الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخطاء اللغوية المزعومة في القرآن الكريم
أولاً: الأخطاء النحوية المزعومة في القرآن
قال بعض من يزعم أنه من أبناء العربية: إن في القرآن أخطاء نحوية خالف فيها قواعد اللغة العربية، وهذا يدل على أنه ليس من كلام الله، لأن الله لا يخطئ، قالوا هذا حين استشكلوا بعضَ آيات القرآن؛ ورأوها على خلاف ما تعلموه في دراستهم لقواعد النحو في المرحلة الابتدائية، فظنوا أن في هذه الآيات خطأ فات الأولين، وأنهم تنبهوا له - بعبقريتهم - بعد مر القرون.
وقبل أن نعرض لأهم الآيات التي استشكلوها، نجيب بأجوبة إجمالية بين يدي البحث:
أولاً: أن العرب الذين نزل فيهم القرآن كانوا أفصح الناس، وكان فيهم أصحاب المعلقات كلبيد بن ربيعة رضي الله عنه الذي ترك نظم الشعر بعد سماعه للقرآن، ولم يستشكل ما استشكله أعاجم العرب اليوم، كما لم يستشكله مشركو قريش وغيرهم، رغم عداوتهم القرآن وحربهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وحرصهم على معاداة دينه {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} (مريم: 97)، لكنهم كانوا عرباً أقحاحاً، فعرفوا ما جهله أهل العُجمة من العرب اليوم.
ثانياً: أن اللغة في أصلها سماعية، لا قاعدية، فالعربي حين كان ينطق بالفاعل مرفوعاً، لا لأن آباءه علَّموه أن الفاعل مرفوع، بل لسليقته العربية التي نشأ عليها منذ طفولته.
لكن في القرن الثاني من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دخلت الفرس والروم والترك وغيرهم في الإسلام، وتكلموا بالعربية، فظهر اللحن، وضاعت السليقة، مما دعا العلماء المسلمين لوضع قواعد اللغة المعروفة عندنا اليوم، وقد وضعوها اعتماداً على مصدرين أساسين: الأول: القرآن الكريم، والثاني: ما ورد عن العرب في
أشعارهم وكلامهم، فالقرآن هو المصدر الأول والأساس لقواعد العربية.
لكن العرب الفصحاء قبل وضع هذه القواعد لم يكونوا على نسق واحد في الإعراب والأساليب اللغوية، فلكل قبيلة خصوصيتها اللغوية وفصاحتها وشعراؤها وأدباؤها وإثراؤها للغة الضاد، فعمد مقعدو اللغة إلى الشائع عند عموم العرب، وأهملوا غيره مما هو فصيح تنطق به بعض قبائل العرب.
ولو شئنا أن نضرب مثلاً لقلنا: الشائع في قواعد اللغة حذف ضمير الفاعل من الجملة إذا جاء الفاعل اسماً ظاهراً، فيقول عموم العرب:(جاء المسلمون)، ولا يقولون:(جاؤوا المسلمون)، لكن قبيلة طيء تجيز إثبات ضمير الفاعل، مع وجود الاسم الظاهر، وهي اللغة المشهورة عند النحاة بـ (أكلوني البراغيث)، ومنه قول أبي فراس الحمداني:
نُتِج الربيعُ محاسناً
…
ألقحنَها غرُّ السحائب
وكذا قول محمد بن أمية:
رأين الغواني الشيبَ لاح بعارضي
…
فأعرضنَ عني بالخدودِ النواضرِ (1)
فالشاعران ذكرا ضمير الفاعل (نون النسوة) في قولهما: (ألقحنها)، و (رأين) مع ذكر الفاعل الظاهر بعده، وهو قولهما:(غرُّ)، (الغواني).
فلا يصح أن يقال عن قوله: (رأين الغواني) بأنه لحن، وأن صحيحه حذف الضمير: رأت الغواني، فقد نطق به الفصحاء من العرب؛ وإن جاء على خلاف قواعد المتأخرين منهم، أو بالأحرى على خلاف الشائع عند الكثير من قبائل العرب.
ومثله شاع اليوم عندنا استخدام كلمة (الذين) في معنى الوصل، وهي لغة فصيحة عند العرب، ومثلها في الفصاحة ما يقوله بنو عقيل وغيرهم من العرب
(1) شرح شذور الذهب، ابن هشام، ص (229)، وفقه اللغة، الثعالبي (2/ 569).
الذين يستعيضون عنها بكلمة (الَّذُونَ)، وكذلك (الَّذُو)، كما في قول الشاعر:
قومي الذو بعكاظ طيروا شرراً
…
من روس قومك ضرباً بالمصاقيل (1)
وقول الآخر:
نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحْوا الصَّبَاحَا
…
يَومُ النُّخَيلِ غَارَةً مِلحَاحَا (2)
ومثله قول الشاعر الهذلي:
هم اللاؤون فكوا الغل عني
…
بمرو الشاهجان إلى الجناح (3)
فهل سيقال عن قبيلة هذيل أنها تلحن لقولهم (اللاؤون)، في حين أن غيرهم من العرب يقول (اللائي)؟.
ومثله حذف بعض العرب نون النسوة من الفعل المرفوع، في حين أن القواعد التي وضعها المقعِّدون بعد ذلك تعتبر إثبات النون علامة على رفع الفعل، بينما حذفها يعني جزمه أو نصبه، فهل سيقول أعاجم العرب اليوم أن هؤلاء العرب الأقحاح يلحنون؟
وهل سيتهمون الشاعر المبدع بشار بن برد باللحن والجهل لأنه حذف نون النسوة في قوله:
فلقد كان ما أكابد منها
…
ومن القلب يتركاني وحيداً (4)
ثالثاً: القرآن نزل بلسان عربي مبين {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28)، والعرب لم تعرف قواعد اللغة إلا بعد الإسلام، وقد وضعها المسلمون كالخليل بن أحمد وسيبويه وابن نفطويه وأمثالهم، واستنبطوها من القرآن أولاً ثم
(1) شرح الرضي على الكافية، الأستراباذي (3/ 20).
(2)
شرح ابن عقيل (1/ 144)، ومعجم القواعد العربية، الدقر (24/ 28).
(3)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، ص (535).
(4)
انظر: بشار بن برد - شخصيته وفنه، إبراهيم عوض، ص (392).
من أشعار العرب ومأثوراتها ثانياً، فكيف يحاكم القرآن إلى قواعد وجدت بعده، بل أخذت منه.
إن تقريرنا لهذه القواعد العامة كاف في الرد على كل الأباطيل المتعلقة بالنحو، لكن كفايتها لن تمنعنا من الرد التفصيلي على ما اشتبه على أصحاب الشبهات والأباطيل:
المسألة الأولى: رفع اسم (إنَّ).
قالوا: أخطأ القرآن في قوله تعالى - حسب قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم -: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فقالوا: رفع القرآن اسم إن بالألف، وكان المفروض أن ينصبه بالياء، فيقول:(إن هذين لساحران).
والجواب من وجهين:
الأول: أن قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} جاء على لغة بلحارث بن كعب وزبيد وخثعم وهمدان ومن وليهم من قبائل اليمن، حيث يلزمون المثنى الألف مهما كان موقعه من الإعراب، قال ابن جني:"من العرب من لا يخاف اللبس، ويجري الباب على أصل قياسه، فيدع الألف ثابتة في الأحوال، فيقول: قام الزيدان، وضربتُ الزيدان، ومررتُ بالزيدان، وهم بنو الحارث وبطن من ربيعة"(1).
ومن صور ذلك قول شاعرهم هوبر الحارثي:
تزود منا بين أذناه ضربةً
…
دعته إلى هابي الترابِ عقيمُ (2)
(1) سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/ 704)، وانظر: نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (130).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (11/ 217)، وانظر: سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/ 705).
فألزم المثنى الألف في قوله: (بين أذناه)، ولم يقل (بين أذنيه) كما هو معهود في قواعد اللغة التي كتبها النحاة بعده حسب الشائع عند غير قبيلته من قبائل العرب.
ومثله قول جرير بن عبد العزى الحارثي:
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأى
…
مَساغاً لِناباهُ الشُّجاعُ لصَمّما (1)
فألزم المثنى الألف في قوله: (لناباه)، مع أنه مجرور باللام، فهذه لغة قومه، وهم من هم في الفصاحة والبلاغة.
ومثله قول الآخر:
أعرف منها الجيدَ والعينانا
…
ومَنخران أشبها ظبيانا (2)
وفيه من شواهد مسألتنا ثلاث كلمات (العينانا) و (منخران) و (ظبيانا)، فهي جميعا مثنى منصوب بالألف؛ خلافاً لما قعَّده العلماء بعد ذلك وفقاً للمشهور في لغة العرب من نصب المثنى بالياء.
الوجه الثاني: أن من العرب الأقحاح الفصحاء من يقلب كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها إلى (ألف).
وبمثل هذا قال أبو النجم العِجْلي:
واهاً لسلمى ثم واهاً واها
…
هي المنى لو أننا نلناها
ياليت عينَاها لنا وفاها
…
بثمن نُرضي به أباها
إن أباها وأبا أباها قد
…
بلغا في المجد غايتَاها
فقد أبدل الشاعر الياء الساكنة المفتوح ما قبلها بالألف في قوله: (عيناها بدلاً من عينَيْها) وكذلك (غايتاها بدلاً من غايتَيْها).
(1) انظر: المصدر السابق (11/ 217)، وسر صناعة الإعراب، ابن جني (2/ 704).
(2)
شرح ابن عقيل (1/ 73)، وانظر: سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/ 705).
ومثله قول الشاعر:
أي قلوص راكب تراها
…
اشْدُدْ بمَثْنَيْ حَقَبٍ حَقْواها
ناجيَةً وناجياً أَباها
…
طاروا علاهن فَطِر علاها
قال ابن الحاجب: "القياس: عليهن وعليها، لكن لغة أهل اليمن قلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها، هذا الشعر من كلامهم"(1).
المسألة الثانية: نصب الفاعل
قالوا: القرآن نصب الفاعل (الظالمين) في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 24). قالوا: والصحيح أن يقول (الظالمون)، فالظالمون لا ينالون العهد. فجعل القرآن الفاعل منصوباً!.
الجواب: أن القرآن الكريم رفع الفاعل في مواضع لا تحصى لكثرتها، ورفع الفاعل أمر يدركه صغار طلاب الكتاتيب، ولا يحتاج في معرفته إلى خبير في اللغة العربية، فإذا علم ذلك فإن الحصيف إذا ما وجد أمراً استغربه - في كتاب ما- لوروده على خلاف المعهود فإنه لن يسارع إلى تجهيل المؤلف أو تغليطه، إذ مثل هذا لا يغلط به أحد.
والحق أن الخطأ وقع فيه المتحذلقون الذين ظنوا أن الفاعل في الآية هو (الظالمون)، والصحيح أن (العهد) هو الفاعل، وقوله:(الظالمين) مفعول به، والمعنى: لا يشمل عهدي واستخلافي الظالمين.
وهذا التعبير شائع عند العرب، فيقولون: هذا ناله خيرٌ، وذاك ناله ظلمٌ.
وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (الأعراف: 152)، والمعنى: سينال غضب الله الظالمين، ومثله في قوله تعالى:
(1) شرح شافية ابن الحاجب، الأستراباذي (4/ 356).
{أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} (الأعراف: 37)، فالفاعل في الجملة (نصيب)، كما الفاعل في الآية السابقة (غضب)، وفي الآية التي استشكلوها (عهدي)، ولم تظهر عليها علامة الرفع لتعذره بسبب إضافتها إلى ضمير المتكلم (الياء)، إذ يتعذر النطق بـ (عهدُي)، فتبين جهل القائلين بهذه الأبطولة، أو بالأحرى عجزهم عن الإتيان بغلط في القرآن يوافقهم عليه البلغاء والعقلاء.
المسألة الثالثة: عطف المنصوب على المرفوع
قالوا: العرب تعطف مرفوعاً على مرفوع، ومنصوباً على منصوب، في حين أن القرآن عطف على المرفوع منصوباً في قوله:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 162)، فقالوا: يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع، فيقول:(والمقيمون الصلاة) بدلاً من نصبه في قوله: {وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ، لأنها معطوفة على مرفوع {وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ} وقوله:{الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} .
والجواب: أن الواو في قوله {وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ليست واو العطف، بل واو معترضة، وما بعدها منصوب على الاختصاص بالمدح، أي: وأمدح المقيمين الصلاة، وفي هذا مزيد عناية بهم عن المذكورين في الآية، فـ {المُقِيمِينَ} منصوبة على المدح، كما قال إمام اللغة سيبويه (1).
ومثله قوله تعالى في آية أخرى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّراء} (البقرة: 177)، فلم يقل:(والصابرون) وقد سبقها: {الْمُوفُونَ} ، والتقدير: وأخص بالمدح الصابرين في البأساء.
ونصب {المُقِيمِينَ} خلافاً لنسق ما قبله وما بعده؛ وهي طريقة في الإنشاء
(1) انظر: الكشاف، الزمخشري (1/ 296).
تفعله العرب لفتاً لنظر القارئ أو السامع إلى أهمية ما بعده وخصوصيته، وتفعله بقصد المدح كما في هذه الآية، أو بقصد الذم كما في قوله تعالى:{وامرأتُه حمالةَ الحطب} (المسد: 4)، أي أعني حمالة الحطب، فنصب {حمالةَ} على الاختصاص بالذم.
والنصب على الاختصاص سائغ ومعروف في كلام العرب، ولم يستنكره إلا أعاجم العربية اليوم، وقد كثر في أشعار العرب وآدابها، ومنه قول الخِرنقُ بنتُ بدر بن هَفَان وهي ترثي زوجها بشر بن عمرو الضبعي:
لا يبعدن قومي الذين هم
…
سمُّ العداة وآفةُ الجُزْر
النازلين بكل معترَك
…
والطيبون معاقد الأُزْرِ (1)
فقولها: (النازلين) منصوب على الاختصاص، وليس صفة أو معطوفاً على:(سمُّ العداة) و (آفةُ الجزر).
ومثله قول أميةَ بن أبي عائذ:
وَيَأوي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ
…
وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
فنصب «شُعْثاً» على الاختصاص، مع أنه معطوف على مجرور.
وهكذا فالقرآن الكريم نصب قوله تعالى: {والمُقِيمِينَ} على الاختصاص، والواو هي واو الاعتراض؛ لا العطف.
المسألة الرابعة: عطف المرفوع على منصوب في قوله {وَالصَّابِئُونَ}
قالوا: المعطوف على المنصوب حقه في لغة العرب النصب، والقرآن رفعه مخالفاً قواعد العربية في قوله:{إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} (المائدة: 69)، والصحيح - حسب حذلقتهم - أن ينصب المعطوف على اسم إنَّ، فيقول:(والصابئين) كما في سورة البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
(1) معجم القواعد العربية، الدقر (25/ 104).
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله} (البقرة: 62)، وسورة الحج:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} (الحج: 17).
والجواب: أن الواو في الآيتين الأخيرتين للعطف، والمعطوف على المنصوب منصوب، بينما الأمر مختلف في قوله:{إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} ، فالواو فيه استئنافية، وليست للعطف على الجملة الأولى.
وقوله: {وَالصَّابِئُونَ} مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، قال سيبويه والخليل: "الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا
…
والصابئون كذلك"، ومثّل له سيبويه بقول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
…
بغاة ما بقينا في شقاق (1)
ومثله قول ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلُه
…
فإني وقيَّارٌ بها لغريب (2)
فرفع الشاعر اسم فرسه (قيار)، وهو فيما يظهر معطوف على منصوب (ياء المتكلم في قوله: فإني)، فرفع الشاعر (قيار) على الابتداء، والمعنى: إني غريب، وقيار كذلك غريب، ومثله سواء بسواء رفع {الصَّابِئُونَ} في الآية المستشكلة.
لكن يشكل على هذا التخريج ما أورده أبو عبيد في "فضائل القرآن" من خبر يرويه أبو معاوية الضرير من طريق هشام بن عروة بسنده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: (يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب)(3)، فهذا الخبر لا يصح سنداً، وهو منكر متناً.
فأما ضعف إسناده فسببه أبو معاوية الضرير، قال عنه المزي: "روى أبو
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (6/ 246).
(2)
انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (50 - 52)، والمدخل لدراسة القرآن العظيم، محمد محمد أبو شهبة، ص (336).
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ح (469).
معاوية عن عبيد الله بن عمر أحاديث مناكير .. قال ابن خراش: صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب" (1).
وأما الذهبي في ميزان الاعتدال فنقل عن الإمام أحمد قوله عنه: "هو في غير الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظاً جيداً، علي بن مسهر أحب إلي منه في الحديث".
ثم قال الذهبي: "وقد اشتهر عنه الغلو، أي غلو التشيع"(2).
وقال أبو داود: "أبو معاوية إذا جاز حديث الأعمش كثر خطؤه، يخطئ على هشام بن عروة، وعلي بن إسماعيل، وعلى عبد الله بن عمر"(3)، وهذا الأثر يرويه أبو معاوية عن هشام، فروايته مما يظن فيه الاضطراب.
وأعلَّ يعقوبُ بن شيبة أبا معاوية بعلة أخرى هي التدليس، فقال عنه:"ثقة ربما دلس، وكان يرى الإرجاء"(4)، ومن المعلوم في قواعد الرواية أن المدلس يقبل حديثه إذا صرح بالتحديث [أي قال: حدثني فلان]، ويتوقف فيه إذا عنعنه [أي قال: عن فلان]، وقد عنعن أبو معاوية في هذه الرواية، وهو ينقلها عن هشام بن عروة.
فهذه العلل ظلمات بعضها فوق بعض، وكلها تضعف الرواية من جهة إسنادها، ولا تشفع لها ولا تقويها رواية ابن شبة (5) التي يرويها عن أحمد بن إبراهيم الموصلي عن علي بن مسهر، لضعف الموصلي أحمد بن إبراهيم، فقد وصفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين بأنه "لا بأس به"، وهي عند علماء الجرح لا تفيد توثيقاً
(1) تهذيب الكمال، المزي (25/ 124).
(2)
ميزان الاعتدال، الذهبي (4/ 575).
(3)
سؤالات الآجري (1/ 147).
(4)
ميزان الاعتدال، الذهبي (4/ 575).
(5)
تاريخ المدينة المنورة، ابن شبة (3/ 1013).
لروايته، كما لا تفيد جرحاً.
وأما شيخه في هذه الرواية، ابن مسهر فقال عنه ابن حجر:"قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد أن أضر"(1)، فمن كان هذا حاله ترد عليه غرائبه، وتطوى ولا تُروى.
ولو فرض المحقق صحة الإسناد فإن في المتن ما يقتضي رده، إذ ينسب إلى عائشة رضي الله عنها جهلها بما ذكرناه من أوجه الإعراب التي لا تخفى على العرب زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن ذلك الإمام أبو عمرو الداني حين أعل الرواية لأنها جعلت "أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها؛ لحَّنت الصحابة وخطّأت الكتبة، وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة، وموضعهم الذي لا يُجهل ولا يُنكر، هذا لا يسوغ ولا يجوز.
وقد تأوّل بعض علمائنا قول أم المؤمنين: (أخطؤوا في الكتاب) أي"أخطؤوا في اختيار الأَولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا أن الذين كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز، لأن ما لا يجوز مردود بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه وعظم قدر موقعه، وتأوّل اللحن أنه القراءة واللغة"(2).
وأكد على هذا المعنى الزمخشري: "ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وغُبِّي عليه [أي خفي عليه] أن السابقين الأولين - الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل - كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذَبِّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم"(3).
(1) تقريب التهذيب، ابن حجر، ص (405).
(2)
المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمر الداني، ص (45).
(3)
الكشاف، الزمخشري (1/ 296).
المسألة الخامسة: الجمع بين فاعِلَين في الجملة
قالوا: العرب لا تأتي بضمير فاعل مع وجود الفاعل (اسم ظاهر)، حتى لا يكون في الجملة فاعِلَيْن، بينما القرآن جعل للفعل فاعِلَيْن في قوله:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الذِينَ ظَلَمُوا} ، ورأى المتحذلقون من أعاجم العرب أن الأولى أن يقول:(وأسر النجوى الذين ظلموا)، أي حذف ضمير الفاعل (الواو) في {أسرّوا} لوجود الفاعل ظاهراً وهو قوله:{الذين} .
الجواب: سبقت الإشارة إليه في مقدمة هذا المبحث، فهذا الأسلوب جائز على لغة طيء وأزد شنوءة، وهم من العرب الفصحاء، ويضرب اليوم لهذه اللغة مثلاً، وهو قولهم لغة (أكلوني البراغيث).
والعرب تعرف هذا في آدابها وأشعارها (1)، كما قال الشاعر:
نصروك قومي فاعتززتَ بنصرهم
…
ولو أنهم خذلوك كنتَ ذليلا
فقد ألحق الشاعر الواو بالفعل في قوله: (نصروك)، مع أن الفعل مسند إلى فاعل ظاهر بعده، وهو قوله:(قومي).
ومنه قول عبد الله بن قيس في رثاء مصعب بن الزبير:
تولى قتال المارقين بنفسه
…
وقد أسلماه مبعدٌ وحميم
فقد وصل الشاعر ألف التثنية بالفعل؛ مع أن الفاعل اسم ظاهر (مبعد)، وكان القياس على القاعدة أن يقول:(وقد أسلمه مبعد وحميم).
ومنه قول الشاعر:
فأدركنه خالاتُه فخذلنه ألا
…
إن عرق السوء لا بد مدرِك
فألحق نون النسوة بالفعل في قوله: (فأدركنه)، مع وجود اسم الفاعل ظاهراً (خالاتُه).
(1) انظر الشواهد الشعرية الآتية وغيرها في شرح ابن عقيل (1/ 199).
وقد تكرر مثل هذا النسق الإعرابي في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، منها قوله تعالى:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} (المائدة: 71)، فقد ألحق علامة جمع الذكور (الواو) بالفعل في قوله:{عَمُوا وَصَمُّوا} مع أن هذا الفعل مسند إلى فاعل ظاهر بعده، وهو قوله:{كَثِيرٌ} ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» (1).
فهل تراه بقي لطاعن ما يتكلم به وقد عرف أصالته في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
المسألة السادسة: رفع الفعل المضارع بعد (حتى)
قالوا: أخطأ القرآن حين رفع الفعل المضارع بعد (حتى) في قراءة ورش {حَتَّى يَقُولُ والرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (البقرة: 214)، ورأوا أنه لا يصح فيها إلا الفتح، وهو الوجه المشهور عند بقية القراء.
والجواب: إن (حتى) من أعجب كلام العرب لكثرة صور إعرابها، وما تدل عليه في استعمالاتها، فمنها ما هو للعطف، ومنها ما هو للابتداء، ومنها ما هو لغير ذلك، ولكثرة معانيها واستخداماتها في لغة العرب قال أبو زكريا الفراء:"أموت وفي نفسي شيء من حتى"(2).
وللفعل المضارع بعد (حتى) ثلاث حالات:
1 -
الفعل المضارع الدال على الاستقبال، ويتعين نصبه، كقوله تعالى:{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} (الحجرات: 9).
2 -
المضارع الدال على الحال، ويتعين رفعه، ومثَّل العرب له بقولهم:"شربتِ الإبل حتى يجيءُ البعير يجر بطنه".
(1) أخرجه البخاري ح (555)، ومسلم ح (632).
(2)
تاج العروس، الزبيدي (1/ 537).
3 -
المضارع الدال على الماضي في معناه، ويجوز فيه الوجهان: الرفع والنصب، فأما الرفع فلكونه ماض في معناه، وأما النصب لكونه صيغة مستقبل، وقد جمعها الراجز (1) بقوله:
تلخيص مسألة حتى يا فتى
…
رفعك حالاً بعدها إذا أتى
ونصب ما استقبل والوجهان
…
في ما مضى معنى فخذ بياني
كشربت حتى تجيئُ الإبل
…
وما تلا (فقاتلوا)(وزلزلوا)
وعليه فيجوز الوجهان (الرفع والنصب) في قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (البقرة: 214)، لأنه ماض في معناه (2).
وهكذا تبين جهل القائلين بوجود اللحن في القرآن، وتسرعهم في الطعن عليه من غير حجة ولا بينة (3).
المسألة السابعة: هل أدخل القرآن التنوين على الفعل؟
قالوا: القرآن أدخل التنوين على الفعل، والعرب لا تدخله إلا على الاسم، وذلك في قوله:{لنسفعاً بالناصية} (العلق: 15) وقوله: {ليكوناً من الصاغرين} (الأعراف: 13)، واستدلوا لقولهم بكتابتهما في المصحف - وفقاً للرسم العثماني - بالتنوين (لنسفعاً، ليكوناً).
الجواب: التنوين هو نون ساكنة من حيث نطقه (كتابٌ، كتاباً، كتابٍ)، فإنها تنطق في أحوالها الثلاثة (كتابنْ)، وما ألحق بالفعلين في الآيتين الكريمتين نون ساكنة؛ وهي نون التوكيد المخففة، وتنطق (لنسفعنْ، ليكوننْ).
وهنا يثور سؤال عن سبب كتابة الصحابة لهذين الموضعين (لنسفعاً، ليكوناً) بالتنوين (الذي ينطق نوناً ساكنة) بدلاً من النون الساكنة.
وفي الجواب نقول بأن العرب إذا أرادت الوقوف على بعض الحروف فإنها تغير الحرف الذي تقف عليه، ليقرأ على غير حالة التحريك، ومن أمثاله التاء المربوطة التي تنطق تاء عند الوصل (القيامة، الجنة)، وهاء عند الوقف (القيامه، الجنه).
ومثله نون التوكيد المخففة، فإن العرب إذا أرادوا الوقف عليها وقفوا بالألف؛ كما في تنوين النصب، ولأجل ذلك كتب الصحابة هذين الموضعين لنون التوكيد المخففة (تنويناً)، لأننا ننطقها (نوناً ساكنة) عند الوصل، و (ألفاً) عند الوقف، كما في تنوين الفتحتين سواء بسواء.
وقد أجمع قراء القرآن على الوقوف على هاتين الكلمتين بالألف (لنسفعا)(ليكونا)، قال ابن الأنباري عن النون المخففة: «تتغير في الوقف، ويُقَفُ عليها بالألف. قال تعالى:{لنسفعاً بالناصية} وقال تعالى: {ليسجنن وليكوناً من الصاغرين} أجمع القراء على أن الوقف فيهما بألف لا غير.
وقال الشاعر: يحسبه الجاهل ما لم يعلما» (4).
وإذا أردنا التدليل على أصالة ما ننسبه إلى العرب من الوقوف على النون الساكنة بالألف - كالتنوين -؛ فإن شواهده في شعرهم كثيرة، ونبدأ بالبيت الذي ذكره ابن الأنباري من شعر ابن الأعرابي:
يَحسبه الجاهلُ ما لم يَعلما
…
شيخاً على كُرسيَه مُعمَّما
فقوله: (يعلما)، أصلها نون ساكنة (يعلمنْ)، وكتبت بالألف كما تنطق حال الوقف.
ومن شواهد هذا الصنيع عند العرب قول ميمون بن قيس الأعشى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
فإياك والميتاتِ لا تأكلَنَّها
…
ولا تأخذنْ سهما حديدا لتفصِدا
وذا النُّصُبِ المنصوبَ لا تَنْسُكَنَّه
…
ولا تعبُدِ الأَوثانَ واللهَ فاعبُدَا
وصلِّ على حين العشيات والضحى
…
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تقربنّ جارة إنَّ سرَّها
…
عليك حرام فانكحن أو تابدا (5)
وفيه أربعة شواهد (لتصفدا، فاعبدا، فاحمدا، تأبدا)، فهذه الكلمات الأربع تنتهي بنون ساكنة، وهي تكتب ألفاً كما تنطق عند الوقوف عليها؛ كما الحال في تنوين النصب، ولأجله كتبت في هذه المواضع بالألف، كما في الآيتين الكريمتين.
قال ابن منظور: «أَراد (فاعبدنْ)، فوقف بالأَلف كما تقول: رأَيت زيداً» (6).
وقال الثعالبي: «إنه أراد (والله فاعبدنْ)، فقلب النون الخفيفة ألفاً، وكذلك في قوله عزّوجلّ: {ألقيا في جَهَنَّمَ}» (7).
ومثله في شعر العرب قول الشاعر:
أقصِرْ فلستَ بمُقْصِرٍ جُزْتَ المدَى
…
وبلغتَ حيثُ النَّجمُ تحتَكَ فارْبَعا
فقوله: (فاربعا) كتبت بالألف كحالها عند الوقف عليها، وهي في الأصل (فاربعنْ)، ولو وصلت بما بعدها لقرأت بالنون الساكنة (فاربعنْ).
وأيضاً مثله قول امرئ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حَبيبٍ ومنزلِ
…
بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخولِ فحومَلِ
قال أبو الحسن المجاشعي: «أراد (قفنْ)؛ لأنه يخاطب واحداً بدلالة قوله في آخر القصيدة:
أحار ترى برقاً أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبي مكلل».
وكذلك قال أبو عكرمة الضبي: «أراد (قفن)، فأبدل الألف من النون الخفيفة» (8).
(1) عبد الودود الشنقيطي في تعليقه على كتاب "الجامع بين التسهيل والخلاصة" للمختار بن بونا.
(2)
انظر: دراسات لأسلوب القرآن، محمد عبد الخالق عضيمة (2/ 143).
(3)
للاطلاع على المزيد من الردود على الشبهات المتعلقة بالنحو وغيره أدعو القارئ لمراجعة الموسوعة القيمة التي أعدتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مصر بإشراف الدكتور محمود حمدي زقزوق.
(4)
الإنصاف في مسائل الخلاف (2/ 653)، حين أراد النحوي اللغوي ابن الأنباري الاستشهاد للقاعدة لم يجد لها شاهداً أفضل من القرآن الكريم، فبدأ به، وثنَّى بشاهد من أشعار العرب، فالقرآن ذروة ما قرأه العربي، وبه يحتج لصحة أسلوبه وسلامة لغته.
(5)
أي كن عزباً.
(6)
لسان العرب (1/ 758)، وانظر الصحاح للجوهري (6/ 2211)، وشرح شذور الذهب (1/ 207).
(7)
فقه اللغة، الثعالبي، ص (214).
(8)
النكت في القرآن الكريم، ص (458)، وتاج العروس (40/ 364).