الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للأوثان، لتُعبد فيها الأصنام من دون الله (انظر الملوك (1) 11/ 3 - 11).
وهكذا، سلسلة طويلة لا تنتهي من الإساءات إلى أنبياء الله تمتلئ بها صفحات كتب الطاعنين في القرآن، الذي يقابلها جميعاً بقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الأنبياء:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90).
ولكن صدور تلك الإساءات إلى الأنبياء في كتب الطاعنين لن يكون كافياً في الذَّبِّ عن القرآن الكريم، بل لابد من التعرض بالتفصيل والشرح والبيان لحقيقة هذه الأباطيل.
أولاً: هل وقع آدم في الشرك
؟
قالوا: القرآن ينسب الشرك إلى الأنبياء، فقد نسبه إلى آدم بقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف: 190)، واستدلوا لذلك بما أورده المفسرون من حديث سمرة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم:«ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» (1)، قالوا: والحارث اسم الشيطان حين كان في الجنة.
والجواب: القرآن يثني على آدم عليه السلام أعظم الثناء وأزكاه {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33)، ويؤكد هدايته واصطفاء الله له بعد توبته من أكل الشجرة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه: 122)، ولا يمكن لمن مدحه الله هذه المدحة أن يكون مشركاً بالله.
وأما ما ينقله المفسرون في كتبهم من روايات فيصدق فيها قول أبي حيان
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 309)، والترمذي ح (3077).
الأندلسي: "وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا حديث صحيح فأطرحت ذكرها"(1)، وبمثل هذا يتشبث المنصفون في كل عصر وحين.
وقد أطبق العلماء على ضعف حديث سمرة الذي فيه أمر الشيطان لآدم بتسمية ابنه عبد الحارث، لأن في سنده الحسن يرويه عن سمرة بصيغة العنعنة، وهو مدلس، فلا تقبل روايته إلا إذا صرح بالتحديث، قال الذهبي:"كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديث: عن فلان، ضعف احتجاجه"(2).
قال البيهقي: "أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن البصري من سمرة في غير حديث العقيقة"(3).
ولذلك حكم الألباني بضعف الحديث، وقال:" ضعيف .. وأعله ابن عدي في "الكامل" بتفرد عمر بن إبراهيم، وقال: وحديثه عن قتادة مضطرب"(4)، واستدل لتضعيفه بما نقله ابن كثير من تفسير الحسن للآية، فقد جاء تفسيره مخالفاً للمروي عنه في هذا الأثر:"قال [أي الحسن]: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم .. عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده"، فقوله هذا مبطل لما روي عنه.
ثم عقب ابن كثير بقوله: " وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما
(1) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (4/ 437 - 438).
(2)
ميزان الاعتدال، الذهبي (1/ 527).
(3)
السنن الكبرى، البيهقي (5/ 288).
(4)
انظر: السلسة الضعيفة، الألباني ح (342).
مع تقواه لله وَوَرَعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل: كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما" (1).
ولو فرضنا جدلاً صحة القصة التي تنسب إلى آدم؛ فإن غاية ما تذكره القصة أن آدم وقع في شرك التسمية؛ حين سمي الولد "عبد الحارث"، ولكنه لم يقع في شرك العبادة، وبين النوعين فرق كبير، قال قتادة:"فأشركا في الاسم. ولم يشركا في العبادة "(2).
وقال القرطبي في شرحه: "قال المفسرون: كان شركاً في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية .. إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد، فسمياه به، كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه، كما قال حاتم طيء:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً
…
وما فيَّ إلا تيك من شيم العبد " (3).
وبالعود إلى الآية المستشكلة في معناها فإن من العلماء من يرى أنها تتحدث إلى قريش، وأن الله خلقهم من نفس واحدة هي نفس أبيهم قصي بن كلاب، وأنها تعنفهم على ما وقعوا فيه من الشرك بعد ذلك (4).
ولكن جمهور المفسرين يرون أن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} مقصود به آدم
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (2/ 363).
(2)
جامع البيان، الطبري (13/ 312).
(3)
الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (7/ 339)، وانظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (259)، وزاد المسير، ابن الجوزي (3/ 303).
(4)
انظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (4/ 436)، والكشاف، الزمخشري (2/ 180 - 181).
وزوجه، ثم انتقلت الآية للحديث عن ذريته وما وقعوا فيه من الشرك بالأصنام، وهذا التفسير مشهور عند العلماء، نقله المفسرون ومنهم ابن عجيبة بقوله:" {فلما آتاهما} ولداً {صَالِحاً} كما سألا، جعل أولادُهما {لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا}، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار. فالآية إخبار بالغيب في أحوال بني آدم ممن كفر منهم وأشرك، ولا يصح في آدم وحواء هذا الشرك؛ لعصمة الأنبياء، وهذا هو الصحيح. وقد يُعاتبُ المِلكُ الأب على ما فعل أولادهُ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له: أولادك فعلوا وفعلوا، على عادة الملوك"(1).
وهذا المعنى للآية منقول عن جملة من التابعين، منهم عكرمة القائل:"لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الناس بعد آدم"(2)، ومنهم الحسن البصري الذي يقول:"كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم"، وكان يقول:"هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً فهوّدوا ونصروا"(3).
ويرى المفسرون ومنهم البغوي في تفسيره أن في الآية محذوفاً في قوله: {جعلا له} : "راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم .. أي: جعل أولادهما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم؛ كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال: {ثُمَّ اتخذتم العجل} (البقرة: 51)، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} (البقرة: 72)، خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك الفعل من آبائهم"(4).
(1) البحر المديد، ابن عجيبة (2/ 347).
(2)
ذكره سعيد بن منصور في سننه (5/ 174).
(3)
جامع البيان، الطبري (13/ 315).
(4)
معالم التنزيل، البغوي (3/ 314)، وانظر: زاد المسير، ابن الجوزي (3/ 304)، والبحر المحيط، ابن حيان (4/ 436 - 438)، والكشاف، الزمخشري (2/ 180 - 181)، ومفاتيح الغيب، الرازي (15/ 87).
والالتفات في الخطاب من آدم إلى بنيه من غير التنبيه على فصل في الحديث معهود في القرآن، وأمثلته كثيرة، ذكر السيوطي بعضها بعد أن نقل الآثار السابقة وغيرها من تفسير ابن أبي حاتم (1).
ومن صوره ما جاء في قصة آدم {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123 - 124)، فالحديث في أول الآية موضوعه آدم وحواء {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} ، ثم انتقل بلا فصل للحديث عن ذريته {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} .
ومما يشهد لصحة هذا التأويل (الانتقال في الخطاب إلى بني آدم) ويدل عليه قوله تعالى في آخر السياق: {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الأعراف: 191) وما بعدها، فقد انتقل من الحديث عن الاثنين (آدم وحواء) إلى الحديث عن الجمع (ذريته).
والسياق أيضاً بيِّن وواضح في أن المقصود من الشرك عبادة الأصنام؛ لا عبادة الشيطان المذكورة في قصة آدم {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 192 - 194)، فهذا كله في عبادة الأصنام لا الشياطين.
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم (5/ 1634 - 1635)، والإتقان في علوم القرآن، السيوطي (1/ 240).