الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النازعات
آياتها:46
سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
سورةُ النَّازِعات
1 -
قولُه تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} : يُقسِمُ ربُّنَا بالملائكةِ التي تجذبُ أرواحَ الكفَّارِ من أجسادِهم عند الموت جذباً شديداً، كما يَشُدُّ الرامي بالقَوسِ السَّهْمَ إلى آخرِ مداه (1).
(1) وقع خلاف في تفسير النَّازعات بين مفسِّري السلف على أقوال:
1 -
الملائكة التي تجذب روحَ الكافرِ من أقاصي بَدَنِه، عن ابن مسعود من طريق مسروق، وابن عباس من طريق العوفي وأبي صالح، وعن مسروق، وسعيد بن جُبير.
2 -
الموتُ ينزع النفوس، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
3 -
النجومَ تنزِعُ من أُفُقٍ إلى أُفُق، وهو قول الحسن من طريق أبي العوام، وقتادة من طريق معمر.
4 -
القُسِيُّ تنزع بالسهم، وهو قول عطاء.
5 -
النفس حين تُنزع، وهو قول السدي من طريق سفيان.
وإذا تأملتَ هذه الأقوال، فإنك ستجدها جاءت على دلالة اسم الفاعل؛ أي أنها نازِعة، عدا قول السدي الذي حمل اسم الفاعل على المفعول، وفيه نظر.
كما أنها جعلت فعل النازعات من قبيل المتعدِّي؛ كقوله تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ} ، سوى قول من قال هي النجوم، فالفعل عنده لازمٌ لا يحتاج إلى مفعول.
وجاء اسم الفاعل، ولم يذكر مفعوله لأن النزع هو المقصود في المقام، كما جاء جمعاً لتأويله بالجماعات النازعات.
وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببُ هذا الخلاف أنَّ هذه أوصافٌ لم يُذكر موصوفُها، وهي صالحةٌ لأن تُحمَل على كل ما قيل فيها ـ كما قال ابن جرير ـ وعليه فهي من قَبيل المتواطئ، غير أن الراجحَ من أقوال المفسرين، أن النازعات وما بعدها من الأوصافِ هي للملائكة، وعلةُ ذلك أن المفسِّرين أجمعوا على أن المدبِّرات هي الملائكة، ودلَّت الفاء في قوله تعالى:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} على أنها =
2 -
قولُه تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} : ويقسمُ بالملائكةِ التي تَسُلُّ روحَ المؤمنِ من جسدِه بخفَّة وسهولةٍ (1).
3 -
قولُه تعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} : ويقسمُ بالملائكة التي تجوبُ آفاقَ السماء، وتنزِلُ إلى الأرضِ بأمر الله (2).
= متفرِّعة عن جملة: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} [النازعات: 4]، وهذه الجملة متفرِّعةٌ عن جملة:{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3]، وعليه فهذه الأوصاف الثلاثة في الملائكة، وكون الوصفين الأوَّلين فيهما أيضاً أولى؛ لاتحاد هذه الأوصاف في موصوف واحد. وتفريقُ الأوصاف على أجناسٍ مختلفة، مع هذا التأويل غير متمكن، ولا دليلَ عليه، والله أعلم. (انظر: التبيان في أقسام القرآن: 85).
(1)
اختلف السلف في الناشطات على أقوال:
1 -
الملائكة، وهو قول ابن عباس من رواية العوفي، وهو الراجح كما سبق في النازعات.
2 -
الموت، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد أدخل ابن جرير ابن عباس والسدي في من قال بهذا القول، ولا يتضح دخولهما فيه؛ لأن عبارتهما مجملة، وقد صرَّح السدي بالسند نفسه في تفسير «النازعات» أنها النفس، والأَوْلى أن يحمل هنا عليها، فيكون قوله في الناشطات كقوله في النازعات. أما ابن عباس فقد ورد بالسند نفسه في تفسير النازعات، وجعله تحت قول من قال هي الملائكة، مع أن عبارته مجملة كذلك، حيث قال: النازعات: حين تنزع نفسه، والناشطات: حين تنشط نفسه، وهذا مشكل، والله أعلم.
3 -
أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق، وهو قول قتادة من طريق معمر.
4 -
أنها الأَوْهاق، وهي الحبل يُرمى في أُنشوطة، فتؤخذ به الدابة أو الإنسان، وهو قول عطاء.
(2)
السبح يطلق على العوم في الماء والمرور في السماء؛ كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . [الأنبياء: 33] وقد اختلف السلف في المراد بالسابحات على أقوال:
1 -
الملائكة، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد ذكر ابن كثير أنه قول ابن مسعود، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح.
2 -
أنها الموتُ يسبحُ في جسد الإنسان، وهو قول مجاهدٍ أيضاً، وقد اختُلف عليه، ويظهر أن هذا القول هو اختياره؛ لأنه مرَّ بالأسانيد نفسها في تفسير النازعات والناشطات أنها الموت، وكون هذا أشبه بما قبله عنده أظهر من كونه قال بغيره ما دام قد ورد عنه، =
4 -
قولُه تعالى: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} : عَطَفَ السابقاتِ على السابحاتِ بالفاء، ومعنى ذلك: أنَّ السابقات من جنس السابحات، وهي الملائكة التي يسبِقُ بعضُها بعضاً في تدبير أمر الله تعالى (1).
5 -
قولُه تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} : أجمع المفسِّرون على أنها الملائكة التي تنفِّذُ ما أمر الله به من قضائه (2)؛ كالملائكة الموكَّلون بأعمال العباد، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بالجنة، وغيرهم.
وجوابُ هذه الأقسام محذوف (3)، ولما كان موضوع السورة في البعث، جاز تقديرُ الجواب بـ «لَتُبْعَثُنَّ» ، ويكون المعنى: والنازعات لتبعثنَّ، وهكذا.
6 -
7 - قولُه تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ؛ أي لتبعثُنَّ
= والله أعلم. وقد علَّق أبو جعفر الطبري على هاتين الروايتين بقوله: «هكذا وجدته في كتابي» ، وهذا يدل على استشكاله في الرواية التي عنده عن مجاهد، والله أعلم.
3 -
أنها النجومُ تسبحُ في فَلَكِها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد.
4 -
أنها السفنُ تسبحُ في الماء، وهو قول عطاء.
(1)
وقع في السابقات اختلاف بين السلف على أقوال:
1 -
الملائكة، وهو قول مجاهد، قال ابن كثير:«ورُوي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري» .
2 -
الموتُ، وهو قولُ مجاهد. (انظر التعليق السابق في السابحات على قولي مجاهد).
3 -
الخيلُ، وهو قول عطاء.
4 -
النجوم، وهو قول قتادة من رواية معمر وسعيد.
(2)
الغريب أن قولَ قتادة في هذه الآية أنها الملائكة، مع أن قوله في ما سبقَ من الأوصاف أنها النجوم، ولم يذكر ابن جرير غير قول قتادة، فلم يرِد عنده فيها خلاف في هذه الآية، كما وقع في سابقاتها، وقد حكى الإجماعَ السمعاني في تفسيره، وابن القيم في التِّبيان في القرآن:86. وقال ابن عطية: «وأما المدبِّرات فلا أحفظ فيها خلافاً»، وقال ابن كثير: «
…
هي الملائكة
…
ولم يختلفوا في هذا».
(3)
انظر: (تفسير الطبري، ط: الحلبي: 30:32، والتبيان في أقسام القرآن: 87).
يوم تهتزُّ وتضطربُ الأرضُ بسبب النفخة الأولى التي تتبعُها النفخةُ الثانية (1).
8 -
قولُه تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ؛ أي: قلوبُ خلقٍ من خلقه يوم تقعَ هذه الأحداثُ، خائفة (2).
9 -
قولُه تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ؛ أي: أبصارُ أصحابها ذليلة مما قد نزلَ بها من الخوفِ والرُّعب (3).
10 -
قولُه تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؛ أي: يقول أصحاب هذه القلوب الذين أنكروا البعثَ في الدنيا: أنرجعُ إلى الحياة بعد أن نموتَ ونُدفَنَ تحت التراب؟ (4).
(1) عبَّر جمهور السلف عن الراجفة بأنها النفخة الأولى، والرادِفة: النفخة الثانية، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعن الحسن من طريق أبي رجاء، وعن قتادة من طريق سعيد، وعن الضحَّاك من طريق عبيد المكتب.
وعبَّر مجاهد وابن زيد عن الراجفة بأنها الأرض ترجف، وهذا غير مخالف للأول؛ لأنها ترجف بسبب النفخة، كما في القول الأول، وجعل مجاهد وقت الرادِفة مقروناً بانشقاق السماء، فقال:«هو قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فدُكَّتا دكَّة واحدة» ؛ أي: الرادفة هي دكُّ الأرضِ بالجبال. وهذا خلاف لما علية أهل القول الأول، وهم الجمهور، إلا أن يقال إن هذا يكون بعد النفخة الثانية فيلتئِم قوله مع قولهم، والله أعلم.
أما ابن زيد فعبَّر عن الرادفة بالساعة، وهذا غير مخالف، لأن الساعةَ لا تقومُ إلا بالنفخة الثانية، والله أعلم.
(2)
هذا من عبارة الطبري في تفسير هذه الآية، وكذا ورد تفسير «واجفة» عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.
وأفاد التنكيرُ في «قلوب» : التكثير؛ أي: قلوبٌ كثيرة خائفة في هذا اليوم.
(3)
الضمير في ظاهر الكلام يعودُ إلى القلوب، والمرادُ أصحاب القلوب، فعبَّر عنهم بجزء منهم، وهي القلوب، التي هي محلُّ الخوفِ والإذعان، ثم يظهر بعد ذلك على الأبصار، والله أعلم.
(4)
هذه الجملة مستأنفة للحديث عن أصحاب هذه القلوب الواجفة في الحياة الدنيا، =
11 -
قولُه تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} ؛ أي: كيف نرجِعُ إلى حالِنا الأوَّل، وقد تحلَّلت أجسامُنا وصِرنا عظاماً باليةً فارغة (1).
= والاستفهام جاء على سبيل التعجُّبِ من حُصول البعث الذي ينكره هؤلاء، وجاء الفعل «يقولون» مضارعاً؛ لإفادة تجدُّد هذا الحديث، وحصوله منهم مرة بعد مرة.
والحافِرة عند العرب: رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه، يقولون: رجع فلان إلى حافرته؛ أي: إلى طريقه الذي جاء منه؛ كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض في حال رجوعه، ومنه قول الشاعر:
أحافِرةٌ على صَلَعٍ وشيبِ
…
معاذَ الله من سَفَهٍ وطيشِ
وقد ورد خلاف بين السلف في تفسير الحافرة على أقوال:
1 -
الحياة بعد الموت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعطية العوفي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، ومحمد بن قيس أو محمد بن كعب القرظي، والسدي من طريق سفيان الثوري.
2 -
الأرض، وهو قول مجاهد من طريق عبد الله بن أبي نجيح، وقال:«الأرض، نبعث خلقاً جديداً» . وقوله في ما يظهر لا يخالف القولَ الأولَ إلا في العبارة، والنتيجة واحدة في القولين؛ لأن العودَ للحياة سيكون على الأرض، وهذان القولان يناسبان المعنى اللغوي للحافرة؛ لأنهما يدُلَاّن على أن الإنسان يعود إلى ما كان عليه قبل موته، والله أعلم.
3 -
النار، وهو قول ابن زيد، وقد جعل الحافرة اسماً للنار، وهو مخالف لقول الجمهور، ولو لم ينص على أنها من أسماء النار لاحتمل أن يكون تفسيره مقبولاً على أنه أراد التنبيه على المآل الذي يصيرُ إليه الكافر، فيكون تفسيره على المعنى، لا على مطابق اللفظ، وسياقُ الآيات بعدَها يُضعف أن يكون المراد بالحافرة النار؛ لقوله:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14] على ما سيرِد في تفسيرها، والله أعلم.
(1)
عبَّر ابن عباسٍ من طريق العوفي عن ذلك بالفانية البالية، وعبَّر قتادة من طريق سعيد بالبالية، وعبَّر مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمرفوتة، أي: المحطمة المدقوقة. وهذا من اختلاف التنوع الذي يكون التعبير فيه عن المعنى بألفاظ متقاربة.
وقد ورد في لفظ «نخِرة» قراءتان: الأولى بلا ألف، والثانية بألف على وزن فاعل، ومعناهما واحد، وقيل باختلافهما في المعنى. فالنَّخِرَة: البالية، والنَّاخِرة، المجوَّفة التي تنخر الريح في جوفِها إذا مرت بها، وتفسير السلف يدل على أن معناهما واحد، إذ لم يرد عنهم التفريق بين المعنيين، والله أعلم.
12 -
قولُه تعالى: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} ؛ أي: إنَّ الرجعةَ إلى الحياةِ بعد المماتِ رجعةٌ لا خيرَ فيها، بل فيها غَبْنٌ لهم (1).
13 -
قولُه تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ؛ أي: إنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبيرِ عناءٍ، بل هي صيحةٌ واحدةٌ لا ثانيةَ لها ينفُخُها إسرافيلُ في الصُّور، فيقومونَ من قبورهم أحياء (2).
14 -
قولُه تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ؛ أي: بعد أن يسمَعوا الصَّيَحةَ فإنهم سُرعانَ ما سيكونونَ على الأرض (3).
(1) كذا قال قتادة من طريق سعيد، وابن زيد.
(2)
كذا جاء عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن زيد.
(3)
ورد خلاف بين السلف في تفسير السَّاهرة على أقوال:
1 -
الأرض، وهو قول ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وعكرمة من طريق حصين وعمارة بن أبي حفصة، والحسن من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد بن جبير من طريق عكرمة وأبي الهيثم، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
2 -
اسم مكان معروف من الأرض، وهو بالشام، ورد ذلك عن عثمان بن أبي العاتكة وسفيان الثوري، وهذا القول يمكن أن يُحتمَل على أنهم أرادوا تعيين أرض المحشر، وأنها جزء من الأرض، لا أن السَّاهرة عَلَمٌ مخصوصٌ بهذا المكان دون الأرض.
وقال وهب بن منبِّه: هو جبل إلى جنب بيت المقدس، وهذا إن كان أراد أن هذا الجبل بعينه هو الساهرة، فإنه غير صحيح، وهو مخالف لما عليه جمهور السلف، وإن كان إنما ذكر جزءاً من أرض المحشر التي يحشر الناس إليها، فيمكن أن يُحتمل قوله على هذا التوجيه، والله أعلم.
3 -
وقال قتادة: في السَّاهرة: في جهنَّم. وهذا مخالف لما ورد عن الجمهور، ولا يظهر موافقته لقولهم من أي وجه، والله أعلم.
والقول الأول، وهو قول جمهور السلف، هو القول الراجح، وهو المعروف من لغة العرب، قال أمية بن أبي الصَّلْت:
وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر
…
وما فاهوا به أبد مقيم
وإنما سمِّيت الأرض بهذا الاسم؛ لأن فيها نومَ الحيوانِ وسهرَهم، فسمِّيت بذلك للملابسة، والله أعلم. انظر: معاني القرآن للفراء، وتفسير الطبري.
15 -
16 - قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى *إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى} : استفهامٌ للتشويق لخبرِ موسى بن عمران، والمعنى: هل جاءك خبرُ موسى حين كلَّمه الله نداءً في وادي طُوى المطهَّر (1).
17 -
قولُه تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ؛ أي: ناداه أنِ اذْهَبْ إلى فرعونِ مصر، إنه قد تجاوزَ الحدَّ في العُدوان والتكبُّر (2).
18 -
قولُه تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؛ أي: اعرض عليه أن
(1) اختلفت عبارة السلف في تفسير طُوى على أقوال:
الأول: أنه اسم الوادي، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وهذا هو أظهر الأقوال، والله أعلم.
الثاني: أنه أمرٌ لموسى بأن يطأ الأرضَ بقدميه، عن ابن عباس من طريق عكرمة، ومجاهد من طريق ابن جُريج، وعكرمة من طريق يزيد.
الثالث: بمعنى الذي طويتَه، عن ابن عباس من طريق العوفي. ويكون المعنى: بالوادي المقدَّس الذي طواه موسى مشياً بقدميه، ويكون «طُوى» مصدراً خرجَ من غير لفظه.
الرابع: أن طُوى بمعنى مرتين، عن الحسن من طريق ابن جريج، ومجاهد من طريق ابن جريج. ويكون ـ على قولهم ـ مصدراً من غير لفظه، وهو الشيء الذي يثنَّى؛ أي: يكرَّر مرة بعد مرة، وقد يكون مفعولاً مطلقاً للمقدَّس، ويكون المعنى: بالوادي المقدس مرتين، أو يكون لناداه، فيكون المعنى: ناداه مرتين في الوادي المقدس.
وهذه التفاسير مبنيَّة على قراءة طُوى، فقُرئت بالتنوين طوى، وبتركه. (انظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي: 16: 146 - 147).
(2)
فِرعون لَقب ملِك مصرَ في عهد الفراعنة، وقد كان في عصر إبراهيم ويوسف يلقَّب بالملك، كما ورد في سورة يوسف وفي قصة إبراهيم في السنَّة، وهذا يعني أن مصر مرَّت بمرحلتين في الحكم، وهي مرحلة الملوك، وهم من يُطلق عليهم في التاريخ المصري «الهِكْسُوس» ، ومرحلة الفراعنة، ومنهم فرعون موسى الذي تربَّى موسى في بيته. وهل فرعون الولادةِ هو فرعون الخروج، أم لا؟ في ذلك خلاف بين المؤرخين الذين درَسوا هذه الفترة، ونصُّ القرآن يعطي أنه فرعونٌ واحد؛ كقوله تعالى:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] والله أعلم بما كان، وليس في ذلك كبير أهمية، غير أن النفس تتطلَّع لما غاب عنها بشيء من الاهتمام.
يتطهَّر من الكُفر والتجبُّر، فيُسْلِم لله (1).
19 -
قولُه تعالى: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ؛ أي: أدلُّكَ وأرشدُكَ إلى الطريق الموصلِ لمن ملَكَكَ بربوبيته، وهو الاستسلام لله، فيخضعُ قلبك ويلينُ ويُطيع، بعد أن كان قاسياً بعيداً عن الخير (2).
(1) عبَّر عكرمة عن التزكي بأن يقول: لا إله إلا الله، وهذا أول ما يدخل به المتزكي الإسلام، وقال ابن زيد: أن تُسلِم، قال:«والتزكِّي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}، قال: من أسلم، وقرأ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3]، قال يُسلِم، وقرأ: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]: أن لا يُسلِم» . وفي هذا فائدتان:
الأولى: أن السلف يَرِدُ عنهم مثل هذه الكليَّات التفسيرية، وهي تحتاج إلى جمع، ثم استقراء مواقعها في القرآن، للنظر في تطابق هذه الكليَّة على جميع الآيات، فتكون بعد ذلك مصطلحاً قرآنياً في اللفظة.
الثانية: أن ابن زيد يُكثر من ذكر النظائر القرآنية، وهو مِمَّا يُدخل بتفسير القرآن بالقرآن، وهذه المسألة صالحة للدراسة لمعرفة طريقة ابن زيد في هذا الأسلوب التفسيري.
(2)
علَّق ابن القيم في كتابه (التِّبيان في أقسام القرآن: 88) على ما في هاتين الآيتين من لِين الخطاب، أنقله بطوله لما فيه من الفائدة. قال: «ثم أمره أن يخاطبَه بألْيَن خطابٍ، فيقول:{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى *وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18 - 19]، ففي هذا من لُطف الخطاب ولِينه وجوه:
أحدها: إخراجُ الكلامِ مخرجَ العَرْضِ، ولم يخرجه مخرج الأمرِ والإلزام، وهو ألطف، ونظيره قول إبراهيم لضيفه المُكْرَمين:{أَلَاّ تَاكُلُونَ} [الذاريات: 27]، ولم يقل: كلوا.
الثاني: قوله: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ، والتزكي: النماء والطهارة والبركة والزيادة، فعرض عليه أمراً يقبله كل عاقل ولا يردُّه إلا كل أحمقٍ جاهل.
الثالث: قوله: {تَزَكَّى} ولم يقل: أزكِّيك، فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يُخاطَب الملوك.
الرابع: قوله: {وَأَهْدِيَكَ} ؛ أي: أكون دليلاً لك، وهادياً بين يديك. فنسب الهداية إليه، والتزكي إلى المخاطب؛ أي: أكون دليلاً لك وهادياً، فتزكى أنت، كما تقول للرجل: هل لك أن أدُّلك على كنز تأخذ منه ما شئت؟ وهذا أحسن من قوله: أعطيتك.
الخامس: قوله: {إِلَى رَبِّكَ} ، فإن في هذا ما يوجب قَبول ما دلَّ عليه، وهو أن يدعوه ويوصله إلى ربه: فاطره وخالقه الذي أوجده، وربَّاه بنعمه: جنيناً، وصغيراً، وكبيراً، وآتاه الملك. وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام: كما تقول لمن خرج عن طاعة =
20 -
قولُه تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} ؛ أي: فأظهرَ موسى عليه السلام لفرعونَ العصا واليدَ علامةً واضحةً على نبوَّتِه وصدقِه فيما جاء به (1).
21 -
قولُه تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} ؛ أي: كانت نتيجة هذه المقابلة وعرض الآية أن لم يصدِّقها فرعون، وخالفَ ما أمرَهُ به موسى عليه السلام من الطاعة.
22 -
قولُه تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} ؛ أي: ثم أعرضَ عن الإيمانِ بما جاء به موسى عليه السلام ومضى في عملِ الفساد.
23 -
24 - قولُه تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى *فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ؛ أي: من سعيِه بالفساد أنه جمعَ قومَه وأتباعَهُ، ونادى فيهم قائلاً: أنا ربُّكُمُ الأعلى، وفي هذه ردٌّ لما جاء به موسى عليه السلام من دعوته لربِّه، فزعَمَ أنه ربٌّ لقومه.
25 -
قولُه تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} ؛ أي: فنالَهُ اللَّهُ بعقوبةِ الدنيا بالغرق، والآخرةِ بالنار، على ما فعلَه في أوَّل أمرِه وآخِرِه (2).
= سيده: ألا تطيعَ سيدَكَ ومولاكَ ومالككَ؟ وتقول للولد: ألا تطيع أباكَ الذي ربَّاك.
السادس: قوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ؛ أي: إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته؛ لأن من عرَف الله خافه، ومن لم يعرفه لم يخفه، فخشية الله مقرونة بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية.
السابع: أن في قوله: {هَلْ لَكَ} فائدة لطيفة، وهي أن المعنى: هل لك في ذلك حاجة أو إِرَبٍ؟ ومعلوم أن كل عاقل يبادر إلى قَبول ذلك؛ لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته، لا إلى حاجة الداعي، فكأنه يقول: الحاجة لك، وأنت المتزكي، وأنا الدليل لك، والمرشد لك إلى أعظم مصالحك
…
(1)
فسَّر السلف الآية بأنها العصا واليد، وفي هذا إشارة إلى أنَّ لفظَ الآية في الآية يرادَ به جنسها، لا أنها آية واحدة.
(2)
وقع خلافٌ بين السلف في الآخرة والأولى، وسببه أنه وصفٌ لموصوف محذوف، فقال كل منهم ما يناسب هذا الموصوف من الأوصاف على سبيل التواطؤ، وكل الأقوال =
26 -
قولُه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} ؛ أي: إنَّ في ما حَدَثَ لفرعونَ موعظةً لمن يتَّعِظ ويخافُ عقابَ الله (1).
27 -
قولُه تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} يقول تعالى للمكذِّبين بالبعثِ القائلينَ: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} : أأنتم أيها الناسُ أصعبُ في الإيجاد، أم إيجادُ السماء وابتداعها أصعب؟ ولا شك أنَّ خلقَ السماء أصعب، وفي هذا دلالةٌ على وقوعِ البعثِ الذي أنكروه.
ثم بيَّن كيفيةَ خلقِهِ للسماء بجُمَلٍ متعاقِبة، فقال:{بَنَاهَا} ؛ أي: شيَّدَها.
28 -
قولُه تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} بيَّن كيف بِناؤها بقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} ؛ أي جعل ارتفاعَها ارتفاعاً عالياً في البناء، معتدلَةَ الأرجاء، لا فُطور فيها، ولا تفاوت.
29 -
قولُه تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ؛ أي: جعلَ ليلَ السماءِ
= محتَمَلة، وأقوالهم كالآتي:
الأول: آخر كلامه وأوله، وهو قوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقوله:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وهذا قول ابن عباس من طريق أبي الضحى والعوفي، ومجاهد من طريق عبد الكريم الجزري وابن أبي نجيح، والشعبي من طريق إسماعيل الأسدي وزكريا، والضحَّاك من طريق عبيد.
الثاني: الآخرة والدنيا، عن الحسن من طريق عوف وقتادة، وعن قتادة من طريق سعيد.
الثالث: الأولى: تكذيبه وعصيانه، والآخرة: قوله: أنا ربكم الأعلى، عن أبي رزين من طريق إسماعيل بن سميع.
الرابع: أولُ عملِه وآخرُ عملهِ، وهو قول مجاهد من طريق منصور، والكلبي من طريق معمر.
(1)
جاءت قصة موسى مع فرعون بين إنكار المنكِرين للبعث وبين أدلته التي تبدأ بقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} ، وفيها إشارة إلى تهديد هؤلاء المنكِرين بأن الله قد عذَّب من هو أشد منهم قوة، وأنهم لا يُعجزونه إن لم يؤمنوا بما جاء به نبيُّه أن يقع بهم ما وقع بفرعون، والله أعلم.
مظلماً، وأظهرَ ضُحاها بنور الشمس (1).
30 -
قولُه تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ؛ أي: بسَطَ الأرضَ (2) بعد خلقِ السماء وإغطاشِ ليلِها وإخراجِ ضُحاها (3).
31 -
قولُه تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} ؛ أي: أظهرَ من الأرضِ ماءها وكلأها من النبات (4).
(1) لمَّا كان طلوعُ الشمس وغروبها ينتجُ عنهما ظلمة الليل وضَوء الضُّحى، والشمس في السماء، أضاف ظلمة الليل وضَوء الضحى إليها. هذا من قول الطبري في تفسيره.
(2)
ورد التفسير بذلك عن: قتادة من طريق سعيد، والسدي من طريق أبي حمزة، وسفيان من طريق عبد الرحمن.
وعبَّر ابن زيد عن ذلك بقوله: «{دَحَاهَا} حرثها وشقَّها، وقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]، وقرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} حتى بلغ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 29 - 31]، وقال: حين شقَّها أثبت هذا منه، وقرأ: {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12]» . فجعل الدَّحو مفسَّراً بما بعدها، وكذا ورد عن ابن عباس. وهذا من تمام الدَّحْوِ لا من تفسيره على لفظه، والله أعلم.
(3)
أشكل على بعض العلماء هذ النظم في سياق خلق السماء والأرض، ذلك أنَّ الله ذكرَ في أكثرَ من موضعٍ خلقَ الأرض قبل خلق السماء؛ مثل قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، وقال:{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 12].
والجواب الصحيح في ذلك ما ذهب إليه حَبْرُ الأمة ابن عباس، وفَحْوَاه: أنَّ الله خلق الأرض في يومين غير مَدْحُوَّةً، ثم استوى إلى السماء فخلقها، ثم دحا الأرض، فالخلق غير الدَّحو الذي تتحدث عنه آية النازعات. انظر:(تفسير الطبري، وفتح الباري، سورة فصِّلت من كتاب التفسير)، وانظر:(تأويل مشكل القرآن: 67، وتهذيب اللغة: 2: 243).
وقد جعل مجاهد والسدِّي المعنى: والأرض مع ذلك دحاها، وهذا يبين أن الإشكال قد ورد عليهما، فخلصا منه بهذا التأويل، وهو ضعيف؛ لأن دلالة الآية واضحة على قول ابن عباس، ولا تحتاج إلى تأويل «بعد» بمعنى «مع» ، وبقاء اللفظ على معناه، مع صحة تأويل الآية، أَوْلى من جعله بمعنى لفظٍ آخر يُحمل عليه تأويل الآية.
وقد ذكر بعض اللغويين أن «بعد» بمعنى «قبل» ، وهذا لتخريج الإشكال الوارد على الآية، ويقال فيه ما قيل في القول الذي قبله.
(4)
هذا الإخراج من توابع دَحْوِ الأرض، والآية تُثبت أن الماء الذي في الأرض أصله من =
32 -
قولُه تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} ؛ أي: ثبَّتَ الجبالَ في الأرض، فهي مثبِّتةٌ للأرض، والأرض مثبتة لها (1).
33 -
قولُه تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} ؛ أي: ما ذكرَهُ من خلقِ السماء ودَحْوِ الأرض وإرساءِ الجبالِ منفعةٌ لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامُكم مُدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.
34 -
قولُه تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} ؛ أي: إذا جاءت الساعة (2) التي تَطُمُّ ـ أي: تغمُر ـ كل هائلةٍ من الأمور فتغمُرُها بعظيم هَوْلِها، حتى لا يوجد أكبر منها، عرفوا سوءَ عاقبتهم وتكذيبهم بالبعث (3).
35 -
قولُه تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} ؛ أي: إذا جاءت
= الأرض؛ لقوله: {مِنْهَا} ، والمرعى في القرآن: مكان الكلأ والعُشب الذي تأكله البهائم، وقد ناسب ذكره هنا، لقوله بعد ذلك:{مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} ، وهو في النهاية يرجِع إليهم؛ لأن الأنعام من متاعهم، غير أن في ذكر الأنعام هنا إشارة إلى أن الأنعام تشاركهم في التمتُّع في الأرض، وأن عليهم زيادةً في ذلك، وهو الاعتبارُ والاتِّعاظُ بما أنعم الله عليهم به، لكيلا يكونوا كالأنعام أو أضل سبيلاً؛ كما قال تعالى:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه: 54]، والله أعلم.
(1)
تُثبت هذه الآية أن الجبال مُرساة، كما ورد في الآيات الأخرى أنها مُرْسيةٌ للأرض، وهذا يعني أن الجبال تثبت الأرض، كما أن الجبال ثابتة ـ أي: مُرْسَاة ـ في الأرض، فلو قُلِعَت من مكانها لما استقرت الأرض. والله أعلم.
(2)
قال ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة ـ في الطامَّة ـ: من أسماء القيامة، عظَّمَه الله، وحذَّره عباده.
(3)
هذا جواب إذا، وهو مُضمَر، وذكر الطبري عن القاسم بن الوليد الكوفي القاضي (ت: 141) في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} ، قال:«سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار» ، وتفسيره هذا يُشعِر بأنه جواب إذا، ويؤخذ منه أن الجوابَ يقدَّر بما يناسب السياق، والله أعلم.
وذكر في جوابِ إذا قولٌ آخَر، وهو مبني على قوله:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37]، وما بعدها، والتقدير: إذا جاءت الطامَّة الكبرى، كانت أحوالُ الطاغين كذا، وأحوالُ المتقينَ كذا، والله أعلم.
الطامَّة، كان من الإنسان المؤمنِ والكافرِ تذكُّر ما عمله في حياته من خيرٍ وشر (1).
36 -
قولُه تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} ؛ أي: جيء بجهنم فأُظهرت، ليراها من يُبصر في هذا اليوم، كما ورد في حديث ابن مسعود: يُؤتى بجهنم يومئذ، لها سبعونَ ألفَ زِمام، مع كل زِمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها (2).
37 -
قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} : تفصيلٌ في حال الفريقين من أهل السعي من الناس، فبدأ بالذي تجاوزَ الحدَّ في أعماله، وهو المكذِّبُ بالبعثِ؛ لأن السورة في النعي عليه، وإثباتِ ما أنكره.
38 -
قولُه تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ؛ أي: قدَّمَ الحياةَ الدنيا بما فيها من الملذَّات الزائلةِ على نعيمِ الآخرة.
39 -
قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَاوَى} ؛ أي: مآلُ هذا المكذِّبِ بالبعثِ ومسكنُه النارُ التي قد تجحَّمَت من شدَّة الإيقاد.
40 -
قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ، هذا الفريق الثاني، وهو من امتلأ قلبه بالخوف من قيامه أمامَ ربِّه، وكَفَّ نفسَه عن ما ترغَبه من المعاصي (3).
41 -
قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} هذا جوابُ أمَّا، والمعنى: أن الجنة هي مرجِعُ ومستقَر من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
(1) غَلَبَ استخدامُ لفظ السعي في القرآن على ما يعمله الإنسان من خير أو شر.
(2)
رواه مسلم، وقد ورد هذ المعنى في قوله تعالى:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91]، وقوله:{وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، ويلاحظ في هذه الأفعال أنها جاءت على صيغة المفعول دلالة على الاهتمام بالحدَث دون فاعلِه، كما يلاحظُ أنَّ الآية ذكرت مجيءَ النار دونَ الجنة؛ لأن المقام مع المكذِّبين بالبعث، فناسب ذلك ذكرها تهديداً، والله أعلم.
(3)
غَلَبَ اسم الهوى على ما هو مذموم.
42 -
قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؛ أي: يسألُك المكذِّبونَ بالبعث متى تقع الساعة؟.
43 -
قولُه تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} ؛ في أي شيء أنت من ذِكْرِ الساعة والبحثِ عن وقت وقوعها؟؛ أي ليس هذا من شأنِك، بل شأنُكَ الإعداد لها، كما قال صلى الله عليه وسلم للسائل عنها: ماذا أعددتَ لها.
44 -
قولُه تعالى: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} ؛ أي: إلى ربِّك مرجع علمِ وقوعِها، وعلم ما فيها.
45 -
قولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} : هذا بيانٌ لمَهَمَّة الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وهي تخويفُ الناس وتحذيرُهم من الساعة وأهوالها، وخصَّ الخائفينَ منها بالذِّكر لأنهم المنتفعونَ بها.
46 -
قولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ؛ أي: كأنَّ هؤلاء المكذبينَ بالبعث يوم يُعايِنون الساعةَ بأبصارهم، لم يمكثوا في هذه الدنيا إلا زمناً يسيراً، لا يتجاوز قَدْرُه آخرَ النهارِ، أو أوَّله، والله أعلم.