الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: هل القرآن منحول من شعر امرئ القيس
؟
قالوا: القرآن من تأليف محمد [صلى الله عليه وسلم]، وقد نقل في سورة القمر من أربعة أبيات من شعر الشاعر الجاهلي امرئ القيس الذي يقول:
دَنَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرْ عَنْ غَزَالٍ صَادَ قَلْبِي ونَفَرْ
أَحْوَرُ قَدْ حِرْتُ في أَوْصَافِه نَاعِسُ الطَّرفِ بعَيْنَيهِ حَوَرْ
بِسهَامٍ مِنْ لحاظٍ فَاتِكٍ تَرَكَتْنِي كَهَشِيِمِ المُحْتِظِر
وإذا ما غاب عني ساعة
…
كانت الساعة أدهى وأمر
والجواب: لو فرضنا أن القرآن وافق في أربع آيات معاني مذكورة في شعر امرئ القيس، فماذا عن بقية آيات القرآن التي جاوزت الستة آلاف، هل يعجز من ألَّف هذه الآلاف - من غير أن يكون لها مثيل في شعر العرب - عن مثل هذه الفقرات الأربعة؟
إن التماثل في بعض الألفاظ أو الأساليب التعبيرية لا يعني النقل على كل حال، بل نقول: إن وقوع التماثل في أساليب البيان أمر بدهي، إذ جاء القرآن على نسق تعهده العرب في كلامها، فلن يكون مستغرباً أن يشابه ما عهدوه من أمثلة واستعارات وسوى ذلك من ضروب البلاغة، لأنه نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195).
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتبس من أشعار امرئ القيس فلماذا سكتت عنه قريش، وهو الذي يتحداها أن تأتي بمثل القرآن أو بعضه، إنهم لم يخجلوا من القول {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} (الفرقان: 5)، لكنهم لم يتهموه أبداً بالنقل عن شعرائهم وأُدبائهم.
على أي حال، فالمحققون يقولون: إن هذه الأبيات مقتبسة من القرآن، وليس العكس، فقد كتبت زمن العباسيين، ونسبت إلى امرئ القيس ضمن ما
يسمى بظاهرة النَحْل في الشعر العربي، حيث عمد بعض الرواة كـ (حماد بن هرمز الراوية تـ 155هـ، وتلميذه خلف الأحمر تـ180هـ) زمن العباسيين إلى وضع أشعار من إنشائهم ونسبوها إلى الجاهليين.
ولإلقاء نظرة على طريقة وصول شعر امرئ القيس إلينا ننقل قول الأصمعي: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو بن العلاء"(1)، فمن هو حماد هذا؟ وما موثوقيته؟
يقول محمد بن سلام الجمحي: "أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار"(2).
ويقول أبو حاتم: "كان بالكوفة جماعة من رُوَاة الشعر مثل حمّاد الراوية وغيره، وكانوا يصنعون الشعر، ويقتنون المصنوع منه، وينسُبونه إلى غير أهله.
وقد حدثني سعيد بن هريم البرجمي قال: حدثني من أثق به أنه كان عند حماد حتى جاء أعرابي، فأنشده قصيدة لم تعرف، ولم يدرِ لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها وقام الأعرابي، قال حماد: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالاً، فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة.
وقال الجاحظ: ذكر الأصمعي وأبو عبيدة وأبو زيد عن يونس أنه قال: إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد وهو يلحن ويكسر الشعر ويصحّف ويكذب، وهو حماد بن هرمز الديلمي.
قال أبو حاتم: قال الأصمعي: جالستُ حماداً فلم أجد عنده ثلاث مائة
(1) المزهر في علوم اللغة، السيوطي (2/ 348)، وانظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (14/ 66).
(2)
طبقات فحول الشعراء، ابن سلام (1/ 48).
حرف، ولم أرضَ روايته" (1).
وزاد الطين بِلة تلميذُه خلف، حيث يقول: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق" (2).
ولو تأمل الأريب في معلقة امرئ القيس وجزالة ألفاظها وغريب سبكها لأيقن كذب نسبة تلك الأبيات الممتلئة رقة وعذوبة إليه، فبينهما من التباين في الأسلوب والألفاظ ما لا يخفى على أديب ناقد، أو عارف بطبقات شعراء العرب وأساليبهم، ولذلك لم يوردها مصطفى عبد الشافي في ديوان امرئ القيس الذي جمعه وحققه (3).
(1) الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (6/ 102).
(2)
المصدر السابق (6/ 102).
(3)
انظر: ديوان امرئ القيس، ضبط وتصحيح مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1403هـ.