الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17)، فنفخ في جيبها، فسرى المسيح في أحشائها، فالمسيح خلق بنفخة منه {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء: 91).
وهذا المعنى الشريف ورد في حق آدم أيضاً الذي خلق من طين، ثم:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر: 29)، فإضافة روحه عليه السلام إلى الله إضافة تشريف وتكريم، ولو أوجبت هذه الإضافة معنىً خارجاً عن الإنسانية؛ لكان آدم أولى بذلك من المسيح {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59).
ثانياً: هل امتدح القرآن النصارى
؟
قالوا: امتدح القرآن النصارى، وذكر بأنهم في الجنة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62).
والجواب: كما كان القرآن واضحاً في بيان وحدانية الله وعبودية المسيح وبشريته؛ كان صريحاً في إضلال القائلين بألوهيته وربوبيته وتكفيرهم، وهذا منثور في مواضع كثيرة من القرآن، منها قول الله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17)، وقوله:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73)، فهاتان الآيتان وغيرهما واضحتان في بيان كفر القائلين بعقيدة التثليث وألوهية المسيح.
ولكن هذا الحكم القرآني لا يسري على المسيح الذي تبرأ من هذه المعتقدات {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72)، كما لا يسري الحكم بالكفر والنار على أتباعه المخلصين المؤمنين الذين آمنوا بالله وحده،
وشهدوا للمسيح بالرسالة فحسب، واتبعوه ونصروه {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 52 - 53)، وفي موضع آخر يقول الله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111)، فهؤلاء من خيرة لله في خلقه، وهم مؤمنون بالمسيح الرسول، وبريئون من معتقدات النصارى التي استقاها المسيحيون من أقوال بولس والمجامع الكنسية من بعده.
إن هذه الثلة المؤمنة ممدوحة في القرآن ولا ريب، وقد وصفهم الله بقوله:{أنصار الله} (الصف: 14)، ومدحة الله لهم في القرآن تسري على كل مؤمن مشى على نهجهم إلى يوم الدين (1).
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان لمنهجهم بقايا على الأرض تمثل في أشخاص أحبهم الله؛ لاستقامتهم على التوحيد، وإعراضهم عن مذاهب التثليث والشرك التي كرهها الله، يقول صلى الله عليه وسلم:«وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (2).
فهؤلاء ومن سلفهم من المؤمنين هم الذين أثنى الله عليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62)، وقد ذُكر في سبب نزولها أن سلمان حدَّث النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه النصارى الذين كانوا على
(1) يمتلئ تاريخ المسيحية بما تسميه الكنيسة اليوم بفرق الهراطقة، كالأريوسية والأبيونية، وهي فرق تنكر ألوهية المسيح وتندد بالتثليث، وكانت تمثل السواد الأعظم من النصارى حتى القرن الرابع الميلادي.
(2)
أخرجه مسلم ح (2865).
الإيمان الخالص بالله عز وجل قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم:«يا سلمان، هم من أهل النار» . فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1).
وهذا المعنى بينٌ واضح لمن قرأ الآية في سياقها فتدبر الآيات التي قبلها والتي بعدها، حيث تكفر الآيات قبلها اليهود والنصارى، وتنسب إليهم الإساءة إلى الله، وتتوعدهم بالنكال والعذاب:{وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَالله أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (المائدة: 61 - 64)
ويستمر السياق القرآني بعدها في تكفيرهم مع استثناء المؤمنين منهم ممن كان على منهج الأنبياء {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 68 - 69).
فمن المحتم أن الذين سماهم الله في آخر الآية: {الْكَافِرِينَ} ليسوا الذين تحدث عنهم صدر الآية التالية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى} ، فهؤلاء غير الأولين، هؤلاء من المؤمنين بدليل ما ذكر في الآية في
(1) أخرجه الطبري في تفسيره بإسناد منقطع (2/ 154).