الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله أرسل الرسل لتقوم بهم حجته على خلقه، وأنزل عليهم كتبه؛ ملؤها الهدى والنور، ليقيموا بها شرعة الله ويهدوا بها إلى منهجه القويم {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25).
ثم ختم الله رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن مصدقاً لما أنزله - من قبلُ - على إخوانه الأنبياء {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 3 - 4).
فالقرآن كتاب الله الأخير، وهو مصدق ومكمل لما أوحاه الله في كتب الأنبياء السابقين، وهو أيضاً مهيمن عليها {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48)، لكون هذه الكتب نزلت إلى أقوام مخصوصين في أزمنة معينة لإصلاح ذنوب وعيوب تلك الأمم، في حين أن القرآن مشتمل على كل ما تحتاجه الإنسانية إلى قيام الساعة، لأنه رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).
وحتى تبقى كلمة الله شاهدة على خلقه إلى يوم القيامة، فقد تكفل بحفظ كتابه الأخير {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وهكذا أضحى القرآن الكتاب الوحيد المحفوظ بحفظ الله له {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41 - 42)، في حين أن الله وكل حفظ الكتب السابقة إلى أصحابها {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} (المائدة: 44)، فحرفوها وأضاعوا منها ما أضاعوا {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13)، بل وزادوا عليها ما لم يوح به الله {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79).
لقد أقبل المسلمون في كل عصر وحين على مائدة القرآن ينهلون منها بحفظه وتدبره وتعلمه، فخصوه بعناية ومدارسة لم تكن لكتاب قبله، حفظه الملايين من أطفالهم في كل عصر؛ على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، يبتغون فيه موعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأهل القرآن:«يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (1).
وعمد علماء الإسلام إلى ترسيخ علومه وفنونه وتفسيره وبيان أحكامه وهديه، فألفت في خدمة القرآن آلاف الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.
وأدرك أعداء الإسلام أهمية القرآن في نفوس المسلمين، ومدى تعلقهم به، وأنه مستمسك عقيدتهم، ومصدر شريعتهم، وأنه باعث نهضتهم، وضمان مستقبلهم، وأن تمسكهم به يجعلهم أمة عصية على الهوان والذل والاستعباد، فأضمروا له العداء، ونصبوا بينه وبين المسلمين السدود {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26).
وما أدركه أعداء القرآن في القديم أدركه الأعداء الجدد، يقول حاخام إسرائيل الأكبر مردخاي الياهو: "هذا الكتاب الذي يسمونه القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته، كيف يمكن تحقيق
(1) أخرجه الترمذي ح (2914)، وأحمد ح (6760).
السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتاباً يتحدث عنا بكل هذه السلبية؟! " (1).
ويقول الحاكم الفرنسي للجزائر إبان الاستعمار الفرنسي: "إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية"(2).
ويقول وليم جيفور بالكراف: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه"(3) ومقصود بالكراف بالحضارة الغربية ما نشاهده في الغرب اليوم من تحلل أخلاقي وتفكك اجتماعي ومظاهر سلبية استعصت على الإحصاء والإحاطة، ألا تباً لها من حضارة؛ إن صحت تسميتها (حضارة)، وما أعظمه من كتاب ذاك الذي يتصدى لهكذا حضارة!.
ويقول اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر: "جئت لأمحو ثلاثاً: القرآن والكعبة والأزهر"(4).
وأما المبشر جون تاكلي فيقول: "يجب أن نستخدم القرآن - وهو أمضى سلاح - ضد الإسلام نفسه، بأن نعلِّم هؤلاء الناس [يعني المسلمين] أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد ليس صحيحاً"(5).
وهكذا توجهت هِمَم القوم الشريرة إلى إبعاد الأمة المسلمة عن القرآن عبر صنوف من الافتراءات والأكاذيب التي بلغت من كثرتها الألوف من الكتب كما
(1) انظر: مجلة البيان، العدد (159).
(2)
قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، جلال العالم، ص (31).
(3)
رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم، محمد جمعة عبد الله، ص (278).
(4)
الخنجر المسموم الذي طُعن به المسلمون، أنور الجندي، ص (29).
(5)
رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم، محمد جمعة، ص (263).
نقل ادوارد سعيد في مقال له في مجلة " التايم " في إبريل 1979م بقوله: " إن أكثر من ستين ألفاً من الكتب ألفت ضد الإسلام بواسطة المسيحيين الغربيين"(1)، فكم تراه ألف بواسطة الشرقيين!!
إذا ما خلا الجبان بأرض
…
طلب الطعن وحده والنزالا
هذه الكثرة الكاثرة من كتب الأباطيل لم تفلح ـ بفضل الله ـ في إبعاد المسلمين عن القرآن، ولم تشغلهم عن حفظه ومدارسته، فطاشت جهود أهل الباطل أدراج الرياح، بل كشفت أباطيلُهم - لمتأملها والناظر في ضحالتها - المزيدَ من صور عظمة القرآن وعوار الباطل وأهله الذين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
ويلحظ المتتبع لهذه الشبهات تكراراً ممجوجاً - في الغالب - لأباطيل قديمة أجاب عن معظمها الإمام الباقلاني (ت 403هـ)، بل أجاب عن بعضها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه قبل أن تلوكها الألسنة بأزيد من ألف سنة، وأما الجديد في هذه الشبهات فإنما أورده القوم بقدر ما استجد عندهم من جهل سبقوا في ظلماته أسلافهم {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} (ق: 5).
وقد أعرضت عن التصريح بأسماء أصحاب هذه الأباطيل لتعدد جهاتهم، فلم تعد هذه الأباطيل حبيسة كتب المستشرقين وأزلامهم، بل أضحت بضاعة تلوكها الألسنة في القنوات الفضائية ويتناقلها رواد مواقع الإنترنت، وكثيراً ما استقبلت بعضها على بريدي الإلكتروني، فلشيوعها وتعدد مصادرها أجملت نسبتها إلى قائليها، بقولي:(قالوا).
وما كان لهذه الأباطيل أن تؤثر في المسلمين أو تهز ثقتهم بقرآنهم إبان نهضتهم الحضارية وتمام معرفتهم بدينهم وإلمامهم بلغة العرب وضروب البيان فيها، لكن
(1) خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس، أحمد ديدات، ص (20).
الشكوك في القرآن تقذف ـ اليوم ـ في أفئدة خاوية من أبناء المسلمين؛ تستغل جهلاً مطبقاً عندهم بلغة العرب؛ جهلٌ انضاف إليه سوء فهم لموارد الكلام وقلة علم ودراية بفنون التفسير والبيان.
وقد انبرى علماء الإسلام قديماً في التصدي لهذه الأباطيل، وبرعوا في تفنيدها في كتبهم التي خصوها لبيان غريب القرآن وكشف مشكله، كما تعرض المفسرون لكثير من موارد سوء الفهم لآيات القرآن الكريم.
وأجاد طلاب العلم من بعدهم تبسيط علوم السابقين وتقريبها لعوام المسلمين اليوم، لتتكامل الجهود بما لم يبق مطمعاً لصاحب دلو راغب في إضافة جديد إلى بحر علومهم الرقراق.
وقد أقبلتُ على كتبهم وبحوثهم ومقالاتهم ومواقعهم الإلكترونية متعلماً، ثم رأيتُ أن أبدأ من حيث انتهوا، فأكمل جهودهم بمزيد عناية واستدلال لهذه الأطياب الفواحة، لتكون قريبة إلى عوام المسلمين اليوم؛ مجردة عن الأقوال المطولة والوجوه الكثيرة المتشعبة في الأجوبة، فتشعبها قد يطرب له العلماء، لكن يتيه في غوره ولجته المبتدئون، وما أكثرهم في هذا الزمان.
ولست أزعم أني قد تتبعت كل الشبهات والأباطيل المتعلقة بالقرآن، لكني جهدت في استقصاء أهمها بما قدرت عليه، وقد أعرضت عن شبهات وأباطيل يطرحها بعض المشككين لضعفها وتهافتها، ومن ذلك استنكار البعض مسألة نجاة فرعون ببدنه التي ذكرها القرآن (انظر يونس: 92)، بينما هو يذكر في موضع آخر غرقه، فنجاة البدن - كما لا يخفى - إنما كانت بعد موته وغرقه.
ومثله - كذلك - استنكار البعض ذكر القرآن صوم مريم، مع قوله:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي} (مريم: 25 - 26)، إذ صيامها مختص بالكلام، لا بالطعام والشراب {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} (مريم: 26).
ويسر رابطة العالم الإسلامي أن تتقدم بهذا الجهد ذَبَّاً عن القرآن الكريم وقياماً ببعض الواجب تجاه كتاب ربنا العزيز، ونسأل الله أن يبارك في هذا الجهد، وأن يثيبنا عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن
لعل من المناسب قبل الشروع بذكر تفاصيل الأباطيل المثارة عن القرآن أن نتوقف مع بعض معالم المنهج الذي درج عليه مثيروها، حين افتقدوا كل صور الموضوعية العلمية، ولم يتركوا لمتابع منصف باباً للاعتذار لهم بعذر الجهل أو سوء الفهم، كيف يعذرهم وهو يلمح في هذه الشبهات والأباطيل معالم رئيسة مخزية لا تخطئها عين متأمل حصيف:
أ. الكذب في اختراع الأُبطولة:
الكذب حيلة من لا حيلة عنده ولا دليل، وهو مسلك درج في ظلماته مثيرو الشبهات والأباطيل حول القرآن الكريم حين أعيتهم الحيل أن يجدوا في القرآن مطعناً وملمزاً، فلما علموا أن الكذب بضاعة ينطلي باطلها على الكثيرين من الدهماء والعامة الذين لن يتيسر لهم اكتشاف هذه الأكاذيب؛ أشرعوا فيه سفنهم، فما زالوا يكذبون، حتى إخالهم لكثرته صدقوا أنفسهم فيما يدَّعون.
وصور كذبهم كثيرة، أكتفي بالتمثيل لها مبتدئاً بما قاله وهيب خليل في سياق حديثه عن معجزات المسيح المذكورة في القرآن:"وإن كان بعض المفسرين يحاولون أن يقللوا من شأن السيد المسيح في المقدرة قائلين: إنه يصنع هذا بأمر الله، فنجد أن الإسلام يشهد أن هذه المقدرة هي لله فقط"(1).
ومن المعلوم عند كل مسلم أو غيره مطلع على القرآن الكريم أن الذي أحال معجزات المسيح إلى قدرة الله وإذنه هو القرآن الكريم، وليس مفسروه {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} (المائدة: 110).
ومن الكذب زعم مؤلفي كتاب شهير؛ اختص بإثارة الأكاذيب على القرآن "التعليقات على القرآن" أن حفاظ القرآن الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن في عهد
(1) استحالة تحريف الكتاب المقدس، وهيب خليل، ص (133)، والقس وهيب خليل هو الاسم الحقيقي للقمص مرقس عزيز الذي يجدُّ حالياً في الطعن بالإسلام والكذب عليه في قناته الفضائية.
أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد .. فإن هؤلاء الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن .. ولما رأى أبو بكر هذا الحال جزع من ضياع القرآن"(1).
وقولهم هذا كذب صراح ولا ريب، لأن هؤلاء الأربعة أدركوا جميعاً عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أدركوا جمع أبي بكر رضي الله عنه، فأبو الدرداء رضي الله عنه ولي قضاء دمشق في عهد عمر رضي الله عنه، ومات قبل موت عثمان رضي الله عنه بسنتين.
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه مات في خلافة عمر رضي الله عنه في طاعون عمواس سنة 17هـ.
وأما ثالثهم زيد بن ثابت فهو من جمع القرآن في عهد الصديق ثم عثمان، ومات سنة 45 هـ، أي في زمن معاوية رضي الله عن الجميع.
ورابعهم أبو زيد سعد بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه، وقد قتل يوم القادسية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).
ومن صور الكذب أيضاً طعن القس العربي الفلسطيني أنيس شروش في عربية القرآن أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، بقوله: "لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات والجمل الأجنبية في القرآن
…
في كتاب ادعى أن الله أوحاه بالعربية" (3)، ومن المؤكد أن القارئ العربي يعرف أنه لا يوجد في القرآن جملة واحدة غير عربية، فقد نزل بلسان عربي مبين، لكن الدكتور شروش يهذي بهذا أمام أعاجم، ولا يستحي من الكذب عليهم.
ولما أراد القبطي الأرثوذكسي ثروت سعيد تزكية المسيحيين واعتبارهم مؤمنين بشهادة القرآن الكريم قال في كتابه "حقيقة التجسد"، الذي قدمه
(1) تعليقات على القرآن، ص (29).
(2)
انظر تراجم الأربعة في الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر (4/ 747، 6/ 136، 2/ 592، 3/ 68).
(3)
مناظرة: القرآن الكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش، ص (115 - 116).
وراجعه له كل من الأنبا الكاثوليكي يؤانس زكريا والقس البرتستنتي الدكتور منيس عبد النور: "إذا كان اعتقاد القرآن بشرك النصارى؛ فلماذا يصرح في آياته بحلال الزواج من أهل الكتاب .. كما أن نبي الإسلام تزوج من اليهوديات والمسيحيات، وهن: مريم القبطية، وأنجب منها إبراهيم (المسيحية)، وريحانة بنت شمعون النضيرية (اليهودية)، وصفية بنت حيي بن أخطب القريظية (اليهودية)، وجويرية بنت الحارث المصطلقية (اليهودية) "(1).
وقوله بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من يهوديات ومسيحية كذب صراح، فإنما تزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخولهن في الإسلام.
ويكفي في بيانه أن ننقل بعضاً من الحوار الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وصفية حين أراد الزواج بها، فقد قال لها:«اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك» . فقالت صفية: يا رسول الله، لقد هويتُ الإسلام، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي (2). فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة.
وأما ريحانة فتكذب دعوى المبطلين، وتذكر أن رسول الله تزوجها بعد أن أسلمت، وتقول: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله وتزوجني، وأصدقني اثنتي عشرة أوقية (3).
ويواصل ثروت سعيد الكذب فيزعم أن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} (مريم: 71) ينبئ بدخول النار والإحراق فيها لكل بني آدم، وينقل عن
(1) حقيقة التجسد، ثروت سعيد رزق الله، ص (192 - 193).
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 123)
(3)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 130).
"جلال الدين يفسر كلمة {وَارِدُهَا} بالدخول والاحتراق"(1)، وقد كذب في نِسبة الإحراق إلى السيوطي، فهو غير موجود في شيء من كتبه.
ثم يمضي المبطِل فيستشهد لكذبه وباطله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها» ، والحديث الذي يستشهد به ضعيف لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر قد يجهله فيعفى عنه في ذلك، لكن شيئاً لن يبرر نقله من الحديث ما يروق له، وإعراضه عن تمامه، لمناقضته قوله ودحضه كذبه، فالحديث بتمامه:«الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار - أو قال: لجهنم - ضجيجاً من بردهم {ثُمَّ يُنَجِّيْ اللهُ الذِّيْنَ اتْقَوا وَيَذَرُ الظَّالِمِيْنَ فِيْهَا جِثِيًّا} (مريم: 72)» (2)، فخاتمة الحديث تثبت نجاة المؤمنين من الإحراق، لكن الكذب والتدليس حيلة من لا حيلة عنده.
ب. تحريف معاني النصوص وتفسيرها بمعان مشكلة:
يلجأ الطاعنون في القرآن إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية وتفسيرها بمعان مشكلة لا يوافق عليها عالم من علماء المسلمين، ومن ذلك قول البابا شنودة: "ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا، وضع القرآن النصارى في مركز الإفتاء في الدين، فقال:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)، وقال أيضاً:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)(3).
(1) حقيقة التجسد، ثروت سعيد رزق الله، (35).
(2)
أخرجه أحمد في المسند ح (14560)، والحاكم في المستدرك (4/ 630)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ح (4761).
(3)
بين القرآن والمسيحية، البابا شنودة، ص (4)، وسيأتي دفع هذه الأبطولة.
ومثله في تحريف معاني النص القرآني قول مؤلفي كتاب "تعليقات على القرآن" في تعليقهم على قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38): "ولا شك أن القرآن لا يشتمل على أكثر العلوم من المسائل الأصولية والطبيعية والرياضية والطبية، ولا على الحوادث اليومية، بل ولا على ذات قصص الأنبياء؛ فإذن لا يكون كلامه هذا مطابقاً للواقع"(1)، فقد جهلوا أو تجاهلوا أن آية سورة الأنعام لا تتعلق بالقرآن، بل باللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال الطبري:"فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء؛ أحرى أن لا يضيع أعمالكم، ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها"(2).
والآية بمنطوقها واضحة في الدلالة على هذا المعنى الذي ذكره الطبري: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38)، ومثلها قول الله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6)، فالكتاب الذي حوى مقادير الخلائق وأرزاقها هو اللوح المحفوظ؛ لا القرآن الكريم.
ثم لو فرضنا أن القرآن هو مقصود قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فإن هذا العموم يفهم منه العقلاء معنى مخصوصاً يفهم من السياق، إذ من السخف بل والخبل أن يظن ظان أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية قصد أن القرآن يحوي أسماء رجال قريش أو أطعمة فارس أو أسماء البهائم التي خلقها الله، فهذا
(1) تعليقات على القرآن، ص (20).
(2)
جامع البيان (11/ 345).
لا يخطر ببال عاقل ولو كفر بالقرآن وجحده، لأنه سيحمل العموم في قوله {مِن شَيْءٍ} على المعنى المخصوص اللائق به ككتاب ديني، أي ما فرطنا في الكتاب من شيء يصلح حياة الإنسان في دنياه وأخراه، فالقرآن حوى كل ما تحتاجه البشرية مما تختص بذكره النبوات (1).
ومن صور التحريف للمعاني ما صنعه القس أنيس شروش مع مستمعيه الإنجليز بقوله: "أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة .. لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن؛ فإننا سنجد تناقضاً، فإن القرآن يقول: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} (مريم: 33) " قرأها بالعربية صحيحة، ثم ترجمها لمستمعيه:"وسلام علي يوم ولدت، ويوم مت، ويوم أبعث حياً"(2)، فحوَّل الأفعال المضارعة - التي يراد منها المستقبل - إلى أفعال ماضية؛ مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب.
ومن تحريف المعاني زعم القمّص زكريا بطرس في برنامجه في قناة الحياة أن في القرآن كلمة يستحي القمص من قولها أمام المشاهدين، وهي كلمة (النكاح) التي يفهمها - عقله الكليل- بمعنى الجماع (3).
(1) وأمثال هذا العموم - الذي يراد به خصوص يفهمه العقلاء - كثير في القرآن وفي كلام العرب وحديث العقلاء، كقوله تعالى عن ملكة سبأ:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: 23)، فلم يفهم منه سليمان عليه السلام ولا العقلاء من بعده - أن ملكة سبأ أوتيت الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، بل معناه عند جميع العقلاء أنها أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك عادة، ومثله أيضاً في كلام الناس - اليوم - كثير، كقول الأستاذ: لم ينجح أحد من الطلاب، ومقصوده - ولا ريب - الحديث عن طلاب مادته أو فصله أو مدرسته فحسب، فهو عموم يراد به معنى مخصوص.
(2)
القرآن والكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات، ص (45).
(3)
انظر الحلقة التاسعة والثلاثون من برنامجه "أسئلة عن الإيمان"، ويأتي جواب هذه الأبطولة.
ج. بتر النصوص وإخراجها عن مساقها:
ويعمد مثيرو الأباطيل - وهم يستشهدون بالمصادر الإسلامية - إلى بتر النصوص واجتزائها، فيختارون من النص ما يعجبهم، ويدَعون ما لا يوافق هواهم وباطلهم، ومن ذلك ما صنعه القمُّص زكريا بطرس وهو يستدل لعقيدة التثليث بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171)، فقد تعامى عن أول الآية وتمامها؛ لما فيهما من تنديد بالتثليث ووعيد لأهله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَاّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلَا الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} (النساء: 171 - 172).
وهذا البتر للنصوص عادة للقمُّص زكريا بطرس لا يمل من معاودتها في برامجه الفضائية، فحين أراد الاستدلال على صحة كتابه المقدس زعم أن القرآن لا يقول بالتحريف اللفظي للتوراة والإنجيل، بل يقول بوقوع التحريف المعنوي فقط، واستدل لذلك بما جاء في تفسير البيضاوي بعد اجتزاء كلام البيضاوي وبتره، فيقول القمص:(يقول البيضاوي: " {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يعني اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} طائفة من أسلافهم {يَسْمَعُونَ كلام الله} يعني التوراة، {ثُمَّ يُحَرّفُونَه} أي تأويله فيفسرونه بما يشتهون")، ثم عقب على كلام البيضاوي بالقول:(مش [لم] يغيروا الألفاظ والكلام).
وقد تعمد القمص بتر كلام البيضاوي الذي تحدث عن نوعين من التحريف: أولهما تحريف الألفاظ، والآخر تحريف المعاني الذي ذكره القمُّص،
وعبارة البيضاوي بتمامها: " {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} كنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون"(1)، فحذف من عبارة البيضاوي قوله:"كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم" لما فيها من إشارة إلى تحريف الألفاظ.
وأعاد القمص هذا الصنيع ثانية، وهو ينقل قول البيضاوي في تفسير قول الله تعالى:{مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} ، فنقل عن البيضاوي أنه قال بالتحريف المعنوي دون اللفظي، فقال:(قال البيضاوي: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ أي يؤولونه على ما يشتهون، فيميلونه عما أنزل الله فيه").
وقد بتر منه ما يخالف مقصده ويفند استدلاله، فعبارة البيضاوي بتمامها:" {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه"(2).
ومن صور البتر والتحريف ما رأيته عند عدد من كُتَّاب النصارى وقسسهم (3)، فقد زعموا أن الرازي كان يستشكل القول بنجاة المسيح من الصلب ووقوع الشبه على غيره، ونقلوا عنه قوله:"بالجملة فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات: الإشكال الأول: إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة .. "، ثم يسوقون كلاماً طويلاً للرازي ملخصه أن القول بصلب غير المسيح بدلاً عنه فيه ست إشكالات، نقل هذه الإشكالات عنه ثروت سعيد، وعقَّب عليها بالقول:"انتهى للإمام فخر الدين الرازي، ولا تعليق"،
(1) أنوار التنزيل، البيضاوي (1/ 70).
(2)
المصدر السابق (1/ 217).
(3)
انظر: حقيقة التجسد، ثروت سعيد، ص (325)، وقد صنعه القس أسعد وهبة في مناظرته لي حول مسألة "صلب المسيح في العهد الجديد"، وهي منشورة على الشبكة العنكبوتية.
وهو يوهم قراءه أن هذه الإشكالات يستشكلها الرازي، فيقول:"ولهذا لم يكن بُدٌّ لعالم نزيه كالإمام العلامة فخر الدين الرازي أن يفند قصة الشبه تفنيداً محكماً"(1).
والحق أن الرازي رحمه الله ذكر الإشكالات الستة التي يستشكلها النصارى وغيرهم على قول القرآن بنجاة المسيح، ثم لما انتهى من سردها شرع في الرد عليها جميعاً، فقال: " فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات: والجواب عن الأول
…
والجواب عن الثاني
…
".
وبعد أن رد عليها واحداً واحداً؛ ختم بنتيجة شافية كافية فقال: "وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه؛ امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع"(2)، فتعامى ثروت سعيد وغيره من المبطلين عن إتمام قول الرازي، ووقعوا في التدليس المشين حين نسبوا إليه قول النصارى الذي كان يرد عليه.
د. محاكمة القرآن إلى مصادر ومعلومات غير موثوقة:
ويلجأ الطاعنون في القرآن من النصارى في إلقاء شبهاتهم إلى محاكمة القرآن إلى مصادر مرفوضة ومطعون في موثوقيتها كالكتاب المقدس الذي يرى المسلمون والمحققون من أهل الكتاب أنه أسفار تاريخية كتبها مجهولون، ونُسبت إلى الأنبياء بلا سند يوثقها، وعليه فهذه الكتب مجروح في شهادتها، ولا اعتداد ولا موثوقية في أخبارها، التي يحاكم الطاعنون القرآن بموجبها، فيعرضونها وكأنها مستندات ووثائق تاريخية متفق على صحتها، ثم يخطِّئون القرآن حين يخالفها ويناقضها، أما إذا رأوه موافقاً لها فإنهم لا يخجلون من الزعم بأنه نقل منها، فلا يسلم منهم
(1) انظر: حقيقة التجسد، ثروت سعيد، ص (324 - 326).
(2)
التفسير الكبير، الرازي (8/ 225).
القرآن حال الموافقة ولا المخالفة.
ومن ذلك تكذيبهم القرآن حين خالفهم في تسمية والد إبراهيم عليه السلام بـ "آزر"(انظر الأنعام: 74)، وحجتهم أن التوراة سمته "تارح"(انظر التكوين 11/ 27).
وكذلك كذبوا القرآن الكريم حين تحدث عن كفالة زوجة فرعون لموسى (انظر القصص: 9)، لأن التوراة تقول: إن الذي كفله ابنة فرعون (انظر الخروج 2/ 5 - 7).
وكذلك كذبوا أن يكون لون بقرة بني إسرائيل الصفار الفاقع (انظر البقرة: 69)، لأن التوراة تقول تجعلها حمراء اللون (انظر العدد 19/ 1 - 4)، وكل هذه الأخبار التوراتية خاطئة، لا اعتداد بها، وهي أضعف من أن تكون حجة على إخباري أو مؤرخ؛ فضلاً عن القرآن العظيم.
كما يولع الطاعنون في القرآن بالغرائب الموجودة في كتب بعض المفسرين، وهي في جملتها منقولة من مرويات وأخبار أهل الكتاب، فيخلطون بينها وبين القرآن، ويجعلون معانيها المنكرة حجة عليه، وفي هذا مجافاة للموضوعية؛ فإن كتب الرجال يحتج لها بالقرآن، ولا يحتج بها عليه.
ولعل من أهم صور ذلك قصة الغرانيق التي أطبق على ذكرها الطاعنون في القرآن، وقد بين علماء الإسلام بطلانها؛ وإن أوردها مفسرون ومؤرخون وصفهم القاضي عياض بأنهم "المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم"(1)، فلولعهم بذكر الغرائب أُثقلت مؤلفاتهم العظيمة بالإسرائيليات وسخيف مقولات الأمم التي تروي ما ترويه بلا زمام ولا قيد؛ فنقل الطاعنون هذه المرويات، ولبّسوا على عوام المسلمين حين أوهموهم بصحة
(1) الشفا (2/ 125)، وسيأتي بيان هذه الأبطولة.
هذه الأقوال المنقولة في بعض كتب التفسير، ولا ينسى الخبثاء - في مثل هذه الحال - ذكر أرقام الصفحات التي نقلوا عنها؛ يرومون بذكر هذه التفاصيل مزيداً من الخداع لعوام المسلمين لإيهامهم بصحة ووثاقة المعاني المستقبحة الموجودة في تلك الروايات التي نقلها المسلمون الأقدمون في كتبهم عملاً بالقاعدة المشهورة عندهم "من أسند لك فقد أحالك".
ومن ذلك ما نقله الطاعنون عن بعض كتب التفسير لقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص: 21)، فقد أوردوا قصة مزعومة باطلة، وملخصها أن داود عليه السلام رأى امرأة جاره تستحم، فأولع بها، فأرسل زوجها للقتل في الحرب، ثم تزوجها، وأن الله عاتبه على فعله، فبكى أربعين يوماً حتى نبت العشب من دموع عينيه (1)، فهذه القصة الخرافية المستنكرة في معانيها منحولة في أصلها من أسفار التوراة (انظر: صموئيل (2) 11/ 1 - 26)، ولم ترد في كتب المسلمين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أو ضعيف.
ومثله استشهاد الطاعنين في القرآن بما رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق: 1 - 2): "ق، جبل مُحيطٌ بجميع الأرض، يقال له جبل قاف"، وعقب ابن كثير على هذا القول الغريب:" وكأنّ هذا - والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ الناس، لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَّق ولا يُكَذَّب. وعندي أن هذا وأمثالَه وأشباهَه من اختلاقِ بعض زنادقتهم، يَلْبِسُون به على الناس أمرَ دينهم"(2).
ومثله الاستشهاد بما ذكره المفسرون في تفسير قول الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34)، فذكروا قصة عجيبة، ملخصها
(1) انظر: جامع البيان، الطبري (21/ 184).
(2)
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/ 282).
أن شيطاناً ألقي عليه شبه سليمان، فكان يأتي نساءه (1).
قال أبو حيان الأندلسي: "نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وإنما هي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان، وأقرب ما قيل فيه: إن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، وجاءته بشق رجل» (2).
فهذه المنقولات وأمثالها في كتب التفسير، والكثير منها لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا يحل أن تعتبر تفسيراً لآيات القرآن، فإن فيها ما يصد عن القرآن، ويفسح المجال لأصحاب الأباطيل للطعن في القرآن الكريم والتلبيس على الناس بهذه المرويات الفاسدة.
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (15/ 200).
(2)
البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (7/ 381)، والحديث مروي في الصحيحين، أخرجه البخاري ح (3424)، ومسلم ح (1654).
القرآن كتاب الله المحفوظ
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
عهد الله بالكتب السابقة إلى أصحابها فأضاعوها وبدلوها، فصان الله كتابه الأخير عن عبث البشر وتحريفهم، وتعهد بحفظه {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41 - 42).
وإنفاذاً لوعد الله بحفظ كتابه الأخير قيض عز وجل أسباباً كثيرة؛ حفظه من خلالها، وجعلته مخصوصاً بين سائر الكتب الدينية والدنيوية بحفظ ملايين المسلمين له عبر القرون.
نزل القرآن الكريم في أمة أُمِّية تعتمد الحفظ القلبي طريقاً لحفظ تراثها وأشعارها وأنسابها، لا تجد عنه بديلاً، فراعى الله حالهم وأنزله عليهم منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، فسهل عليهم حفظه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32)، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106).
وكان أول حفظ الله للقرآن أن مكنه في قلب النبي صلى الله عليه وسلم الذي حرص على تلقي القرآن بعناية وحفظ، وكان يردده حال سماعه له من جبريل عليه السلام، خشية أن يفوته منه شيء، فطمأن الله قلبه وهدأ روعه، وأعلمه أن القرآن محفوظ في قلبه بحفظ الله:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114).
وهو محفوظ من بعد ذلك: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة: 16 - 17).
قال ابن كثير: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل ـ
إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى: جمعه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وإيضاح معناه" (1).
ولمزيد من الحفظ للقرآن ولتوثيق حفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان جبريل عليه السلام ينزل عليه كل عام في شهر رمضان يدارسه القرآن، فلا يتفلت منه شيء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)(2).
وخلال ثلاث وعشرين سنة بقي القرآن الكريم موضع اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم، يتولى بنفسه إقراء أصحابه وتعليمهم القرآن؛ بل وتحفيظهم سوره، يقول ابن مسعود:(أخذت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة)(3).
وكان هذا ديدنه صلى الله عليه وسلم حتى مع المسلمين الجدد، فكان يتعاهدهم بما قد فاتهم من القرآن، فإذا ما شُغِل أَمرَ أصحابه بتعليمهم بدلاً عنه، يقول عبادة بن الصامت:(كان رسول الله يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ رجلاً، فكان معي أُعشيه عشاء أهل البيت، وأُقرئه القرآن)(4).
وبمثل هذا الحرص البالغ من النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يتتبعون ما ينزل من القرآن في كل يوم، ولا يشغلهم عنه شيء من أمور
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/ 577).
(2)
أخرجه البخاري ح (6)، ومسلم ح (2308).
(3)
أخرجه البخاري ح (5000)، ومسلم ح (2462).
(4)
أخرجه أحمد ح (22260).
الدنيا، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار من عوالي المدينة: وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك)(1).
وأما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد شكته زوجته إلى رسول الله لاستغراقه في العبادة وفي قراءة القرآن عن واجبات الزوجية، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم:«وكيف تختم» فقال: كل ليلة. فقال صلى الله عليه وسلم: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر» .
لكن عبد الله كان ذا همة عالية، فقال: أطيق أكثر من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: «صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ [أي القرآن] في كل سبع ليال مرة» ، فأقام دهراً يقرأ القرآن كل سبع ليال، حتى كبرت سنه، وشق عليه ذلك، فكان يقول: ليتني قبلتُ رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك أني كبرت وضعفت. فكان يقرأ على بعض أهله السُّبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار؛ ليكون أخف عليه بالليل .. كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه (2).
وأما ذو النورين عثمان بن عفان صهر النبي صلى الله عليه وسلم وجامع القرآن، فتذكر زوجته نائلة بنت الفرافصة الكلبية أنه "كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرآن"(3).
وأما أُبي بن كعب فينقل أبو المهلب أنه كان يختم القرآن في ثمان ليال، بينما
(1) أخرجه البخاري ح (89)، ومسلم ح (1479).
(2)
أخرجه البخاري ح (5052).
(3)
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (130)، وابن أبي شيبة في مصنفه ح (3710).
كان تميم الداري يختمه في كل سبع (1)، وأحياناً كل ليلة (2).
ويحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ظاهرة عرفها تاريخ الإسلام منذ عهد الصحابة الكرام، وهي قيام الليل بآيات وسور القرآن الكريم، فيقول:«إني لأعرف أصوات رفقةَ الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار» (3).
وحتى يثبت القرآن في صدور الصحابة نهج النبي صلى الله عليه وسلم نهجاً قويماً رسَّخ حفظهم وجوّد تعلمهم للقرآن، يقول التابعي أبو عبد الرحمن السلمي:(حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله كان يقرئهم عشر آيات، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل معاً)(4).
وتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكان يقرئهم، ويسمَعهم، فهذا أُبى بن كعب يأتيه رسول الله، ويقول له:«إني أمرتُ أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا» ، وفي لفظ:«إني أقرئك القرآن، قال: الله سماني لك؟ قال: «نعم» ، فبكى أُبي» (5).
وهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كان من نجباء الصحابة، وكان من أحسن الناس صوتاً، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قراءته، فقال مشجعاً له:«لقد أوتاتَ مزماراً من مزامير آل داود» (6).
وأما عبد الله بن مسعود فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «اِقرأ علي» . فقال: يا
(1) انظر: فضائل القرآن، ابن كثير (1/ 165).
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة ح (3711).
(3)
أخرجه البخاري ح (4332)، ومسلم ح (2499).
(4)
أخرجه ابن مجاهد في كتابه "السبعة في القراءات"، ص (69).
(5)
أخرجه البخاري ح (4961)، ومسلم ح (799).
(6)
أخرجه البخاري ح (5048)، ومسلم ح (793).
رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزل؟ قال:«نعم، أحب أن أسمعه من غيري» .
يقول ابن مسعود: فقرأتُ سورة النساء حتى أتيتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} (النساء:41)، فقال:«حسبك» ، فإذا عيناه تذرفان (1).
وحين ولي أبو الدرداء رضي الله عنه قضاء دمشق، كان يجمع الناس على مائدة القرآن، يقول سويد بن عبد العزيز:(كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم يرجع إلى عريفه، وإذا غلط عريفهم يرجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفاً على عشرةِ، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر)(2).
وعن مسلم بن مشكم أن أبا الدرداء قال له: اعدد من يقرأ عندي القرآن؟ فعددتهم ألفاً وست مائة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقراء، وكان أبو الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء رضي الله عنه (3).
إن هذا الاهتمام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أثر أكيد لما رأوا من حث النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تعلم القرآن، فقد استحث هممهم بقوله:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (4)، وأخبرهم أنه «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه» (5)، فقراءة القرآن من
(1) أخرجه البخاري ح (4582)، ومسلم ح (800).
(2)
معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/ 41).
(3)
معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/ 42).
(4)
أخرجه البخاري ح (5027).
(5)
أخرجه ابن ماجه ح (3780)، وأحمد ح (10967).
أفضل العبادات، و «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق؛ له أجران» (1).
وقد سارع الصحابة إلى حفظ سور القرآن ومدارستها، فكان منهم المئات من القراء، وقد أتم بعضهم حفظ كامل القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سأل قتادة خادمَ النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: (أربعة، كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد)(2).
ولم يقتصر حفظه على الرجال، بل حفظته المؤمنات في خدورهن، وممن حفظه أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، فكانت تؤم أهل دارها (3).
وحتى نقف على كثرة هؤلاء القراء في أول عصور الإسلام وقبل انتشاره في الدنيا؛ يكفينا أن نذكر بأنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قتل في وقعة اليمامة الكثير من القراء أيضاً مما استدعى الجمع الكتابي، فقد قال عمر بن الخطاب لخليفة المسلمين أبي بكر:(إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن)(4)، فكان هذا سبباً في مبادرة الصحابة إلى جمع القرآن في مصحف واحد مكتوب في عهد الصديق.
إن الاهتمام البالغ في حفظ القرآن وتعلمه ليس خاصاً بالصحابة رضوان الله عليهم، بل هو دأب توارثته الأمة جيلاً بعد جيل، ويكفي في هذا الصدد أن ننقل بعضاً من أخبار التابعين.
(1) أخرجه البخاري ح (4937)، ومسلم ح (798)، واللفظ له.
(2)
أخرجه البخاري ح (5003)، ومسلم ح (2465).
(3)
أخرجه أبو داود ح (591)، وأحمد ح (26739).
(4)
أخرجه البخاري ح (4986).
ونبدأ بخبر التابعي أبي عبد الرحمن السلمي، فقد تعلم القرآن من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ثم كان يُقراء الناس في المسجد أربعين سنة، وكان يعلمهم القرآن خمس آيات خمس آيات.
وأما مجاهد المكي فيقول: "ختمت القرآن على ابن عباس تسعاً وعشرين مرة".
ولما حضرت الوفاة أبا بكر بن عياش بكتْ أخته، فقال لها:"ما يبكيك، انظري إلى تلك الزاوية، قد ختمت فيها ثماني عشرة ألف ختمة"(1).
ولقد ورد عن عدد من التابعين أنهم كانوا يختمون القرآن خلال أيام معدودات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أي كان القرآن نهمتهم في النهار وأنيسهم في الليل، ومنهم سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود النخعيين، فقد روى البيهقي عن إبراهيم النخعي أنه قال:"كان الأسود يقرأ القرآن كل ست ليال، وكان علقمة يقرؤه في كل خمس ليال"(2).
وقال المروذي: "كان سعيد بن المسيب يختم القرآن في ليلتين، وكان ثابت البناني يقرأ القرآن في يوم وليلة .. وكان أبو حرة يختم القرآن كل يوم وليلة، وكان عطاء بن السائب يختم القرآن في كل ليلتين .. "(3).
وقد نقل القرآن الكريم إلينا بحفظ الجموع عن الجموع في كل عصر، ويحفظه اليوم الملايين من المسلمين في أصقاع الأرض، ليحقق القرآن وصف الله له بقوله في الحديث القدسي:«ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء؛ تقرؤه نائماً ويقظان» (4).
(1) انظر هذه النماذج من العناية بالقرآن وغيرها في كتاب معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/ 30، 53، 67، 138).
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 399).
(3)
تحفة الأحوذي، المباركفوري (8/ 219).
(4)
أخرجه مسلم ح (2865).
يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: «أناجيلهم في صدورهم» "(1).
وهكذا كان الإقبال على القرآن دأب الأمة المسلمة منذ الرعيل الأول وإلى يومنا هذا؛ حيث نشهد ملايين الحفاظ في أقطار الدنيا، يقرؤونه غضاً كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم؛ ليحققوا موعود الله عز وجل بحفظ كتابه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
لقد حفظ القرآن كما نزل بلسان العرب، ولم يكن ذلك الحفظ مخصوصاً بالعرب دون غيرهم من المسلمين، فمئات الألوف ممن يحفظونه اليوم ليسوا من أهل العربية، بل لربما حفظه من لا يكاد يعرف شيئاً عن لغة العرب ومعاني ألفاظها، فيقرؤه بلسان عربي مبين، كما يقرؤه العربي سواء بسواء.
إن هذه الأعجوبة القرآنية لا مثيل لها عند أمة من الأمم، ومن أراد أن يقف على عظمتها فليجرب حفظ قصيدة كتبت بلغة يجهلها، ولسوف يشهد معنا أن حفظ الجموع الكاثرة من الأعاجم للقرآن برهان ساطع على أنه من عند الله، فقد يسر الله تلاوة كتابه على الناس، بحيث يقرؤه الصغير والكبير، والعالم والجاهل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17)، فهذا التيسير لا يكون إلا لعظمة تعجز عن بلوغها قوى البشر، وتكل دونها قدراتهم.
(1) النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/ 6)، والحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (9903)، والبيهقي في دلائل النبوة ح (343).
الجمع الكتابي للقرآن الكريم
إن تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حفظ القرآن لا يوازيه شيء إلا عنايته بالتوثيق الكتابي للنص القرآني، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد ذلك بنفسه، والصحابة يكتبون بين يديه ما ينزل من الوحي، يقول عثمان رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآيات يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له:«ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» (1).
ولا يبطئهم عن ذلك ولا يثقلهم كثرة آيات المقدار المنزل، فقد سارعوا إلى كتابة سورة الأنعام حين نزولها، مع أنها من أطول سور القرآن، وأنها مكية نزلت زمن الاضطهاد، يقول ابن عباس:(نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم)(2).
وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من السابقين إلى الإسلام ما يشير إلى وجود كتابة للمصحف بين يدي الصحابة الذين كانوا يقرؤون في بيت فاطمة بنت الخطاب، وكان خباب بن الأرت يقرئهم القرآن في صحيفة (3).
وقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب بين يديه اهتماماً بالغاً، إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه، يقول زيد بن ثابت: كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال:«اقرأه» ، فأقرأُه، فإن كان فيه سقط أقامه (4).
وخوفاً من تداخل المكتوب من القرآن مع غيره من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر صلى الله عليه وسلم أن: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» (5).
(1) أخرجه أبو داود ح (786)، والترمذي ح (3086)، واللفظ لأبي داود.
(2)
ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 1)، والقاسمي في محاسن التأويل (6/ 446).
(3)
أخرجه البزار ح (279).
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط ح (1985)، قال الهيثمي:"أخرجه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات". مجمع الزوائد (8/ 257).
(5)
أخرجه مسلم ح (3004).
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر:
ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قبل أن يجمع هذا المكتوب بين يديه في مصحف واحد، كما نقل إلينا كاتب الوحي زيد بن ثابت بقوله:(قبض النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن القرآن جمع في شيء)(1).
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت حروب المرتدين، وكان أشدها معركة اليمامة التي قتل فيها قرابة الألف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير منهم من القراء وحفظة القرآن، فاقترح عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر الصديق جمع القرآن في مصحف واحد، خشية ضياعه بوفاة المزيد من القراء، ووافق الخليفة على المقترح بعد طول تردد، وانتدب لجنة للقيام بذلك العمل العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن ثابت رضي الله عنه، وإشراف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
يقول زيد: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} (التوبة: 128) إلى آخرهما.
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر (2).
وتبين لنا رواية ابن أبي داود المنهج الذي اتبعه زيد في الجمع، إذ لم يعتمد محفوظاته ومحفوظات الصحابة، بل بحث عن المكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط لقبوله أن يوثق بشهادة شاهدين يشهدان بكتابته من إملاء النبي صلى الله عليه وسلم، يقول يحيى بن
(1) أخرجه الدير عاقولي بإسناده إلى زيد بن حارثة في فوائده، كما نقل ذلك السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1/ 164).
(2)
أخرجه البخاري ح (4679).
عبد الرحمن بن حاطب: قام عمر بن الخطاب في الناس فقال: (من كان تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان)(1).
قال أبو شامة المقدسي: http://www.khayma.com/sharii/ch2/004.htm - (8) ( وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي، لا من مجرد الحفظ) (2).
وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم موثقاً بشهادة شاهدين على الأقل، يشهدان أنه كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
هل نقل شيء من القرآن بطريق الآحاد
؟
ويرِد على هذا الجمع شبهة، وهي قول بعضهم: القرآن لم ينقل كله بالتواتر، بدليل أن زيد بن ثابت لم يجد خاتمة سورة براءة إلا مع خزيمة الأنصاري، وهو صحابي واحد، إذ يقول زيد:(فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} إلى آخرهما)(3).
والجواب: سبق الحديث عن حفظ الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسور القرآن كلها، ومنها آيات سورة براءة، التي سأل زيد الصحابة عنها، فلم يعرفها أحد ممن سألهم إلا خزيمة الأنصاري (4)، أي لم يجدها مكتوبة إلا عنده، فأثبتها في مصحف أبي بكر، ويدل عليه قول زيد: (نسخت الصحف في المصاحف ففقدت
(1) أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (33).
(2)
انظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي (1/ 167)، وفتح الباري، ابن حجر (9/ 15).
(3)
أخرجه البخاري ح (4679).
(4)
وسمته بعض الروايات (أبو خزيمة).
آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها؛ فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري) (1).
قال الزرقاني في بيان معنى قول زيد: "لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة، فالذي انفرد به أبو خزيمة [أو خزيمة] هو كتابتهما، لا حفظهما، وليس الكتابة شرطاً في المتواتر، بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم، فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقاً واحتياطاً فوق ما يطلبه التواتر"(2).
واستدل لذلك بما روي عن الصحابة من حفظهم لهاتين الآيتين، أولهم زيد نفسه، فهو يعرف الآية، لكنه يبحث عمن يعرفها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل في سائر آيات القرآن، لذلك يقول زيد- كما في رواية البخاري -:(فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري)، فزيد يعرف الآية ويبحث عمن يعرفها من الصحابة (3).
وكذلك فإن أُبي بن كعب يحفظ هاتين الآيتين، ففي تفسير ابن أبي حاتم أن أُبياً قال للصحابة لما ظنوا أن آخر ما نزل قوله:{ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم} ، فقال:(إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ})(4).
(1) أخرجه البخاري ح (2807).
(2)
مناهل العرفان، الزرقاني (1/ 98).
(3)
أخرجه البخاري ح (4049).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1919)، وابن أبي داود في المصاحف ح (97)، وابن ضريس في فضائل القرآن ح (26).
وكذلك يحفظهما عمر رضي الله عنه، ففي مسند أحمد أنه رضي الله عنه قال:(وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله)(1).
وكذلك يحفظهما عثمان، ففي كتاب المصاحف أن عثمان رضي الله عنه قال:(وأنا أشهد أنهما من عند الله)(2).
وكذلك سمع ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية وتفسيرها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني من أعظمكم قدراً (3).
وقد جاء في روايات لا تخلو من ضعف عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن قلة من شهد لهاتين الآيتين سببه أنهما آخر ما نزل من القرآن (4).
وهكذا فهاتان الآيتان محفوظتان بحفظ الصحابة لهما، وإن لم توجدا مكتوبتين إلا عند خزيمة، لكن يحفظهما الصحابة حفظة القرآن، كما يحفظها زيد وعمر وعثمان وأبي، وغيرهم ممن لا يعرف عددهم إلا الله تعالى.
(1) أخرجه أحمد ح (1717)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس.
(2)
أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (33).
(3)
أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 262).
(4)
أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 368).
الجمع العثماني:
وفي عهد عثمان الخليفة الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم قدم حذيفة بن اليمان إلى الخليفة يشكو اختلاف المسلمين في القراءة بسبب جهل الكثيرين بالحكمة من الأحرف السبعة والإذن بالقراءة بها، لأن الله نزل القرآن بها جميعاً، فجعل بعضهم يقول: إن حرفه أصح من حرف غيره، وحصل بينهم مراء في الأحرف، وهي كلها قرآن منزل من الله، سهَّل الله بها القراءة على الناس الذين لم يعتادوا على لغة قريش، يقول حذيفة:(يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)(1).
فاستشار عثمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إعادة نسخ القرآن وفق لغة قريش التي نزل بها القرآن أول مرة، فوافقوه في ذلك، يقول علي بن أبي طالب: إن عثمان قال: (فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت)(2).
وكوَّن عثمان رضي الله عنه لجنة عمادها أربعة من حفاظ القرآن، ثم أضاف إليها ما جعل أعضائها اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول كثير بن أفلح:(لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت)(3).
وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي بكر وكتابته وفق لسان قريش، يقول حذيفة: (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في
(1) أخرجه البخاري ح (4988).
(2)
أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ح (77)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (9/ 18).
(3)
أخرجه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف ح (88).
المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم) (1).
وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية كتابة كلمة واحدة فقط، يقول حذيفة:(فاختلفوا في "التابوت" و" التابوه "، فقال القرشيون بالأول، وقال زيد بالثاني، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بالتابوت، فإنه نزل بلسان قريش)(2).
وتكامل الجمع العثماني بإجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عثمان بإرسال نسخ من المصحف المجموع إلى الأمصار، كما أمر من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة:(حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف؛ رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق)(3).
ففعل الصحابة وامتثلوا ذلك، واتفقوا على صحة صنيع عثمان، يقول الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً، والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل)(4).
(1) أخرجه البخاري ح (3506).
(2)
أخرجه الترمذي ح (3104).
(3)
أخرجه البخاري ح (4988).
(4)
أخرجه أبو بكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (77)، وابن شبة في تاريخ المدينة المنورة (3/ 996).
وامتثال الصحابة وفعلهم إقرارٌ لعثمان على صحة جمعه وإعادته نسخ مصحف أبي بكر، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.
وهكذا وثق النص القرآني كتابة، فاجتمع ذلك إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه الألوف منهم في كل عصر، ويولونه من العناية ما لا مثيل له في أمة من الأمم.
هل القرآن الكريم من إنشاء محمد صلى الله عليه وسلم
-؟
قالوا: القرآن ليس وحي الله، بل هو من إنشاء محمد وإبداعه!.
والجواب: أن هذه دعوى تحتاج إلى دليل، كما أن القول بنزول القرآن من الله على النبي صلى الله عليه وسلم دعوى تحتاج أيضاً إلى دليل، فنحن أمام خيارين: أولهما أن القرآن من كلام الله. والآخر أنه من إنشاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو فرضنا ـ جدلاً ـ صحة الخيار الثاني، فإنا نتساءل: لماذا يؤلف مدعي النبوة هذا السِفر العظيم وتلك اللوحة البيانية المذهلة ثم ينسبه إلى غيره.
ولماذا يتحدى العالمين أن يأتوا بمثله؟ وكيف له أن يحيط بأخبار الأولين وأن يتوصل إلى علوم الآخرين؟ وكيف تنبأ بالغيوب الكثيرة التي ملأت صفحات كتابه، ومنها ما تحقق في حياته، ومنها ما يشهد وقوعه بصدقه إلى قيام الساعة.
ثم لو كتب مدعٍ ما كتاباً، فماذا ترانا نتوقع أن نجد فيه؟
لو أطلق الواحد منا خياله محاولاً تصور كتاب يكتبه مدع كاذب؛ فإنه سيجد الكثير مما ينبه العقلاء - ولو بعد حين - إلى بشريته، وأنه من صناعة إنسان، وهذا ليس بالعسير، فالبشر يكتبون بمعايير البشر وقدراتهم، ووفق أحاسيسهم ورغباتهم وعلومهم وموضوعاتهم.
إن نظرة فاحصة لآي القرآن ستنبئ عن إلهية منزل القرآن؛ إذ هو في موضوعاته يتسامى بعيداً عن اهتمامات البشر وما يجول في أذهانهم، فحديثه يدور حول موضوعات لا يطرقها البشر عادة ولا يقدرون على الإنشاء فيها، كالحديث عن صفات الله وأسمائه وأفعاله، وعن اليوم الآخر وأهواله وجنته وناره، والحديث عن التاريخ القديم والمستقبل البعيد.
وفي مقابل ذلك لا نجد أي مشاعر إنسانية يحملها القرآن في صفحاته، فلا
يظهر فيه حزن الاستضعاف المكي، ولا نشوة النصر المدني، لا نجد فيه أي حديث يتعلق بآلام النبي صلى الله عليه وسلم وأفراحه وآماله وتطلعاته، فكما لا يتحدث القرآن عن موت زوجه خديجة وعمه أبي طالب في عام الحزن؛ فإنه لا يذكر شيئاً عن زواجه أو ميلاد أولاده أو وفاتهم أو غير ذلك من الأمور الشخصية المتعلقة بزوجاته أو أصحابه، فالقرآن غير معني بتسجيل السير والحكايات، لذلك لم يرد فيه ذكر اسم زوجة من زوجاته أو ابن من أبنائه وبناته، بل ولا اسم عدو من أعدائه، ولا صاحب من أصحابه، خلا أبا لهب وزيداً رضي الله عنه.
بل إن القرآن لم يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في صفحاته إلا خمس مرات، بينما ذكر عيسى عليه السلام باسمه خمساً وعشرين مرة، وذكر موسى بما يربو على المائة مرة؛ ليبرهن لكل قارئ أنه كتاب الله، وليس كتاب محمد صلى الله عليه وسلم (1).
وإذا شئنا مزيداً من البيان فلننظر إلى الكتب التي يؤمن بها اليهود والنصارى اليوم؛ فإنا نجدها مليئة بما يدل على بشريتها، بما تحكيه من هموم البشر وآلامهم وآمالهم ورغباتهم، وذلك باب يطول تتبعه، وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
أرسل يوحنا في رسالته المقدسة عند النصارى كلمات تبين عواطفه ومشاعره الإنسانية، فيقول: " غايس الحبيب الذي أحبه بالحق، أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً
…
سلام لك، يسلم عليك الأحباء، سلم على الأحباء بأسمائهم" (يوحنا (3) 1 - 14).
وأما بولس فكتب إلى صديقه تيموثاوس رسالته التي أضحت عند النصارى جزءاً من كتابهم المقدس، فيقول فيها: "الرداء الذي تركته في تراوس
(1) هذه الملاحظة دفعت أستاذ الرياضيات في جامعة الظهران الدكتور الكندي غاري مِلر لاعتناق الإسلام في عام 1977م.
عند كابرس أحضره متى جئت، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق .... سلم على ريسكا وأكيلا وبيت أنيسي فورس، اراستس بقي في كورنثوس، وأما تروفيمس فتركته في ميليتس مريضاً، بادر أن تجيء قبل الشتاء
…
" (تيموثاوس (2) 4/ 13 - 21)، فمثل هذا الإنشاء والمعاني الإنسانية لا تجده في القرآن العظيم.
وفي مقابله يمكننا من خلال تفحص النص القرآني الوقوف على عشرات الشواهد التي تثبت أن هذا القرآن ليس من إنشاء محمد صلى الله عليه وسلم ولا تأليفه، بل هو كلام الله تبارك وتعالى المنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الصدد نقف مع أربعة أنواع من الآيات الدالة على ذلك، وهي:
- آيات عتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
- آيات تتعلق بأحداث تشهد بوحي القرآن عليه.
- إعجاز القرآن الكريم.
- إخبار القرآن بالغيوب.
وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولاً: دلالة آيات العتاب:
البشر حين يكتبون فإنهم يمجدون أنفسهم ويعظمون عند الناس ذواتهم، فالبشر يكتبون ليخلدوا ذكرهم ومفاخرهم، وهم بالطبع يتعامون عن ذكر معايبهم وأخطائهم، فما لتخليد هذا يكتبون.
ولم يسجل التاريخ البشري عن كاتب ما سجله القرآن من عتاب الله نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض ما فعله، ولو كان القرآن من إنشائه لبرر له فِعاله، وصوّب خطأه، فآي القرآن على خلاف ما نعتاده من البشر ونسقهم وطرائقهم في التأليف.
والمواضع التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم عديدة، منها أنه لما جاءه المنافقون بعد غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم بأعذار كاذبة؛ قبِل منهم أعذارهم، وعفا عنهم، فعاتبه ربه عز وجل:{عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43)(1).
ومنها أنه لما جاء إليه زيد بن حارثة يستشيره في طلاق امرأته زينب؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها، مع أن الله أعلمه أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له صلى الله عليه وسلم وأُمّاً للمؤمنين، فكشف القرآن سر نفسِه:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37)، تقول عائشة رضي الله عنها:(ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أُنزل عليه؛ لكتم هذه)(2).
ومنها أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من سادات قريش، فجعل يعرض عليهم الإسلام وهو يطمع في إسلامهم، وفيما هم كذلك دخل عليه عبد الله بن أم مكتوم وهو أعمى يسأله، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقبل على السادة طمعاً في إسلامهم،
(1) انظر: جامع البيان، الطبري (14/ 272).
(2)
أخرجه البخاري ح (7420)، ومسلم ح (177).
فعاتبه ربه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 1 - 10)(1)، ولو كان القرآن من كلام محمد، لما سطر فيه مثل هذا، بل كتمه.
وقد لفت هذا الموقف نظر المستشرق الإنجليزي الدكتور (لايتنر)، فقال في كتابه "دين الإسلام":"مرة أوحى الله إلى النبي وحياً شديد المؤاخذة؛ لأنه أدار وجهَه عن رجل فقير أعمى ، ليخاطب رجلاً غنياً من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذباً لما كان لذلك الوحي من وجود"(2).
وكذلك عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم لما حرم على نفسه العسل، حين أكله عند إحدى أزواجه، فأخبرته زوجتان أخريان أنهما تجدان منه ريح المغافير، وهو طعام حلو الطعم، سيء الرائحة، فحرَّمه صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقال له الله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (التحريم: 1).
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مؤلف القرآن لما قال فيما هو في ظاهره خطاب له صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (الإسراء: 74 - 75).
ولو كان من تأليفه لما قال عن نفسه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44 - 47)، فما هكذا يكتب البشر عن أنفسهم.
(1) أخرجه الترمذي ح (3331).
(2)
قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، ص (134).
ثانياً: أحداث تشهد بوحي القرآن:
إن آيات القرآن لم تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل جاءت أحياناً على خلاف ما يحبه صلى الله عليه وسلم ويهواه، ومن ذلك أنه لما توفي عبد الله بن أُبي كبير المنافقين، كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال له عمر رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} (التوبة: 80)، وسأزيده على السبعين» .
لقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن تدرك رحمته كل أحد، فأنزل الله تعالى عليه:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} (التوبة: 84)، فترك الصلاة عليهم (1).
ولما حضرت الوفاة عمه أبا طالب؛ دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: «أي عم، قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم متحسراً على وفاة عمه على غير الإسلام: «لأستغفرن لك؛ ما لم أُنه عنه» قال ذلك وفاء منه صلى الله عليه وسلم لعمه الذي كثيراً ما دافع عنه وآزره، فنزل قول الله على غير مراده:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113)، ونزل:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص: 56)(2).
وصلى صلى الله عليه وسلم الفجر يوماً، فرفع رأسه من الركوع، وقال والأسى يعتصر قلبه
(1) أخرجه البخاري ح (4670)، ومسلم ح (2400).
(2)
أخرجه البخاري ح (1360)، ومسلم ح (24).
مما يصنعه كفار قريش بأصحابه: «اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً» ، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128)(1).
كيف يصح فرض أن القرآن من إنشاء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله تعالى:{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} (الإسراء: 86 - 87).
وإن مما يدفع هذا الفرض ويدحضه تأخره عليه الصلاة والسلام في جواب أسئلة ملحة استلبث الوحي في جوابها، مع مسيس حاجته صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجواب.
ومن ذلك أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وطلبوا منهم العون في اختبار النبي صلى الله عليه وسلم للوقوف على صدق نبوته، فأرشدهم اليهود إلى سؤاله عن أمور ثلاثة: عن فتية كانوا في الدهر الأول، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح ما هو؟
وقالوا: فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأتت قريش النبيَّ صلى الله عليه وسلم وسألته، فقال لهم:«أخبركم غدا عما سألتم عنه» ، ولم يستثن [أي لم يقل: إن شاء الله].
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحْدِثُ الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه.
وأحزن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبرائيل- عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، وفيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وفيها أيضاً خبر ما سألوه عنه من
(1) أخرجه البخاري ح (4070).
أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وفيها قول الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85)(1)، فلو كان القرآن من عند نفسه صلى الله عليه وسلم لأجابهم من لحظته أو بعد ساعة، ولما أرهق نفسه خمس عشرة ليلة في انتظار جواب هو سيقوله وينشئه من عند نفسه.
وحين أرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه - عائشة رضي الله عنها أبطأ الوحي في بيان براءتها، وطال الأمر عليه وعلى المسلمين، والناس يخوضون في الإفك، حتى بلغت القلوب الحناجر ، وهو لا يملك إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس:«إني لا أعلم عنها إلا خيراً» .
وبقي صلى الله عليه وسلم شهراً في غم واستشارة للأصحاب، والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر:«يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله» (2).
ثم نزل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} إلى قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (النور: 26)، فأعلم الناس ببراءتها.
فماذا كان يمنعه - لو أن أمر القرآن إليه - أن يسارع إلى تقول هذه الكلمات الحاسمة؛ ليحمي بها عرضه ، ويذب بها عن عرينه ، وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين الذي ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44 - 47) (3).
(1) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/ 593).
(2)
أخرجه البخاري ح (2661)، ومسلم ح (2770).
(3)
انظر: الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين، عبد المحسن زبن المطيري، ص (311).
ثالثاً: الكتاب المعجز:
ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم وإنشائه؛ لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المدون في كتب السنة والحديث، ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة.
ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلاً، فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما كلام بليغ، لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده.
فقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله
…
» (1) كلام عربي فصيح، لكن شتان بينه وبين قول الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: 77 - 84)، فبين القولين من تباين الأسلوب وجزالته ما لا يخفى على العوام؛ فضلاً عن أرباب الفصاحة والبيان.
وإذا كان القرآن من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف نجح في تأليف هذا الذي ذهل لبلاغته أرباب اللغة ورواد الأدب والبيان؟ كيف جرُأ على تحديهم بالإتيان بمثله؟ ولماذا لم ينسبه إلى نفسه فيحوز شرف تأليفه وإبداعه؟ أما كان من الأوفق له أن ينسبه لنفسه ويتحدى به الآخرين، ولن يعارضه أحد في أنه صاحبه؟!
(1) أخرجه البخاري ح (1)، ومسلم ح (1907).
لقد جعل الله القرآنَ الكريم أعظم وأدوم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فهو معجزته في كل عصر وحين، وقد تحدى من قال بأنه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الإتيان بمثله، فكلام البشر يقارع ويضارع، وأما كلام الرب فلا يماثل ولا يكافأ.
لكن العرب على فصاحتهم وبيانهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله رغم التحدي القرآني المستفز لهممهم والتي تؤزه شدة الكراهية والعداوة له والحرص على الطعن فيه والتماس أي زلل فيه أو خطأ، وأعيتهم الحيل في ذلك، وهم يسمعونه يصدع بين ظهرانيهم:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:33 - 34).
فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثل جميعه، تحداهم القرآن بأقل منه؛ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم تضارع القرآن وتماثل بيانه {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13).
فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثله تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة تضارعه في بيانه وإحكامه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23).
ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول:{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24)، وأن نتيجة التحدي النهائية هي خسارة أعداء القرآن والزاعمين بشريته {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88).
كما قرر القرآن التحدي في صورة أخرى كان يذكرهم بها كرَّة بعد كرَّة، وهي الحروف المقطعة التي تبدأ فيها تسع وعشرون سورة من سور القرآن {ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1)، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1)، {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر: 1 - 2)، فهذه الآيات وأمثالها تقول للعرب: القرآن مكون من هذه الحروف، وهي حروف شعركم ونثركم، فهاتوا مثله يا من تدعون أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: "إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته"(1).
وهذا التحدي الإلهي قائم ما دام الليل والنهار، ولئن عجز عنه أرباب اللغة زمن جزالتها، فإنه لن يقدر عليه أولئك المتطفلون اليوم على موائد العلم والأدب والذين يحاولون محاكاة القرآن بالمضحك من القول والسخيف من المعاني، وسفاسف المعارف.
فحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلاً لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال:"يا ضفدع، نقي كما تنقين، لا الماء تدركين، ولا الشراب تمنعين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون"(2).
وقال أيضاً معارضاً القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى .. أوحي إلي أن الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/ 60).
(2)
ذكره الطبري في تاريخه (2/ 506)، وابن بطة في الإبانة الكبرى ح (2423)، وابن حبان في الثقات (2/ 176).
نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً" (1).
وشرع الأديب ابن المقفع في معارضة القرآن، وكان من أفصح أهل زمانه، ثم مرَّ بصبي يقرأ:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ} (هود: 44) فرجع فمحى ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر (2).
ومثله صنع يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه، فحُكي أنه رام معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج على منوالها، فعجز وقال:"فاعترتني منه خشية ورِقَّة حملتني على التوبة والإنابة"(3).
وظهرت في العصر الحديث محاولات سخيفة لتقليد القرآن ومحاكاته، لم يزد صانعوها على محاكاة أسلوب القرآن وطريقته في البيان مع تغيير بعض الألفاظ بطريقة تدعو للضحك، وتستدعي الشفقة، ومن ذلك أن القس أنيس شروش يحكي عن جهد قامت به مجموعة من المفكرين في القدس، وقد عملوا خلال ست عشرة سنة على إعادة صياغة الإنجيل على نحو أسلوب القرآن، فكان مما تحذلقوا فيه بعد هذه السنين: "بسم الله الرحمن الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي ولا تخافوا. إن لكم عنده جنات نزلاً. فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى، وإنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا.
فقال له توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علماً. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقاً، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً، ومن عرفني فكأنما عرف الله، ولأنكم منذ الآن تعرفونه وتبصرونه يقيناً، فقال له فيليب
(1) ذكره الطبري في تاريخه (2/ 499).
(2)
انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (1/ 275).
(3)
انظر المصدر السابق (1/ 275).
الحواري: مولانا أرنا الله جهرة تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد، وقد أقمت معكم دهراً؟ فمن رآني فكأنما رأى الله جهراً ".
وقد عقب القس على هذا الكلام الركيك الذي استمروا في إعادة صياغته خمس عشرة سنة بقوله: "إنه نص جميل بلغة عربية جميلة "(1).
وقد تكامل هذا الجهد السخيف، حين أصدروا ما سمي بـ "الفرقان الحق"، وأقتبس منه بعض الفقرات لأؤنس بها القارئ الكريم:"باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولاً لَغْواً ما كان شعراً ولا نثراً ولا قولاً سديداً * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديداً * يرغِّب التابعين ترغيباً ويهدد المعرضين تهديداً * حَسُنَ وقعاً في نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ في دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيداً"(2).
ويحكي الدكتور إبراهيم خليل قصة طبيب مصري مسيحي استفزه تحدي القرآن، فعزم على إنشاء كتاب يجيب فيه التحدي، ويسميه:"وانتهت تحديات القرآن".
وسعياً لتحقيق ذلك كتب الطبيب المصري رسالة أرسل صورة منها إلى ألفي عالم أو معهد أو جامعة ممن تخصصوا بالدراسات العربية والإسلامية في مختلف أنحاء العالم يدعوهم لمساعدته في إنجاز هذا الكتاب المهم، وكان مما سطره في خطابه قوله: "القرآن يتحدى البشرية في جميع أنحاء العالم في الماضي والحاضر والمستقبل بشيء غريب جداً، وهو أنها لا تستطيع تكوين ما يسمى بالسورة
(1) القرآن والكريم والكتاب المقدس، أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش، ص (101 - 102).
(2)
(الفرقان الحق)، منشور على شبكة الإنترنت.
باللغة العربية
…
السورة رقم 112، وهي من أصغر سور القرآن، ولا يزيد عدد كلماتها عن 15 كلمة، ويتبع ذلك أن القرآن يتحدى البشرية بالإتيان بـ (15) كلمة لتكوين سورة واحدة كالتي توجد بالقرآن
…
سيدي: أعتقد أن مهاجمة هذه النقطة الهامة والخطيرة، وذلك بالإتيان بأكبر عدد ممكن من السور كالتي توجد، أو - آمل أن تكون - أفضل من تلك الموجودة بالقرآن سيسبب لنا نجاحاً عظيماً لإقناع المسلمين بأنا قبلنا هذه التحديات، بل وانتصرنا عليهم
…
فهل تتكرم يا سيدي مشكوراً بإرسال 15 كلمة باللغة العربية أو أكثر من المستوى البياني الرفيع مكوناً جملة كالتي توجد في القرآن .. ".
وللتوثيق أورد الدكتور إبراهيم خليل صورة الخطاب وعناوين الجهات (2000 عنوان) التي أرسل إليها، وتكررت محاولة الطبيب المسيحي أربع مرات طوال سنة 1990م، فكانت محصلة ثمانية آلاف رسالة أرسلها إلى 2000 جهة أو شخصية علمية؛ أن وصلت إليه ردود اعتذار باهتة عرض الدكتور إبراهيم خليل صورها في كتابه، منها اعتذار كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، فقد كان ردها:"آمل أن نتفهم أن كُليتنا وأعضاءها يرفضون الخوض في المنازعات الدينية، وبالتالي فإنه لا يمكننا إجابة طلبك ".
وأما رد إذاعة حول العالم التنصيرية (مونت كارلو) فكان: " الموضوع الذي طرحته موضوع هام، لكننا كإذاعة لا نحب أن ندخل في حمى وطيس هذه المعركة، إذ لا نظن أنها تخدم رسالة الإنجيل، فرسالتنا هي رسالة محبة، وليست رسالة تحدي
…
".
وأما رد الأب ليو من الفاتيكان فكان مثيراً للشفقة: "بوصفنا مسيحيين فنحن لا نقبل بالطبع أن يكون القرآن هو كلام الله على الرغم من إعجابنا به؛ حيث يعتبر القمة في الأدب العربي .. هناك نقطة عملية تعوق مسألة الإتيان
بسورة من مثل القرآن، وهي: من ذا الذي سيحكم على هذه المحاولة إن تمت بالفعل
…
"، ولذلك اعتذر عن إجابة طلبه.
وأعاد الطبيب القبطي مراسلة جميع معاهد ومؤسسات الفاتيكان طالباً إجابة التحدي، وعرض أن يكون هو شخصياً الحكم بين القرآن والفاتيكان، وطلب من الأب " ليو" في الفاتيكان أن ينقل أي جزء مكون من 15 كلمة من الكتاب المقدس ليعارض بها القرآن، فكانت الإجابة صمت مطبق لا يشبهه إلا صمت أصحاب القبور (1)، ليصدق فيهم جميعاً قول الله تعالى:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88).
لقد اعترف أعداء القرآن - قديماً- بعظمة القرآن رغم عدائهم له، وذلَّت رقابهم لما سمعوه من محكم آياته، فها هو الوليد بن المغيرة سيد قريش وسابقها إلى محاربة النبي صلى الله عليه وسلم يسمعه وهو يقرأ قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90)، فيقول قولته المشهورة:"والله إنَّ لقولِه الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليَحطِم ما تحته"(2).
ولما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ أوائل سورة فصلت، فرجع إلى قريش قائلاً: "إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو
(1) انظر: لماذا أسلم صديقي؟ إبراهيم خليل، ص (67 - 111).
(2)
السيرة النبوية، ابن كثير (1/ 499).
بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ" (1).
وأما عمر بن الخطاب فقصة إسلامه مشهورة حين دخل على أخته فوجدها تقرأ في سورة طه، فلما قرأ فواتح السورة؛ رقّ قلبه ودخل في الإسلام، وأصبح عمرُ الفاروقَ الذي فرق الله به بين الحق والباطل.
وأما جبير بن مطعم رضي الله عنه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوااتِ وَالأَرْضَ بَل لَاّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} قال: (كاد قلبي أن يطير)، وفي رواية:(وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)(2).
وأما الطفيل الدوسي فقدم مكة، فحذرته قريش من سماع القرآن، وقالوا: وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئاً.
يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفاً [قطناً]؛ فَرَقاً [خوفاً] من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
لكن الله أبى إلا أن يسمعه وهو في الطواف بعض القرآن فقال لنفسه: "واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلتُه، وإن كان قبيحاً تركتُه".
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 202)، وابن إسحاق في السيرة (1/ 187).
(2)
أخرجه البخاري ح (4854) و (4023).
فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع القرآن، ثم ما لبث أن أسلم (1).
ومثله خبر الشاعر لبيد بن ربيعة العامري، وهو من فحول شعراء الجاهلية، وصاحب إحدى المعلقات السبعة، سأله عمر بن الخطاب يوماً: أنشدني من شعرك، فقرأ له سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتاً من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران (2).
وفي العصر الحديث أيضاً شهد المنصفون من المستشرقين بعظمة القرآن، وسجلت كلماتُهم بحقه المزيدَ من الإعجاب والدَّهش من نظمه وبيانه ومضمونه، ومنه قول المستشرق فون هامر في مقدَّمة ترجمته للقرآن:"القرآن ليس دستورَ الإسلام فحسب، وإنما هو ذِروة البيانِ العربي، وأسلوبُ القرآن المدهش يشهد على أن القرآنَ هو وحيٌ من الله، وأن محمداً قد نشر سلطانَه بإعجاز الخطاب، فالكلمةُ [أي القرآنُ] لم يكن من الممكن أن تكونَ ثمرةَ قريحةٍ بشرية".
وأما فيليب حتّي فيقول في كتابه "الإسلام منهج حياة": "إن الأسلوب القرآني مختلف عن غيره، إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه هو إعجاز القرآن .. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى".
وأما جورج حنا فيقول في كتابه "قصة الإنسان": "إذا كان المسلمون يعتبرون أن صوابية لغة القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن منزلاً ولا يحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية، بقطع النظر عن كونه منزلاً أو موضوعاً، ويرجعون إليه للاستشهاد بلغته الصحيحة كلما استعصى عليهم أمر من أمور اللغة".
(1) انظر: سيرة ابن هشام، ص (382).
(2)
الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر (3/ 1335).
ويقول الفيلسوف الفرنسي هنري سيرويا في كتابه "فلسفة الفكر الإسلامي": "القرآن من الله بأسلوب سام ورفيع لا يدانيه أسلوب البشر".
وأما المستشرق بلاشير فلم يألُ جهداً في الطعن في القرآن ومعاداته في كتابه "القرآن"، لكن الحقيقة غلبته، فقال:"إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة؛ تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجَّلته من التحف".
وقال المؤرخ ول ديورانت: " ولغة القرآن هي اللغة العربية الفصحى الخالصة، وهو غني بالتشبيهات والاستعارات القوية الواضحة والعبارات الخلابة التي لا توائم ذوق الغربيين. وهو بإجماع الآراء خير كتاب، وأول كتاب في الأدب النثري العربي".
وبهرت جزالة القرآن وروعة أساليبه المستشرق الشهير، الأديب غوته، فسجل في ديوانه "الديوان الشرقي للشاعر الغربي" هذه الشهادة للقرآن:"القرآن ليس كلام البشر، فإذا أنكرنا كونه من الله، فمعناه أننا اعتبرنا محمداً هو الإله".
وقال: "إن أسلوب القرآن محكم سام مثير للدهشة .. فالقرآن كتاب الكتب .. وأنا كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي"(1).
(1) انظر هذه الشهادات وغيرها: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل (52، 58 - 59، 75، 145)، وقصة الحضارة، ول ديورانت (13/ 52).
رابعاً: الإخبار بالغيوب
ومما يمنع نسبة القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عنه من الغيوب التي لا تنكشف إلا بوحي من الله علام الغيوب، فالغيب سر الله لا يعرفه إلا هو {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن: 26 - 28).
والنبي صلى الله عليه وسلم كسائر البشر لا يعلم الغيب المطلق {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50)، {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188)، فإذا ما أخبر صلى الله عليه وسلم بشيء من الغيب؛ فإنما يخبر بغيب لا يعلمه إلا الله، وتحقق هذه الأخبار شهادة صادقة على نبوته، وآية باهرة على أن ما يقوله إنما يقوله بوحي من الله.
ومن الغيوب الدالة على ربانية القرآن ما أخبر عنه من انتشار الإسلام وظهور أمره على الأديان، وبلوغه إلى الآفاق {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف: 9)، فهذه الآية نزلت بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها في زمن الاستضعاف، وهي إخبار بأمر غيب لا مدخل فيه للتخمين ورجم الظنون، فإما أنه خبر كاذب صادر من مدع لغير ما يستحقه، أو هو خبر صادق أوحاه الله الذي يعلم ما يُستقبَل من الأحداث والأخبار.
وحين ألقى الخوف بظلاله على المسلمين، حين رمتهم العرب عن قوس واحدة، وطمع فيهم الأعراب، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه.
فقالوا: ترون أنَّا نعيشُ حتى نبيتَ مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟ فنزل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور: 55)(1) وكان كذلك، فقد أمَّنهم الله من بعد خوفهم، وسوَّدهم الأرض، واستخلفهم فيها من بعد ذلتهم، ومكَّن لهم دينهم في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن غيوب القرآن، تنبؤه بنصر بدر العظيم، وذلك في وقت كان المسلمون يعانون في مكة صنوف الاضطهاد ويُسامون سوء النكال؛ وفي وسط هذا البلاء نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 43 - 46).
فقال عمر بن الخطاب [أي في نفسه]: أي جمع يهزم؟ أي جمع يُغلَب؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يثِب في الدرع، وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها يومئذ (2)، فالآية نزلت قبل الهجرة بسنوات؛ تتحدث عن غزوة بدر واندحار المشركين فيها، وتتنبأ بهزيمتهم وفلول جمعهم.
وقبيل معركة بدر أدرك النبي صلى الله عليه وسلم اقتراب تحقق الوعد القديم الذي وعده الله بمكة، فقام إلى العريش يدعو ربه ويناجيه:«اللهم إني أنشدُك عهدَك ووعدَك، اللهم إن شئت [هلاك المؤمنين] لم تُعبَد بعدَ اليوم» .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عريشه، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 6 - 7)، والحاكم في المستدرك (2/ 434).
(2)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 266)، والخبر يرويه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3321).
الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 45 - 46)(1)، وهكذا كان، فقد هزمت جموعهم، وولوا على أدبارهم، وصدق الله نبيَه الوعدَ، وفي تحققه آية بينة على أن هذا القرآن من وحي الله علام الغيوب.
(1) أخرجه البخاري ح (2915).