المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن - تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين

[منقذ السقار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن

- ‌القرآن كتاب الله المحفوظ

- ‌الجمع الكتابي للقرآن الكريم

- ‌جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر:

- ‌هل نقل شيء من القرآن بطريق الآحاد

- ‌الجمع العثماني:

- ‌هل القرآن الكريم من إنشاء محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: دلالة آيات العتاب:

- ‌ثانياً: أحداث تشهد بوحي القرآن:

- ‌ثالثاً: الكتاب المعجز:

- ‌رابعاً: الإخبار بالغيوب

- ‌خامساً: هل في القرآن ما يدل على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المصادر المزعومة للقرآن الكريم

- ‌أولاً: هل القرآن منقول من الكتاب المقدس

- ‌أ. حقائق الإيمان بين القرآن والكتاب المقدس

- ‌ب. قصص الأنبياء والأمم السابقة بين القرآن والكتاب المقدس

- ‌ج. الأحكام التشريعية بين القرآن والكتاب المقدس

- ‌ثانياً: هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من بَحيرا وورقة بن نوفل

- ‌ثالثاً: هل القرآن منحول من شعر امرئ القيس

- ‌رابعاً: هل القرآن منحول من شعر أمية ابن أبي الصلت

- ‌الناسخ والمنسوخ في القرآن

- ‌هل تغير النص القرآني في عصر الصحابة الكرام وبعدهم

- ‌أولاً: اختلاف مصاحف الصحابة

- ‌ثانياً: اختلاف الصدر الأول في قراءة بعض آيات القرآن الكريم

- ‌ثالثاً: هل أسقط ابن مسعود رضي الله عنه المعوذتين من مصحفه

- ‌رابعاً: هل أسقط ابن مسعود رضي الله عنه الفاتحة من مصحفه

- ‌خامساً: هل أخطأ نساخ القرآن في كتابة بعض كلماته

- ‌سادساً: هل في القرآن زيادة أو سقط أو جمل لم تكتمل

- ‌الأباطيل المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله

- ‌أولاً: نسبة صفات النقص إلى الله تعالى

- ‌ثانياً: هل يضل الله عباده

- ‌ثالثاً: هل يأمر الله بالفحشاء

- ‌رابعاً: هل يتحسر الله

- ‌خامساً: هل الكبر صفة محمودة

- ‌سادساً: هل الله لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها

- ‌سابعاً: هل شكّ القرآن في عدد قوم يونس عليه السلام

- ‌الأباطيل المتعلقة بما في القرآن عن أنبياء الله تعالى

- ‌أولاً: هل وقع آدم في الشرك

- ‌ثانياً: هل شك إبراهيم عليه السلام

- ‌ثالثاً: هل شك يونس عليه السلام في قدرة الله

- ‌رابعاً: همُّ يوسف عليه السلام

- ‌الأباطيل المتعلقة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: قصة الغرانيق

- ‌ثانياً: سحر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثالثاً: هل النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بالصرع

- ‌القرآن والمسيحية

- ‌أولاً: القرآن وألوهية المسيح

- ‌ثانياً: هل امتدح القرآن النصارى

- ‌ثالثاً: من أتباع المسيح

- ‌رابعاً: سؤال أهل الكتاب

- ‌خامساً: التوثيق المزعوم لكتب أهل الكتاب في القرآن

- ‌سادساً: هل الذكر المحفوظ هو كتب أهل الكتاب

- ‌سابعاً: هل نسب القرأن إلى المسيح صفة الخالقية

- ‌الأخطاء المزعومة في القرآن الكريم

- ‌أولاً: العين الحمئة

- ‌ثانياً: مريم أخت هارون

- ‌ثالثاً: هل القلوب العاقلة في الصدور

- ‌رابعاً: النجوم التي ترجم بها الشياطين

- ‌خامساً: هل القرآن يشجع على فعل المعاصي

- ‌سادساً: الجنة والخمر

- ‌سابعاً: هل أخطأ القرآن في ذكر السامري في عهد موسى

- ‌ثامناً: هل أخطأ القرآن بذكر هامان المصري

- ‌تاسعاً: هل يؤمن اليهود برسالة المسيح عليه السلام

- ‌الأخطاء اللغوية المزعومة في القرآن الكريم

- ‌أولاً: الأخطاء النحوية المزعومة في القرآن

- ‌ثانياً: الأخطاء البيانية المزعومة

- ‌المسألة السادسة: هل يعود الضمير على غير مذكور في السياق

- ‌المسألة السابعة: هل في القرآن ما هو لغو ولا معنى له

- ‌التناقضات المزعومة في القرآن الكريم

- ‌سوء الفهم لبعض آيات القرآن الكريم وألفاظه

- ‌المرأة في القرآن

- ‌أولاً: القوامة وظلم الزوجة

- ‌ثانياً: الأمر بضرب الزوجة

- ‌ثالثاً: تعدد الزوجات

- ‌رابعاً: حقوق المرأة والميراث

- ‌خامساً: شهادة المرأة

- ‌سادساً: طلاق المرأة

- ‌الرق والاسترقاق في القرآن الكريم

- ‌خاتمة

- ‌أهم المصادر والمراجع

الفصل: ‌منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن

‌منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن

لعل من المناسب قبل الشروع بذكر تفاصيل الأباطيل المثارة عن القرآن أن نتوقف مع بعض معالم المنهج الذي درج عليه مثيروها، حين افتقدوا كل صور الموضوعية العلمية، ولم يتركوا لمتابع منصف باباً للاعتذار لهم بعذر الجهل أو سوء الفهم، كيف يعذرهم وهو يلمح في هذه الشبهات والأباطيل معالم رئيسة مخزية لا تخطئها عين متأمل حصيف:

أ. الكذب في اختراع الأُبطولة:

الكذب حيلة من لا حيلة عنده ولا دليل، وهو مسلك درج في ظلماته مثيرو الشبهات والأباطيل حول القرآن الكريم حين أعيتهم الحيل أن يجدوا في القرآن مطعناً وملمزاً، فلما علموا أن الكذب بضاعة ينطلي باطلها على الكثيرين من الدهماء والعامة الذين لن يتيسر لهم اكتشاف هذه الأكاذيب؛ أشرعوا فيه سفنهم، فما زالوا يكذبون، حتى إخالهم لكثرته صدقوا أنفسهم فيما يدَّعون.

وصور كذبهم كثيرة، أكتفي بالتمثيل لها مبتدئاً بما قاله وهيب خليل في سياق حديثه عن معجزات المسيح المذكورة في القرآن:"وإن كان بعض المفسرين يحاولون أن يقللوا من شأن السيد المسيح في المقدرة قائلين: إنه يصنع هذا بأمر الله، فنجد أن الإسلام يشهد أن هذه المقدرة هي لله فقط"(1).

ومن المعلوم عند كل مسلم أو غيره مطلع على القرآن الكريم أن الذي أحال معجزات المسيح إلى قدرة الله وإذنه هو القرآن الكريم، وليس مفسروه {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} (المائدة: 110).

ومن الكذب زعم مؤلفي كتاب شهير؛ اختص بإثارة الأكاذيب على القرآن "التعليقات على القرآن" أن حفاظ القرآن الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن في عهد

(1) استحالة تحريف الكتاب المقدس، وهيب خليل، ص (133)، والقس وهيب خليل هو الاسم الحقيقي للقمص مرقس عزيز الذي يجدُّ حالياً في الطعن بالإسلام والكذب عليه في قناته الفضائية.

ص: 11

أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد .. فإن هؤلاء الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن .. ولما رأى أبو بكر هذا الحال جزع من ضياع القرآن"(1).

وقولهم هذا كذب صراح ولا ريب، لأن هؤلاء الأربعة أدركوا جميعاً عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أدركوا جمع أبي بكر رضي الله عنه، فأبو الدرداء رضي الله عنه ولي قضاء دمشق في عهد عمر رضي الله عنه، ومات قبل موت عثمان رضي الله عنه بسنتين.

ومعاذ بن جبل رضي الله عنه مات في خلافة عمر رضي الله عنه في طاعون عمواس سنة 17هـ.

وأما ثالثهم زيد بن ثابت فهو من جمع القرآن في عهد الصديق ثم عثمان، ومات سنة 45 هـ، أي في زمن معاوية رضي الله عن الجميع.

ورابعهم أبو زيد سعد بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه، وقد قتل يوم القادسية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).

ومن صور الكذب أيضاً طعن القس العربي الفلسطيني أنيس شروش في عربية القرآن أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، بقوله: "لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات والجمل الأجنبية في القرآن

في كتاب ادعى أن الله أوحاه بالعربية" (3)، ومن المؤكد أن القارئ العربي يعرف أنه لا يوجد في القرآن جملة واحدة غير عربية، فقد نزل بلسان عربي مبين، لكن الدكتور شروش يهذي بهذا أمام أعاجم، ولا يستحي من الكذب عليهم.

ولما أراد القبطي الأرثوذكسي ثروت سعيد تزكية المسيحيين واعتبارهم مؤمنين بشهادة القرآن الكريم قال في كتابه "حقيقة التجسد"، الذي قدمه

(1) تعليقات على القرآن، ص (29).

(2)

انظر تراجم الأربعة في الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر (4/ 747، 6/ 136، 2/ 592، 3/ 68).

(3)

مناظرة: القرآن الكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش، ص (115 - 116).

ص: 12

وراجعه له كل من الأنبا الكاثوليكي يؤانس زكريا والقس البرتستنتي الدكتور منيس عبد النور: "إذا كان اعتقاد القرآن بشرك النصارى؛ فلماذا يصرح في آياته بحلال الزواج من أهل الكتاب .. كما أن نبي الإسلام تزوج من اليهوديات والمسيحيات، وهن: مريم القبطية، وأنجب منها إبراهيم (المسيحية)، وريحانة بنت شمعون النضيرية (اليهودية)، وصفية بنت حيي بن أخطب القريظية (اليهودية)، وجويرية بنت الحارث المصطلقية (اليهودية) "(1).

وقوله بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من يهوديات ومسيحية كذب صراح، فإنما تزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخولهن في الإسلام.

ويكفي في بيانه أن ننقل بعضاً من الحوار الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وصفية حين أراد الزواج بها، فقد قال لها:«اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك» . فقالت صفية: يا رسول الله، لقد هويتُ الإسلام، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي (2). فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة.

وأما ريحانة فتكذب دعوى المبطلين، وتذكر أن رسول الله تزوجها بعد أن أسلمت، وتقول: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله وتزوجني، وأصدقني اثنتي عشرة أوقية (3).

ويواصل ثروت سعيد الكذب فيزعم أن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} (مريم: 71) ينبئ بدخول النار والإحراق فيها لكل بني آدم، وينقل عن

(1) حقيقة التجسد، ثروت سعيد رزق الله، ص (192 - 193).

(2)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 123)

(3)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 130).

ص: 13

"جلال الدين يفسر كلمة {وَارِدُهَا} بالدخول والاحتراق"(1)، وقد كذب في نِسبة الإحراق إلى السيوطي، فهو غير موجود في شيء من كتبه.

ثم يمضي المبطِل فيستشهد لكذبه وباطله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها» ، والحديث الذي يستشهد به ضعيف لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر قد يجهله فيعفى عنه في ذلك، لكن شيئاً لن يبرر نقله من الحديث ما يروق له، وإعراضه عن تمامه، لمناقضته قوله ودحضه كذبه، فالحديث بتمامه:«الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار - أو قال: لجهنم - ضجيجاً من بردهم {ثُمَّ يُنَجِّيْ اللهُ الذِّيْنَ اتْقَوا وَيَذَرُ الظَّالِمِيْنَ فِيْهَا جِثِيًّا} (مريم: 72)» (2)، فخاتمة الحديث تثبت نجاة المؤمنين من الإحراق، لكن الكذب والتدليس حيلة من لا حيلة عنده.

ب. تحريف معاني النصوص وتفسيرها بمعان مشكلة:

يلجأ الطاعنون في القرآن إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية وتفسيرها بمعان مشكلة لا يوافق عليها عالم من علماء المسلمين، ومن ذلك قول البابا شنودة: "ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا، وضع القرآن النصارى في مركز الإفتاء في الدين، فقال:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)، وقال أيضاً:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)(3).

(1) حقيقة التجسد، ثروت سعيد رزق الله، (35).

(2)

أخرجه أحمد في المسند ح (14560)، والحاكم في المستدرك (4/ 630)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ح (4761).

(3)

بين القرآن والمسيحية، البابا شنودة، ص (4)، وسيأتي دفع هذه الأبطولة.

ص: 14

ومثله في تحريف معاني النص القرآني قول مؤلفي كتاب "تعليقات على القرآن" في تعليقهم على قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38): "ولا شك أن القرآن لا يشتمل على أكثر العلوم من المسائل الأصولية والطبيعية والرياضية والطبية، ولا على الحوادث اليومية، بل ولا على ذات قصص الأنبياء؛ فإذن لا يكون كلامه هذا مطابقاً للواقع"(1)، فقد جهلوا أو تجاهلوا أن آية سورة الأنعام لا تتعلق بالقرآن، بل باللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال الطبري:"فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء؛ أحرى أن لا يضيع أعمالكم، ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها"(2).

والآية بمنطوقها واضحة في الدلالة على هذا المعنى الذي ذكره الطبري: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38)، ومثلها قول الله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6)، فالكتاب الذي حوى مقادير الخلائق وأرزاقها هو اللوح المحفوظ؛ لا القرآن الكريم.

ثم لو فرضنا أن القرآن هو مقصود قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فإن هذا العموم يفهم منه العقلاء معنى مخصوصاً يفهم من السياق، إذ من السخف بل والخبل أن يظن ظان أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية قصد أن القرآن يحوي أسماء رجال قريش أو أطعمة فارس أو أسماء البهائم التي خلقها الله، فهذا

(1) تعليقات على القرآن، ص (20).

(2)

جامع البيان (11/ 345).

ص: 15

لا يخطر ببال عاقل ولو كفر بالقرآن وجحده، لأنه سيحمل العموم في قوله {مِن شَيْءٍ} على المعنى المخصوص اللائق به ككتاب ديني، أي ما فرطنا في الكتاب من شيء يصلح حياة الإنسان في دنياه وأخراه، فالقرآن حوى كل ما تحتاجه البشرية مما تختص بذكره النبوات (1).

ومن صور التحريف للمعاني ما صنعه القس أنيس شروش مع مستمعيه الإنجليز بقوله: "أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة .. لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن؛ فإننا سنجد تناقضاً، فإن القرآن يقول: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} (مريم: 33) " قرأها بالعربية صحيحة، ثم ترجمها لمستمعيه:"وسلام علي يوم ولدت، ويوم مت، ويوم أبعث حياً"(2)، فحوَّل الأفعال المضارعة - التي يراد منها المستقبل - إلى أفعال ماضية؛ مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب.

ومن تحريف المعاني زعم القمّص زكريا بطرس في برنامجه في قناة الحياة أن في القرآن كلمة يستحي القمص من قولها أمام المشاهدين، وهي كلمة (النكاح) التي يفهمها - عقله الكليل- بمعنى الجماع (3).

(1) وأمثال هذا العموم - الذي يراد به خصوص يفهمه العقلاء - كثير في القرآن وفي كلام العرب وحديث العقلاء، كقوله تعالى عن ملكة سبأ:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: 23)، فلم يفهم منه سليمان عليه السلام ولا العقلاء من بعده - أن ملكة سبأ أوتيت الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، بل معناه عند جميع العقلاء أنها أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك عادة، ومثله أيضاً في كلام الناس - اليوم - كثير، كقول الأستاذ: لم ينجح أحد من الطلاب، ومقصوده - ولا ريب - الحديث عن طلاب مادته أو فصله أو مدرسته فحسب، فهو عموم يراد به معنى مخصوص.

(2)

القرآن والكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات، ص (45).

(3)

انظر الحلقة التاسعة والثلاثون من برنامجه "أسئلة عن الإيمان"، ويأتي جواب هذه الأبطولة.

ص: 16

ج. بتر النصوص وإخراجها عن مساقها:

ويعمد مثيرو الأباطيل - وهم يستشهدون بالمصادر الإسلامية - إلى بتر النصوص واجتزائها، فيختارون من النص ما يعجبهم، ويدَعون ما لا يوافق هواهم وباطلهم، ومن ذلك ما صنعه القمُّص زكريا بطرس وهو يستدل لعقيدة التثليث بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171)، فقد تعامى عن أول الآية وتمامها؛ لما فيهما من تنديد بالتثليث ووعيد لأهله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَاّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلَا الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} (النساء: 171 - 172).

وهذا البتر للنصوص عادة للقمُّص زكريا بطرس لا يمل من معاودتها في برامجه الفضائية، فحين أراد الاستدلال على صحة كتابه المقدس زعم أن القرآن لا يقول بالتحريف اللفظي للتوراة والإنجيل، بل يقول بوقوع التحريف المعنوي فقط، واستدل لذلك بما جاء في تفسير البيضاوي بعد اجتزاء كلام البيضاوي وبتره، فيقول القمص:(يقول البيضاوي: " {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يعني اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} طائفة من أسلافهم {يَسْمَعُونَ كلام الله} يعني التوراة، {ثُمَّ يُحَرّفُونَه} أي تأويله فيفسرونه بما يشتهون")، ثم عقب على كلام البيضاوي بالقول:(مش [لم] يغيروا الألفاظ والكلام).

وقد تعمد القمص بتر كلام البيضاوي الذي تحدث عن نوعين من التحريف: أولهما تحريف الألفاظ، والآخر تحريف المعاني الذي ذكره القمُّص،

ص: 17

وعبارة البيضاوي بتمامها: " {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} كنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون"(1)، فحذف من عبارة البيضاوي قوله:"كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم" لما فيها من إشارة إلى تحريف الألفاظ.

وأعاد القمص هذا الصنيع ثانية، وهو ينقل قول البيضاوي في تفسير قول الله تعالى:{مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} ، فنقل عن البيضاوي أنه قال بالتحريف المعنوي دون اللفظي، فقال:(قال البيضاوي: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ أي يؤولونه على ما يشتهون، فيميلونه عما أنزل الله فيه").

وقد بتر منه ما يخالف مقصده ويفند استدلاله، فعبارة البيضاوي بتمامها:" {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه"(2).

ومن صور البتر والتحريف ما رأيته عند عدد من كُتَّاب النصارى وقسسهم (3)، فقد زعموا أن الرازي كان يستشكل القول بنجاة المسيح من الصلب ووقوع الشبه على غيره، ونقلوا عنه قوله:"بالجملة فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات: الإشكال الأول: إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة .. "، ثم يسوقون كلاماً طويلاً للرازي ملخصه أن القول بصلب غير المسيح بدلاً عنه فيه ست إشكالات، نقل هذه الإشكالات عنه ثروت سعيد، وعقَّب عليها بالقول:"انتهى للإمام فخر الدين الرازي، ولا تعليق"،

(1) أنوار التنزيل، البيضاوي (1/ 70).

(2)

المصدر السابق (1/ 217).

(3)

انظر: حقيقة التجسد، ثروت سعيد، ص (325)، وقد صنعه القس أسعد وهبة في مناظرته لي حول مسألة "صلب المسيح في العهد الجديد"، وهي منشورة على الشبكة العنكبوتية.

ص: 18

وهو يوهم قراءه أن هذه الإشكالات يستشكلها الرازي، فيقول:"ولهذا لم يكن بُدٌّ لعالم نزيه كالإمام العلامة فخر الدين الرازي أن يفند قصة الشبه تفنيداً محكماً"(1).

والحق أن الرازي رحمه الله ذكر الإشكالات الستة التي يستشكلها النصارى وغيرهم على قول القرآن بنجاة المسيح، ثم لما انتهى من سردها شرع في الرد عليها جميعاً، فقال: " فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات: والجواب عن الأول

والجواب عن الثاني

".

وبعد أن رد عليها واحداً واحداً؛ ختم بنتيجة شافية كافية فقال: "وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه؛ امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع"(2)، فتعامى ثروت سعيد وغيره من المبطلين عن إتمام قول الرازي، ووقعوا في التدليس المشين حين نسبوا إليه قول النصارى الذي كان يرد عليه.

د. محاكمة القرآن إلى مصادر ومعلومات غير موثوقة:

ويلجأ الطاعنون في القرآن من النصارى في إلقاء شبهاتهم إلى محاكمة القرآن إلى مصادر مرفوضة ومطعون في موثوقيتها كالكتاب المقدس الذي يرى المسلمون والمحققون من أهل الكتاب أنه أسفار تاريخية كتبها مجهولون، ونُسبت إلى الأنبياء بلا سند يوثقها، وعليه فهذه الكتب مجروح في شهادتها، ولا اعتداد ولا موثوقية في أخبارها، التي يحاكم الطاعنون القرآن بموجبها، فيعرضونها وكأنها مستندات ووثائق تاريخية متفق على صحتها، ثم يخطِّئون القرآن حين يخالفها ويناقضها، أما إذا رأوه موافقاً لها فإنهم لا يخجلون من الزعم بأنه نقل منها، فلا يسلم منهم

(1) انظر: حقيقة التجسد، ثروت سعيد، ص (324 - 326).

(2)

التفسير الكبير، الرازي (8/ 225).

ص: 19

القرآن حال الموافقة ولا المخالفة.

ومن ذلك تكذيبهم القرآن حين خالفهم في تسمية والد إبراهيم عليه السلام بـ "آزر"(انظر الأنعام: 74)، وحجتهم أن التوراة سمته "تارح"(انظر التكوين 11/ 27).

وكذلك كذبوا القرآن الكريم حين تحدث عن كفالة زوجة فرعون لموسى (انظر القصص: 9)، لأن التوراة تقول: إن الذي كفله ابنة فرعون (انظر الخروج 2/ 5 - 7).

وكذلك كذبوا أن يكون لون بقرة بني إسرائيل الصفار الفاقع (انظر البقرة: 69)، لأن التوراة تقول تجعلها حمراء اللون (انظر العدد 19/ 1 - 4)، وكل هذه الأخبار التوراتية خاطئة، لا اعتداد بها، وهي أضعف من أن تكون حجة على إخباري أو مؤرخ؛ فضلاً عن القرآن العظيم.

كما يولع الطاعنون في القرآن بالغرائب الموجودة في كتب بعض المفسرين، وهي في جملتها منقولة من مرويات وأخبار أهل الكتاب، فيخلطون بينها وبين القرآن، ويجعلون معانيها المنكرة حجة عليه، وفي هذا مجافاة للموضوعية؛ فإن كتب الرجال يحتج لها بالقرآن، ولا يحتج بها عليه.

ولعل من أهم صور ذلك قصة الغرانيق التي أطبق على ذكرها الطاعنون في القرآن، وقد بين علماء الإسلام بطلانها؛ وإن أوردها مفسرون ومؤرخون وصفهم القاضي عياض بأنهم "المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم"(1)، فلولعهم بذكر الغرائب أُثقلت مؤلفاتهم العظيمة بالإسرائيليات وسخيف مقولات الأمم التي تروي ما ترويه بلا زمام ولا قيد؛ فنقل الطاعنون هذه المرويات، ولبّسوا على عوام المسلمين حين أوهموهم بصحة

(1) الشفا (2/ 125)، وسيأتي بيان هذه الأبطولة.

ص: 20

هذه الأقوال المنقولة في بعض كتب التفسير، ولا ينسى الخبثاء - في مثل هذه الحال - ذكر أرقام الصفحات التي نقلوا عنها؛ يرومون بذكر هذه التفاصيل مزيداً من الخداع لعوام المسلمين لإيهامهم بصحة ووثاقة المعاني المستقبحة الموجودة في تلك الروايات التي نقلها المسلمون الأقدمون في كتبهم عملاً بالقاعدة المشهورة عندهم "من أسند لك فقد أحالك".

ومن ذلك ما نقله الطاعنون عن بعض كتب التفسير لقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص: 21)، فقد أوردوا قصة مزعومة باطلة، وملخصها أن داود عليه السلام رأى امرأة جاره تستحم، فأولع بها، فأرسل زوجها للقتل في الحرب، ثم تزوجها، وأن الله عاتبه على فعله، فبكى أربعين يوماً حتى نبت العشب من دموع عينيه (1)، فهذه القصة الخرافية المستنكرة في معانيها منحولة في أصلها من أسفار التوراة (انظر: صموئيل (2) 11/ 1 - 26)، ولم ترد في كتب المسلمين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أو ضعيف.

ومثله استشهاد الطاعنين في القرآن بما رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق: 1 - 2): "ق، جبل مُحيطٌ بجميع الأرض، يقال له جبل قاف"، وعقب ابن كثير على هذا القول الغريب:" وكأنّ هذا - والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ الناس، لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَّق ولا يُكَذَّب. وعندي أن هذا وأمثالَه وأشباهَه من اختلاقِ بعض زنادقتهم، يَلْبِسُون به على الناس أمرَ دينهم"(2).

ومثله الاستشهاد بما ذكره المفسرون في تفسير قول الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34)، فذكروا قصة عجيبة، ملخصها

(1) انظر: جامع البيان، الطبري (21/ 184).

(2)

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/ 282).

ص: 21

أن شيطاناً ألقي عليه شبه سليمان، فكان يأتي نساءه (1).

قال أبو حيان الأندلسي: "نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وإنما هي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان، وأقرب ما قيل فيه: إن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، وجاءته بشق رجل» (2).

فهذه المنقولات وأمثالها في كتب التفسير، والكثير منها لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا يحل أن تعتبر تفسيراً لآيات القرآن، فإن فيها ما يصد عن القرآن، ويفسح المجال لأصحاب الأباطيل للطعن في القرآن الكريم والتلبيس على الناس بهذه المرويات الفاسدة.

(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (15/ 200).

(2)

البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (7/ 381)، والحديث مروي في الصحيحين، أخرجه البخاري ح (3424)، ومسلم ح (1654).

ص: 22