الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(لا إله إلا الله، المسيح رسول الله)، وهذا بالحقيقة قول المسلمين؛ لا النصارى، فتبين أننا أتباعه عليه الصلاة والسلام الموعودون بالعلو على الكافرين إلى يوم القيامة، وقد علوناهم بالحجة والدليل والبرهان بالأمس واليوم وغداً بإذن الله ومِنَّته.
ولئن غابت شمس المسلمين اليوم عن قيادة الحضارة الإنسانية المادية (لا الروحية) فقد كان لهم شرف ريادتها زهاء ثمانية قرون، وإنها سُحب توشك أن تنبلج، لتشرق شمسنا من جديد، وما هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي تهدر في عالم اليوم إلا طلائع هذا الفجر الآتي القريب بإذن الله.
رابعاً: سؤال أهل الكتاب
قالوا: طلب القرآن من النبي أن يسأل النصارى فيما يشكل عليه، وفيما يقع له من الريبة في دينه بقوله:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس: 94)، وكما طلب هذا من النبي؛ فإنه طلبه من المسلمين حين أمرهم بسؤال أهل الذكر، أي الكتب السابقة في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43).
والجواب: أن الآية الكريمة {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس: 94)، لا تتحدث عن مشركي النصارى المنكرين لنبوته، ولا تجعلهم مرجعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل تتحدث عن الذين يشهدون له بأنه أتاه الحق من ربه.
كما يلزم التنويه أيضاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك في شيء من نبوته، ولم يسأل أهل الكتاب ولا غيرهم، بل نقل عن بعض التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أشك ولا أسأل» (1).
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ح (10210).
فلفظة (إنْ) لا تفيد أي تحقق لوقوع الشك من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قد يعلق المحال بـ (إنْ)، كما في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف: 81)، وقوله:{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} (الأنعام: 35).
وقد فسر العلماء مقصود الآية بقولين يكمل أحدهما الآخر:
الأول: أن المقصود بالسؤال هم المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما:(الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به .. فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم)(1).
الثاني: أن المقصود في الآية ليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال، بل الخطاب - في ظاهره - للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيرُه من المشركين، على عادة العرب في الخطاب "إياك أعني واسمعي يا جارة"(2).
ومثله في القرآن كثير، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (الأحزاب: 1)، وقال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65)، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1).
وهذا الوجه صححه الطبري، واستدل له الرازي بقول الله تعالى في آخر السورة:{يَا أَيُهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فلا أَعبُدُ الذِي تَعْبُدونَ مِنْ دُون الله} (يونس: 104)، وقال: "فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح .. فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن المراد الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن
(1) جامع البيان، الطبري (15/ 200).
(2)
انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (270).
السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب إلى ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم" (1).
بقي أن نشير إلى أن الأمر بالسؤال ليس على ظاهره، فإن العرب تستخدم طلب السؤال؛ بمعنى تأكيد الأمر، ولا تريد طلب السؤال حقيقة، ومنه قول الشاعر:
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم
…
هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
وقول الآخر:
سلوا نسمات الريح كم قد تحملت
…
محبة صب شوقه ليس يكتم
فهذان وأضرابهما لا يراد منه - في لغة العرب- حقيقة السؤال؛ إذ كيف يُسأل الليل أو نسمات الريح، إنما يراد تأكيد تلك المعاني التي طلب السؤال عنها.
ومثله في القرآن قوله تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} (القلم: 40)، وقوله:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} (الزخرف: 45)، وقوله:{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (الأعراف: 163)، ففي كل هذا لم يطلب الله من النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة السؤال، إنما قصد الإخبار وتأكيد صدق هذه المعاني والأخبار التي ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)، فهو خطاب من الله للمشركين المنكرين للنبوة؛ المستغربين نزول الوحي على رجل، فقد نبههم الله إلى أن نزول الوحي على بشر أمر معهود تعرفه البشرية، ودعاهم إلى سؤال أهل الكتاب للتأكد من حقيقته والوقوف على جلائه، يقول ابن القيم: "فبقاؤهم [أي أهل الكتاب]
(1) التفسير الكبير، الرازي (17/ 172).