلماء: «هذه محالٌّ ثلاثة بعثَ الله في كلِّ واحدٍ منها نبياً مرسَلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. =

ص: 181

بجبلِ سَيْناءَ الذي كلَّمَ فيه موسى (1)، ومنه أرسلَه إلى فرعون. ويقسمُ بمكَّةَ

= فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدِس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم.

والثاني: طور سينين، وهو طورُ سيناء الذي كلَّم اللَّهُ عليه موسى بن عمران.

والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسلَ الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وفي آخر التوراة ذِكْرُ هذه الأماكنِ الثلاثة: جاء الله من طُور سيناء ـ يعني: الذي كلَّمَ اللَّهُ عليه موسى بن عمران ـ، وأشرقَ من ساعير ـ يعني: جبلَ بيتِ المقدِس الذي بَعَثَ الله منه عيسى ـ، واستعْلَنَ من جبالِ فاران ـ يعني: جبالَ مكة التي أرسلَ الله منها محمداً ـ، فذَكَرَهُم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبِهم في الزمان. ولهذا أقسمَ بالأشرف، ثُمَّ الأشرفِ منه، ثُمَّ بالأشرفِ منهما». (تفسير ابن كثير، وانظر: التحرير والتنوير).

(1)

وردَ عن جمعٍ من السلف تفسيره بجبل موسى الذي في سيناء، وردَ ذلك عن الحسن من طريق عوف، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وابن عباس من طريق العوفي، وذكره بعضهم باسمِ مسجدِ موسى، ورد ذلك عن قتادة من طريق هشام، وابن زيد.

وفسَّر بعضُهم معنى الطور، فقال: الطور: الجبل، ورَدَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، وعمرو بن ميمون، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وورد عن عكرمة من طريق النضر، والكلبي، من طريق معمر، تقييدَهُ بالجبل الذي يُنبت.

وفسَّر عكرمة من طريق عمارة وأبي رجاء «سينين» بالحسن، قال:«وهي لغة الحَبَشَة، يقولون للشيءِ الحَسَنِ: سينا سينا» . وفسَّره مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمبارك، وقال قتادة من طريق معمر:«جبلٌ بالشام مباركٌ حَسَن» .

قال الطبري: «وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: طور سينين: جبلٌ معروف؛ لأن الطورَ هو الجبلُ ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريفٌ له، ولو كان نعتاً للطور، كما قال من قال: معناه: الحسن أو مبارك، لكان الطورُ منوَّناً، وذلك أنَّ الشيءَ لا يضافُ إلى نعته لغير عِلَّةٍ تدعو إلى ذلك» .

وهذا الذي قاله الطبري صوابٌ، غير أنه يمكن أن تُحتمل بعض هذه الأقوال، فمن فسَّره بالجبل أراد، ـ والله أعلم ـ بيانَ معنى الطور في اللغة. كما أن قول قتادة:«جبلٌ بالشام مبارَكٌ حَسَن» يمكن أن لا يكون تفسيراً لفظياً لسينين، ولكنه أراد أنَّ هذا الجبلَ الذي في سيناء مبارك بما حفَّه من نزولِ الرسالة على موسى، وهو حسنٌ لما فيه من الأشجار التي تغطِّيه، والله أعلم. =

ص: 182

التي جعلَها آمِنَةً، وأمَّنَ مَنْ فيها (1).

4 -

5 - قولُه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} : هذا جوابُ القَسَمِ (2)، والمعنى: لقد خلقنا الإنسانَ في أعدَلِ خلقٍ وأحسنِ صُورةٍ (3)، ولكنه إن لم يشكُرْ هذه النعمة، فأفسَدَ فِطْرَتَهُ، ودسَّ نفسَهُ، فإنَّ اللَّهَ سيردُّه إلى النار التي تغيِّر هذا التقويم الحسَن الذي خلَقه اللَّهُ عليه (4).

= أمَّا تفسيرُ عكرمة على أنَّ اللفظ بلغة الحبشة، فبعيدٌ؛ لاختلافِ اللفظتين، وليس هذا تعريبُها، لو كانت مما وقعَ للعرب من لغةِ الحبشة، ولا هي من العربية، لو قيل باتفاق اللغتين في هذه اللفظ، ويدلُّكَ على ذلك ما وردَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في نُطق اللفظة الحبشية التي تدلُّ على معنى الحسن، حيث قال: سَنَا، وسنَهْ، وسَنَاهْ. (انظر: صحيح البخاري: كتاب اللباس: 22، ومناقب الأنصار: 27، والجهاد: 188) كلُّ هذا وردَ عنه، وهي لفظةٌ حبشية بمعنى حسن. فأين هذه اللفظةُ من لفظةِ سينين، والله أعلم.

(1)

وردَ تفسيرُ البلدِ الأمين بمكةَ عن ابن عباس من طريق العوفي، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، والحسن من طريق عوف، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وعكرمة من طريق الحكم وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وإبراهيم النَخَعي من طريق حماد.

(2)

ورد عن قتادة من طريق سعيد، قال:«وقع القسَمُ هاهنا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}» .

(3)

كذا فسَّر جمهور السلف، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وأبي العالية من طريق الربيع، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، والكلبي من طريق معمر.

ووردَ عن ابن عباس من طريق العوفي: «شبابُه أولَ ما نشأ» ، ومن طريق عكرمة:«خلق كل شيء مُنْكَبًّا على وجهِه إلَاّ الإنسان» ، وعن عكرمة من طريق الحكم:«الشابُّ القوي الجَلِدُ» ، ويمكن أن تكون هذه أمثلةً لأعدَلِ الخلق، فتكون داخلة في قول الجمهور، وعلى العموم، فإن تفسيرَ السلف مُتَّجِهٌ إلى أن أحسن تقويم هو الصورة الجسدية في خلق الإنسان.

(4)

اختلف تفسيرُ السلفِ لأسفلِ سافلين على أقوال:

1 -

ردَدْناه إلى أرذَلِ العُمر، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبي رزين =

ص: 183

6 -

قولُه تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ؛ أي: إلَاّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ، الذينَ شكروا الله على هذا التقويمِ الحسنِ بعبادتِه، فإنهم لا يُرَدُّونَ إلى أسفلِ سافلين: النار (1)، بل لهم أجرٌ

= والعوفي، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر وسعيد.

2 -

ردَدْناه إلى النار، وردَ ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق قتادة، وابن زيد.

3 -

في شرِّ صورة، في صورةِ خِنزير، وردَ ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس.

واختار ابن جرير أنَّ أسفل سافلين: أرذل العمر، واحتجَّ لذلك.

وسيأتي عند الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا

} تتمة نقاش لهذا الاختلاف.

(1)

اختلف السلف في تفسير هذه الجملة بناءً على اختلافهم في سابقتها، ولهم في ذلك أقوال:

1 -

أن الذين آمنوا إذا هرموا يكتب لهم ما كانوا يعملونه في حال الصحة وهذا تفسير ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر.

2 -

وفسَّر بعضهم: أنهم لا يؤاخذون بما عملوا في حال الهرم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم.

3 -

وورد عن مجاهد والحسن: إلَاّ الذين آمنوا لا يردون إلى النار.

وقد ناقش ابن القيم هذه الأقوال، واختار أن أسفل سافلين: النارُ، وأطال في هذا، وأنا أنقله لك بطوله لفائدته، واللَّهُ الموفِّقُ.

قال ابن القيم: «ثمَّ لما كانَ الناسُ في الإجابة لهذه الدعوة فريقين: منهم من أجاب، ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين، والصحيح أنه النارُ، قاله مجاهد والحسن وأبو العالية.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي النار، بعضها أسفل من بعضٍ.

وقالت طائفة، منهم قتادة، وعكرمة، وعطاء، والكلبي، وإبراهيم: أنه أرذل العمر، وهو مروي عن ابن عباس.

والصواب القول الأول؛ لوجوه:

أحدها: أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين، لا في لغةٍ، ولا عرفٍ. وإنما أسفل =

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= سافلين هو سجين، الذي هو مكان الفجار، كما أن عليين مكان الأبرار.

الثاني: أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليلٌ جداً، فأكثرهم يموت ولا يُرَدُّ إلى أرذل العمر.

الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في ردِّ من طال عمره منهم إلى أرذل العمر. فليس ذلك مختصاً بالكفار، حتى يستثني منه المؤمنين.

الرابع: أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار، بل جَعَلَهُ لجنسِ بني آدم، فقال:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، فجعلهم قسمين: قسماً متوفى قبل الكِبَرِ، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر، ولم يسمِّهِ أسفل سافلين.

الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين. وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون.

السادس: أن قول من فسر بأرذل العمر يستلزم خلوَّ الآية عن جزاء الكفار وعاقبته أمرهم، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس، فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود الأهم، وأخبر عن أمر يُعرف بالحس والمشاهدة، وفي ذلك هضم لمعنى الآية، وتقصير بها عن المعنى اللائق بها.

السابع: أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في بدئه ومَعَادِهِ، فمبدؤه: خلقه في أحسن تقويم، ومَعَادُهُ: ردُّه إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون. وهذا موافق لطريقة القرءان وعادته في ذكر مبدأ العبد ومَعَادِهِ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه؟

الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس، وإخراج الكلام عن ظاهره، والتكلف البعيد له.

فإنهم إن قالوا: إن الذي يُردُّ إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين، كابروا الحسَّ.

وإن قالوا: إن من النوعين من يُردُّ إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء، فمنهم من قدَّرَ ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا رُدُّوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة.

فهذا، وإن كان حقاً، فإن الاستثناء إنما وقع من الردِّ لا من الأجر والعمل.

ولما علِمَ أرباب هذا القول ما فيه من التكلف، خصَّ بعضُهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرءان خاصة، فقالوا: من قرأ القرءان لا يُردُّ إلى أرذل العمر. =

ص: 185

غير منقوصٍ، ولا محسوبٍ، ولا منقطِع (1).

= وهذا ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن الاستثناء عام في المؤمنين: قارئهم وأميهم.

وأنه لا دليل على ما ادَّعوه، وهذا لا يعلم بالحسِّ، ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه، واللَّهُ أعلمُ.

التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقِه في أحسن تقويمٍ، وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان، وعبادته وحده لا شريك له، فينقله حينئذٍ من هذه الدار إلى أعلى عليين، فإذا لم يؤمن به، وأشرك به، وعصى رسله، نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدَّله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم، صورةً من أقبح الصور في أسفل سافلين. فتلك نعمته عليه، وهذا عدْله فيه، وعقوبته على كفرانه نعمته.

العاشر: أنَّ نظير هذه الآية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ، فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك، والأجر الممنون هناك هو المذكور هنا، واللَّهُ أعلمُ». التبيان في أقسام القرآن (ص: 31 - 33).

وقد ذكرَ الطاهر بن عاشور في الآية فَهْماً جديداً استنبطَه، وهو فَهْمٌ قويٌّ تدلُّ عليه النصوص، ومُلَخَّصُه: أنَّ أحسنَ تقويم هي الفطرة التي فطرَ الله الناسَ عليها، وأن الردَّ إلى أسفل سافلين للكافر، وذلك ببُعْدِهِ عن فِطرته وكُفْرِه بالله، إلَاّ الذين آمنوا فاستقاموا على ما فُطِروا عليه، واستدلَّ لفَهْمِه هذا بحديث: «ما من مولودٍ إلَاّ يولَدُ على الفطرة

» وهو فَهَمٌ سديد، يتناسبُ مع المُرادِ من سياق الأقسام الواردة في النبوَّات، فتأمَّلْهُ واعتَبِره، والله الموفق والهادي إلى سواءِ السبيل.

(1)

وردَ اختلافٌ بين السلف في تفسير «مَمْنون» على أقوال:

1 -

غير منقوصٍ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.

2 -

غير محسوبٍ، وهو قول مجاهد من طريق ابن جريج وابن أبي نجيح، وإبراهيم النخعي من طريق حماد.

3 -

غير مقطوع.

قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: فَلَهُم أجرٌ غير منقوص، كما كان له أيام صحَّته وشبابه، وهو عندي من قولهم: حبلٌ مَنين: إذا كان ضعيفاً، ومنه قول الشاعر:

أَعْطَوا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثَمَانِيَة

مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ

يعني: أنه ليس فيه نقص، ولا خطأ». =

ص: 186

7 -

قولُه تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} ؛ أي: فأيُّ شيءٍ يجعلُكَ أيها الإنسانُ بعدَ هذا البيانِ لا تصدِّقُ بيومِ الحساب (1)، وقد وَضَحَتْ دلائلُ

= وسببُ هذا الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ «ممنون» ، وهو محتملٌ لما قيل من هذه التفاسير، ويكون الاختلاف فيه راجعاً إلى أكثرِ من معنى، والله أعلم.

(1)

أوردَ الطبريُّ في تفسير «الدين» قولين:

الأول: الحساب، وذلك عن عكرمة من طريق النضر بن عربي.

والثاني: حُكْمُ الله، عن ابن عباس من طريق العوفي، ثمَّ قال:«وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الدين في هذا الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أنَّ أحدَ معاني الدِّين في كلام العرب: الجزاء والحساب، ومنه قولهم: «كما تَدينُ تُدان» ، ولا أعرِفُ في معاني الدِّينِ الحكمَ في كلامهم، إلَاّ أن يكونَ مُراداً بذلك: فما يُكذِّبُكَ بعدُ بأمرِ الله الذي حكمَ به عليكَ أن تُطيعه فيه، فيكون ذلك».

يُحْتَمَلُ أن ابن عباس فسَّر الدين هنا بالشريعة، وهي حُكْمُ الله، ومنه قوله تعالى:{مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]؛ أي: في حُكمه، والطبري قد فسَّره بهذا المعنى في هذه الآية، وهو ما أشارَ إليه في توجيه ما روي عن ابن عباس، ويكون المعنى على قول ابن عباس: فمن يكذِّبُكَ بعدَ هذا البيان بحُكم الله الذي أنزلَه عليك، وهذا معنًى مُحتمل، وإن كان الأول أنسب منه للسياق، وعليه فهو أرجح، وبهذا يكون الخلافُ بسبب الاشتراك اللغوي في لفظ «الدين» ، ويكون الخلاف فيه راجعاً لمعنيين محتمَلين.

ويُحتمل أن ابن عباس أرادَ بالحُكم القضاء، وكأنه اعتبر في هذا التفسير الآية بعدها، ويكون المعنى: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذا البيانِ في حُكم الله وقضائِه، وهو أحكمُ الحاكمين، والله أعلم.

ومما يلاحظ في ترجيح الطبري أمران:

الأول: أنه رجَّح قول التابعي تلميذِ ابن عباس على قول شيخه الصحابيِّ ابن عباس، وهذا يُشْعِرُ بأن الطبريَّ يجعلُ مفسِّري السلفِ في التفسير في طبقةٍ واحدة عند الترجيح، ولا يقدِّم قول فلان لأنه من الصحابة، وهذا المنهجُ هو الغالبُ عليه، وإن كان في بعض المواطِنِ يقدِّم قولَ الصحابة وينبِّه على ترجيحِه لقولهم؛ لأنهم الصحابةُ العالمينَ بالتنزيل، وهذا منهجٌ يحتاجُ إلى استقراءٍ ودراسة.

الثاني: أنَّ الطبري قال: ولا أعرفُ من معاني الدين في كلامهم

، ألا يكفي ورود تفسير هذه اللفظة عن حَبْرِ الأمة ابن عباس، وهو عربيٌّ يُحتجُّ بعربيَّتِه؟!

ص: 187

صِدْقِه؟، أو من يُكَذِّبُكَ يا محمد صلى الله عليه وسلم بعدَ هذا البيانِ بيومِ الحساب (1)؟.

8 -

قولُه تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؛ أي: أليسَ اللَّهُ العالمُ بعبادِه بأحكَم من فصَلَ بين عبادِه وقضى بينهم، فلا يظلِمُهُم، ولا يجورُ عليهم (2)؟، والله أعلم.

(1) هذا مُقتضى تفسير مجاهد والكلبي، حيث جعلا الخطابَ للإنسان. ومن جعل الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: فمن الذي يكذِّبك بعدَ هذا البيان بالدين. وقد اختاره الطبري، فقال:«وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى «ما» معنى «من» ، ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذِّبك يا محمد بعدُ بالذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين؛ يعني: بطاعة الله، ومجازاتِه العبادِ على أعمالهم».

وهما قولان محتَملان، والأول يُبقي «ما» على معناها بلا تأويل، والثاني معنى معروفٌ في «ما» وقد سبق مثله في سورة الشمس وغيرها.

ولذا يمكن أن يقال أنَّ سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في دلالة «ما» على معنى الاستفهام، ومعنى الموصولية، ومن ثَمَّ يكون الاختلاف راجعاً إلى معنيَيْنِ محتمَلين، والله أعلم.

(2)

وردَ في مُرْسَلِ قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» .

وورد كذلك عن ابن عباسٍ من طريق سعيد بن جبير أنه يقول: «سبحانكَ اللَّهُمَّ، وبلى» . وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، قال:«كان قتادة إذا تلا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفعُ ذلك، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]؟ قال: بلى، وإذا تلا: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] قال: آمنت بالله، وبما أنزل» .

ص: 188